هل نحتاج لهزائم ونكسات على غرار هزيمة ٦٧، أو تعثرات في مسار الفترات الانتقالية مثل، ما شهدناه بعد ٢٠١١، أو أزمات وطنية شاملة- وفق ما نشهده الآن؛ لنقوم بعمليات المراجعة الوطنية لمجمل القواعد التي قامت عليها الدولة، وتأسس عليها المجتمع، والمسلمات التي تحكم نظرتنا لأنفسنا والعالم المحيط بنا؟
صحيح أن الهزائم والتعثرات والمآزق الوطنية أحد شروط البدء في المراجعات، لكن السؤال الأهم لماذا لا نمارس عمليات المراجعة بشكل دائم ومستمر؟ ولماذا لا نتجنب الهزائم والنكسات والأزمات بالمراجعة؟ والنون هنا عائدة على الدولة، والمجتمع والنخب والتنظيمات والكيانات.
أسئلة أخرى: لماذا لا يراكم المصريون ولا يتعلمون من أخطائهم التاريخية، أو حتى الأزمات التي تمر بهم، وبالتالي تصبح قدرتهم محدودة على المراجعة ونقد الذات؟ وهل بات قدرنا أن نكون في دورة تاريخية؛ لإعادة إنتاج النكسات والأزمات، والمآزق الوطنية العامة دون هوادة ولا توقف؟
قدر لكاتب هذه السطور – وقد قارب عمره على الستين- أن يشهد أحداثا كبرى، كان يجب التوقف أمامها طويلا.
دخلت الجامعة أوائل الثمانينيات- بعد مقتل السادات أكتوبر ١٩٨١- مع بداية نظام سياسي جديد، اندفع في مراجعة بعض السياسات، واتخاذ بعض القرارات التي تحرره من الصورة التي رسمها سلفه. أطلق سراح المعتقلين السياسيين الذين قبض عليهم في سبتمبر ١٩٨١، وعقد مؤتمرا اقتصاديا، ضم نخبة مصر المميزين في هذا المجال …إلخ. النتيجة النهائية تكاد تكون محدودة؛ فلا الاقتصاد تغير، ولا السياسة اختلفت طبيعتها، ولا نزال في أزمات متوالية في هذين المجالين حتى الآن.
وكانت الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لما يقرب من عقد من السنين (١٩٨٠-١٩٨٨)، وحرب الخليج الثانية ١٩٩١، ثم غزو العراق ٢٠٠٣، مرورا بالانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة التي اندلعت أولاها- انتفاضة الحجارة- ١٩٨٧، ولا تزال حلقاتها مستمرة، منذ ذلك التاريخ حتى الآن.
شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة ١٩٩١/ ١٩٩٠، وانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام الدولي، وتفجير برجي التجارة في سبتمبر ٢٠٠١، وإعلان “الحرب على الارهاب” التي شهدنا تحت ظلال صواريخها وقنابلها؛ غزو أفغانستان ٢٠٠١، والعراق ٢٠٠٣، ودعاوى الشرق الأوسط الكبير أو الجديد- كما صاغته كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي، ووزيرة الخارجية في إدارة بوش الابن.
من محاسن الأقدار، أن كاتب هذه السطور وقد شهد بداية هذه التطورات الكبرى؛ فإنه يشهد الآن نهاياتها أو للدقة تحولاتها، ولنضرب ثلاثة أمثلة على ذلك:
أولا: انتفاضة يناير ٢٠١١، ونهاية دولة يوليو ٥٢: قدر لجيلنا أن يشهد بقايا من ظلال دولة يوليو، تعلم في مدارسها وجامعاتها، ولكنه لم يعمل في مؤسساتها؛ لأنه وعند تخرجه منتصف الثمانينيات بدأ يشهد تحولا -وإن كان بطيئا- بسبب طبيعة مبارك (١٩٨١-٢٠١١)، الحذرة عن العقد الاجتماعي لدولة يوليو الذي قام على الضمان الاجتماعي لعموم المصريين مقابل تخليهم عن الحريات.
انتهى العقد الأخير من حكم مبارك على صراع بين تصورين لأدوار الدولة المصرية: الأول، تمثله لجنة السياسات بقيادة نجل الرئيس، يقوم أساسا على فكرة السوق الذي يقوده القطاع الخاص الكبير، والثاني، يقوم أيضا على فكرة السوق، ولكن الذي تتحكم فيه المؤسسات التي يطلق عليها سيادية، وهي بالمناسبة تسمية عجيبة، لم نتعلمها في العلوم السياسية أبدًا؛ فما استقرت عليه، هو أن السيادة للشعب حتى في ظل النظم السلطوية.
كانت انتفاضة يناير نتاج هذا الشقاق الذي امتد من داخل هياكل الدولة إلى المجتمع، والسياسة والجدال الفكري والثقافي. ولكنها كانت أيضا إعلان عن أن الصيغ التي حكمت تفكيرنا في السياسة، والاقتصاد والثقافة على مدار العقود الماضية قد انتهت.
احتجت يناير على القديم؛ ولكنها عجزت عن أن تبلور الجديد. تتبعت هذا المأزق بكثير من التفصيل في كتابي الأول الذي صدر بعد السجن (٢٠١٥-٢٠١٩)، “سردية الربيع العربي، ورهانات الواقع” – نشرته دار المرايا في ٢٠٢١.
تظل “الجمهورية الجديدة” برغم ما يبدو من تحررها الكامل من العقد الاجتماعي لدولة يوليو، حبيسة المشكل الذي وقع فيه مبارك في عقده الأخير؛ فهي على المستوى الواقعي لم تحسم خيارها لأي التصورين ستنحاز، اقتصاد سوق يقوده القطاع الحاص الكبير بامتداداته الإقليمية والدولية، أم اقتصاد سوق تقوده مؤسسات الدولة بشبكات امتيازاتها المحلية والإقليمية، وربما نظل عالقين بين هذين التصورين لسنين قادمة، ولا أدري إن استطاعت الانتخابات الرئاسية المقرر بدئها آواخر هذا العام قادرة على الحسم بينهما أم لا؟
أنتجت دولة يوليو التيارات السياسية والفكرية على شاكلتها؛ فهي وإن توزعت على أيديولوجيات أربع: قومي وإسلامي ويساري وليبرالي؛ إلا إنها وباستثناءات قليلة [بالمناسبة كانت يناير تعبيرا عن هذه الاستثناءات]، كانت من طبيعة واحدة -وإن اختلفت الرطانات الخطابية التي استخدمتها.
استهدفت هذه التيارات، أن تحتل الدولة بتصوراتها الأيديولوجية بغية تحقيق برامجها السياسية. ثبت خطأ هذا التصور؛ فقد ابتلعت الدولة الإخوان -الفصيل الأكبر تنظيميا في فترة حكمهم القصيرة ٢٠١٣/٢٠١٢، بدلا من أن يبتلعونها، كما أنهم ظلوا جميعا حبيسي الإشكالات التي أنتجها القرن العشرين، ولم يستطيعوا أن يقدموا لنا تجديدا فكريا وسياسيا، يناسب القرن الواحد والعشرين.
تبقي نقطة أخيرة؛ ناقشتها بالتفصيل في كتابي الصادر عن دار المرايا ٢٠٢٣، “لمن السياسة في مصر اليوم؟”، وهي: أن سياسات وقوانين وقرارات الدولة لم تعد تصدر عن هياكل متماسكة. لا يمكن فهم سلوك الدولة إلا باستخدام مفهوم الشبكات التي تتضمن عقدا تميزها، وتجمع تفاعلاتها. هذه العقد قد تكون داخل مؤسسات الدولة، أو خارجها في المصالح المحلية والإقليمية والدولية.
ثانيا: النظام الدولي: جيلي عاش فيه نمطان، ويشهد الآن بداية نمط ثالث: قطبية ثنائية، وقطب واحد وحيد على قمته، وأخيرا وليس آخرا؛ بداية تبلور تعددية، أو ثنائية قطبية أو فوضى- الله أعلم.
تعددت الأشكال، ولكن قدر لأبناء المنطقة أن يدفعوا أثمانًا باهظة مع كل تحول يشهده هيكل القوة في النظام الدولي، وللأسف لم يتغير موقعهم التابع فيه على الرغم من تحولاته المستمرة، والأهم من وجهة نظري هو: مدى استفادة شرائح اجتماعية من هذه التحولات على عيشها الكريم.
ما يهمنا في هذه النقطة، ومن مدخل المراجعات هو: قدرة النخب الفكرية والسياسية في الدولة، وخارجها على تجديد فهمها؛ لتحولات النظام الدولي عبر مفاهيم جديدة، واقترابات مستحدثة ومناظير غير مسبوقة.
إن من يطالع الجدل المثار هذه الأيام عن انضمام مصر للبريكس، يلحظ استمرار قطاع معتبر من النخب المصرية استحضار خطاب التحرر الوطني- كما جرت صياغته في الخمسينيات والستينيات،وتصوير الأمر كأنه تحرر من الهيمنة الغربية، ومن تغول الدولار في الاقتصاد.
فكر مأزوم لا ينتج إلا أزمات متوالية
أتابع باستمرار خطاب النخبة الأمريكية- كما أجده في مجلة الفورن أفيرز – فأجد حوارا عميقا عن تحولات النظام الدولي، وموقع القوى الصاعدة فيه، وكيفية إدارة العلاقة، خاصة التجارية مع الصين، ليس وفق منطق الثنائية القطبية القديم الذي قام على الصراع فقط، ولكن إدراكا لحجم التداخل بين الاقتصادين، وتأثير حدود المنافسة على الاقتصاد العالمي المعولم…إلخ.
يضاف إلى ذلك، موقع القضايا العالمية كالتغير المناخي، وشيوع الأوبئة وهيكل السكان من التنافس، أو الأدق التعاون الدولي المطلوب فيها. في العلاقة بين أمريكا والصين؛ هناك قضايا محل تنافس مثل، التكنولوجيا المتقدمة، ومناطق محل صراع مثل، المحيط الهادي وتايوان، ومجالات تستدعي التعاون مثل، التغير المناخي، وهو ما سيلقي بظلاله على طبيعة النظام الدولي الذي لم يعد يحكمه الصراع، كما في الثنائية القطبية وإنما “إدارة التنافس”.
مشهد مختلف هل يستدعي من دولنا التحوط في التعامل معه بدلا من الانحياز لأحد أطرافه وقواه؟- أظن أن هذا ما تقوم به بعض الدول العربية- كما ظهر في البريكس التي هي في حقيقتها، ليس استبدال الصين وروسيا بأمريكا والغرب؛ ولكن تنوع وتحوط في العلاقات الدولية التي تشهد تحولا في هيكل القوة فيها.
ثالثا: أوضاع إقليمية سائلة، كان كتاب “النظام الإقليمي العربي” للدكتور علي الدين هلال والأستاذ جميل مطر من أوائل ما درسناه في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ١٩٨٢.
نحن هنا نتكلم عن تفاعلات بين الدول العربية المختلفة، تولد شكلا من أشكال النظام فيما بينها، ووحدة تسمح لها بالتفاعل بينها، وبين دول الأركان -إيران وتركيا، ويجمعها العداء لعدو مشترك، هو الكيان الصهيوني.
في هذا التصور، تشيع مفاهيم مختلفة- بغض النظر عن حقيقتها في الواقع، أم كانت مجرد خيالات- من قبيل: المصير العربي المشترك، والوحدة العربية والمصالح العربية الواحدة، مع اتفاق وتحديد للعدو؛ لذا فقد كانت قضية فلسطين قضية العرب المركزية.
هل لا تزال هذه التصورات تحكم واقع العرب اليوم؟
الواقع الآن على خلاف ذلك تماما؛ فقد يجمع قطاعات من الشعوب العربية [أرجو أن تلحظ عزيزي القارئ لفظ التبعيض الذي استخدمه، وليس كما سبق لفظ العرب الجامع للجميع] مشاعر مشتركة، وتطلع لقيم واحدة، لكن الدول العربية جميعا صارت في سياستها تصدر عن مفهوم الدولة الوطنية، ويشهد كثير منها- خاصة في دول الخليج- تجديد في مكونات هذه الهوية مع إحياء لها، وقد انعكس ذلك على سياساتها في التعامل مع القوى الدولية، وغير كثيرا من نظرتها في علاقتها مع “الأشقاء العرب”. سياسة السعودية النفطية، وتحولها عن المعونات إلى الاستثمار، والتطبيع المتسع بين الدول العربية، ورفض شعوبها لذلك مجرد أمثلة على ما نقول.
ملمح آخر: الدول لم تعد وحدها الفاعلة في الإقليم؛ بل أضيف إليها كثير من الفواعل، ما فوق الدولة، وما دونها، وهو ما أربك الدولة العربية التي لم تعتد أن تتعامل مع هكذا قوى.
وأخيرا وليس آخرا؛ فلم تعد إيران وتركيا من دول الأركان، بل تداخلت أكثر مما ينبغي، في ومع شعوب ودول المنطقة، مما غير من طبيعة النظام الإقليمي العربي تماما.
مراكز الثقل في المنطقة اختلفت، ونحن لا نزال حبيسي تصورات تجاوزها الزمن حول “الشقيقة الكبرى” ودور مصر المركزي، ودول الخليج الصغيرة التي لا تملك غير الوفورات المالية فقط.
ناقشت ذلك بالتفصيل في مقالات ثلاثة على هذا الموقع ضمها عنوان: “حُمى الاستحواذات والزمن الخليجي“. هذه مجرد أمثلة على السياقات المتحولة -وطنيا وإقليميًا ودوليا- الحاضة على المراجعة، وتحوي صفحتي على موقع مصر ٣٦٠، كثيرا من المقالات التي تعرض لقضايا المراجعة الأخرى، لكن يظل السؤال قائما: ما هي متطلبات المراجعة؟ وكيف نضمن لها تأثيرا على القواعد والسياسات والقرارات؟
شروط المراجعة الخمسة
١- استشعار نفسي، وقيمي يشيع في المجال العام، يدفع للمراجعة الوطنية، دون وجل ولا خوف، ولن يتحقق ذلك، إلا بتجاوز مناخ الاستقطاب الذي يقوم بتوظيف هذه المراجعات في عمليات دعائية، أقل ما يقال عنها أنها رديئة.
تعلمت من خلال تصميم عملية للنقد الذاتي للكيانات السياسية المصرية بعد ٢٠١٣، أن إطلاق هكذا عملية من شأنه، أن يسترد الثقة في الكيان من أعضائه أولا، ومن مناصريه ومؤيديه.
نحن نحتاج أن نسترد الثقة المفقودة لدى عموم المصريين في مؤسسات الدولة، وتنظيمات السياسة، ونخب الفكر والثقافة، ودون ذلك ستظل مصر “دولة منهكة”.
٢- إطلاق حالة حوار حقيقة. أنا أدرك أن كلمة الحوار قد ابتُذِلت من الجميع في أعقاب الفترة الانتقالية التي انطلقت بعد ٢٠١١، ولن يكون آخرها الحوار الوطني الذي بدأت الدعوة له في إبريل ٢٠٢٢، ولم تنته وقائعه حتى كتابة هذه السطور، ولكني أعلم أيضا بحكم تخصصي، وممارستي لتصميم عمليات الوساطة والحوار، أن هذه ليست حوارات، وإنما توظيفات سياسية رديئة لعملية لها شروطها، ومتطلباتها التي لم يحرص أحد على توفيرها، وأعلم أيضا أنه، دون بناء حد أدنى من التوافقات، فإن هذا الوطن لن يبرح مكانه متدثرا في أزماته.
السكون وعدم الحركة مدعاة للموت؛ لأن العالم- كما قدمت- يتغير ويشهد تحولات عميقة، استدعت أن تكون الكلمة المفتاحية فيه الآن “عدم اليقين”.
٣- إعادة صياغة الأسئلة والإشكالات المرتبطة بها، والتحرر من القديم منها. يستدعي ذلك أمرين بالغي الأهمية:
أ- الانطلاق من الواقع والوقائع لا من التصورات الفكرية عنه.
ساد تفكيرنا لعقود الثنائيات المتعارضة، نحن والغرب، الإسلامية والعلمانية، القطاع العام والخاص، الأصالة والمعاصرة …إلخ. هذه الثنائيات سيطرت على تفكيرنا على مدار القرن العشرين بأكمله، ولم نلحظ مساحات التداخل، والامتزاج بين هذه الثنائيات جميعا: نحن نعيش في الغرب والغرب يعيش فينا، والإسلامية والعلمانية في الواقع يختلطان؛ فقانون الأحوال الشخصية -مثالا- مرجعيته الشريعة، وتقره مؤسسة مدنية هي البرلمان، ويحكم به قضاة تلقوا تعليما وتدريبا مدنيا، وفي أعتى الرأسماليات الغربية لا تزال الدولة تقدم دعما لمواطنيها، وبعض الصناعات فيها. تقدم إدارة بايدن مساعدة تصل إلى خمسة آلاف دولار، لكل سيارة كهربائية تنتجها شركة فورد، وغيرها من الشركات في إطار ما يطلق عليه “السياسة الصناعية الجديدة”… وهكذا في كل مجال لم تعد الثنائيات المتعارضة هي ما يحكم الواقع.
ب- لا بد أن ترتبط الأسئلة والإشكالات باحتياجات الناس العادية، لا متطلبات الدولة والسلطة فقط، أو قيود الايديولوجيا.
من يتتبع مقالاتي على هذا الموقع، يجد عددا من القضايا التي تستحق المراجعة، وهي تتنوع بين قضايا تخص الدولة المصرية، والتداخل فيها بين القيادة، والنظام والدولة، وموقع الديني فيها، إلى قضايا تتعلق بتجديد فهمنا للسياسة المحلية، أو الوطنية واللا طبقية، بالإضافة إلى إعادة التفكير في المفاهيم -مثل الاستقرار- التي تحكمت في النموذج الذي أنتج سياسات الجمهورية الجديدة بعد ٢٠١٣، والذي تحول إلى عبء عليها في الداخل والخارج.
يتحتم علينا، أن نقوم بالمراجعة من خلال فهم أولويات الناس، ودمجها في السياسات العامة. دون ذلك فلن يتفاعل المصريون مع السلطة، ولا المعارضة. السياسة التشاركية هي ما نحتاجه، لنستطيع أن نعبر جميعا مأزقنا الوطني العام.
٤- مؤسسات ونخب قادرة على أن تسهم في هذا التجديد، بما تملكه من خبرات، ومهارات وانفتاح على العالم، وقدرة على ترجمة التصورات والرؤى إلى برامج وسياسات.
أحب أن ألفت النظر في هذه النقطة، إلى ما يمكن أن تساهم فيه “الدياسبورا المصرية” من دور في هذه المهمة. المصريون المهاجرون تغيرت وجهتهم- خاصة الفئات الأكثر تعليما- نحو العالم المتقدم. راكموا من الخبرات والمهارات، ما فاق كثيرا نظراءهم في الواقع المصري المأزوم. أتابع بعض إنتاجهم في حقل العلوم الاجتماعية؛ فأجد شبابا نابها جديدا، يدرس موضوعات جديدة بمناهج، وأدوات بحثية جديدة، وهو جزء من حركة العلم في مجاله غير منفصل عنها أو متوجس منها، بل مشارك فيها، والأهم أن هموم وطنه، لا تزال من شواغله. صحيح أن التشبيك بينهم مفقود، وكتاباتهم لم تنقل إلى العربية بعد، بما يقلل الاستفادة من أدبياتهم، لكنهم من أهم الروافد- فيما أظن- لحركة المراجعة الوطنية الملحة.
٥- وجود هياكل سياسية قادرة على الاستفادة من هذه المراجعات بتحويلها إلى سياسات وبرامج.
مما ميز مصر، وكثيرا من بلدان المنطقة، أن هناك اشتعال للجدل العام في كل الموضوعات والقضايا، وزادته أدوات السوشيال ميديا التهابا، لكنه في النهاية جدل عقيم، لا تأثير له في الواقع المعاش، والسبب هو ضعف الهياكل السياسية، وزاد الطين بلة؛ تصحير السياسة على مدار العقد الماضي، لذا فإنه بدون استعادة السياسة وفق منظورات جديدة؛ فلن يكون لجدالاتنا الفكرية، والسياسية أي أثر في الواقع، إلا مزيدا من الاستقطاب.
استعادة السياسة لبر مصر، ستجعل من المراجعات صفة لصيقة لحياتنا كلها. السياسة في أحد جوانبها بدائل متنافسة، ولن يتحقق لها ذلك، إلا بنقد بدائل السلطة والمعارضة، بما يدفع أصحابها للمراجعة كمقدمة ضرورية للإصلاح.
هل يمكن أن تكون الانتخابات الرئاسية بداية لذلك؟