تدق أجراس الإنذار، دون تنبه كاف، يتحسب لما قد يحدث من تبعات، وتداعيات بالغة الخطورة في أزمتين وجوديتين، تعترضان مصر الآن.
الأولى: شح مياه النيل بأثر الملء الرابع لخزان السد الإثيوبي، دون اتفاق قانوني ملزم، يضمن حقوق دولتي المصب مصر والسودان.
بالتعريف، فإنها أزمة وجودية حياة أو موت، لملايين المصريين والسودانيين.
والثانية: استهداف قناة السويس بأثر مشروع “الممر الاقتصادي”، الذي تتبناه إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، وأعلن عنه في العاصمة الهندية نيودلهي على هامش “قمة العشرين”.
في الأزمتين الماثلتين، لم يكن هناك ما يطمئن، أننا مدركون ومتأهبون؛ لمواجهة السيناريوهات الخطرة.. وتٌرك الرأي العام؛ لأنصاف المعلومات، والشائعات في مسألتي أمن قومي على درجة عالية من الحساسية.
في أزمة شح المياه، لم تجر أية مكاشفة على شيء من الجدية، ولا اتضحت إجابة متماسكة على سؤال: ما العمل؟
الخارجية المصرية، أبدت انزعاجا، مما أسمته “التصرفات الانفرادية” لإثيوبيا التي لا يمكن القبول بها، لكنها لم تقل شيئا بعد ذلك يطمئن الرأي العام.
إذا لم يستلفت الانزعاج الدبلوماسي المصالح الدولية والإقليمية؛ للتدخل منعا لانفجار محتمل في واحدة من أخطر مناطق العالم؛ فإنه لا يعدو أن يكون زوبعة في فنجان من القهوة العربية المرة، حسب التعبير الشائع.
الانزعاج الدبلوماسي الذي لم يأبه له أحد، رافقه رهان على تسوية ما في المفاوضات المستأنفة، التي دعا إليها رئيس الوزراء الإثيوبي “آبي أحمد” من القاهرة في يوليو الماضي، أثناء مشاركته في قمة دول الجوار؛ لحل الأزمة السودانية.
بنص الالتزام المعلن، يتعين التوصل إلى اتفاق في غضون أربعة أشهر.
لم تحدث أية حلحلة للأزمة حتى الآن، ومضت أديس أبابا في استكمال خطتها، دون اكتراث بحقوق ومصالح القاهرة والخرطوم.
تكررت من جديد ألعاب اكتساب الوقت؛ لوضع مصر والسودان أمام الأمر الواقع.
لم يكن ذلك تعنتا طارئا، بقدر ما هو تعبير عن إرادة سياسية؛ للسيطرة على النيل، والتحكم في صنبور المياه بالمنح والمنع، كما لو كانت بحيرة إثيوبية على ما صرح به مسئولون إثيوبيون بالمخالفة للقوانين الدولية.
لم يكن صحيحا بأي وقت، ما دأبت على تكراره الخارجية المصرية، من أن إثيوبيا ليس لديها الإرادة السياسية؛ للتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم.
الحقيقة، أن استراتيجيتها منذ وضع حجر أساس السد، عملت على الوصول إلى هذه النقطة التي نحن فيها الآن.
لمحت مصر أكثر من مرة إلى أن “كل الخيارات مفتوحة” في إشارة، إلى أنها قد تلجأ إلى الخيار العسكري، إذا وصلت الخيارات التفاوضية إلى الحائط المسدود، لكنها كانت تسارع في كل مرة بالتراجع!
حسب الخارجية المصرية، فإن الملء الرابع ينتهك إعلان المبادئ الموقع عام 2015، الذي ينص على ضرورة اتفاق الدول الثلاث على قواعد ملء، وتشغيل السد قبل الشروع في عملية الملء.
هذا صحيح تماما، لكنه يغفل عن أن ذلك الاتفاق وفر لإثيوبيا غطاء من الشرعية، تحركت تحته للمضي قدما في بناء السد، ووضع مصر أمام الأمر الواقع.
السؤال الأخطر الآن: ما المقصود بما ورد على لسان وزير الخارجية المصري “سامح شكري” من أن “إثيوبيا لم تظهر أي توجه للأخذ بأي من الحلول الوسط المطروحة؛ بشأن قضية سد النهضة”؟!
تلك الصياغة الملتبسة، قد تعني أن المفاوض المصري أبدى استعدادا من تلقاء نفسه، أو بضغوط دولية وإقليمية، للتخلي عن جانب من حصته التاريخية في مياه النيل، التي تقول إثيوبيا، إنها ترتبت على اتفاقيات استعمارية!
ما نسبة الخصم التي اقترحت ومانعت فيها أثيوبيا؟!
حسب تقديرات بعض خبراء المياه، فإن الملء الرابع قد يفقد مصر حوالي (12) مليار متر مكعب، وهو ما لا يحتمله بلد يعاني من أزمة مياه، يحتاجها لتلبية احتياجاته المتزايدة.
وبحسب نفس الخبراء، فإن السد العالي بمخزون المياه في “بحيرة ناصر” يستطيع سد الفارق، لكن إلى متى؟
أزمة المياه الطاحنة، سوف تداهم مصر بعد وقت لن يطول.
هذا مقصود بذاته حتى ترتهن إرادتها السياسية، لما تقرره حسابات ومصالح دولية وإقليمية، تقف وراء إثيوبيا بالتخطيط والتحريض.
وحسب أغلب الخبراء المصريين الذين يتابعون الملف، فإنه لا يمكن الوثوق في الكلام الإثيوبي، عن أن الملء الرابع هو الأخير.
عند حد الحياة أو الموت، قد تجد مصر نفسها مضطرة، أن تلجأ للعمل العسكري والتفاوض من موقع القوة لا الاستجداء.
إنها أزمة وجودية تستدعي مصارحة الرأي العام بالحقائق، وتصحيح السياسات والأولويات والتحالفات الإقليمية، والدولية وتحسين البيئة السياسية العامة المسمومة، حتى يستطيع البلد أن يتماسك أمام التحديات المنتظرة.
أزمة المياه الضاغطة، يكاد يستحيل فصلها عن أزمة أخرى، تدخل بدورها في صميم اعتبارات الأمن القومي، تتعلق باستهداف قناة السويس.
لم تكن هذه المرة الأولى التي تثار فيها تساؤلات حول مستقبل القناة، أو محاولات إنشاء بدائل عنها؛ لتحجيم أدوارها المحورية في التجارة الدولية، لكنها أخذت طابعا دوليا وإقليميا منذرا مع إعلان مشروع “الممر الاقتصادي”.
بقوة الحقائق، فإن ذلك الممر هو المنافس الأمريكي المقترح لمشروع “الحزام والطريق، الذي يحتل أولوية متقدمة في الاستراتيجية الصينية؛ للمنازعة على قيادة النظام الدولي.
لم يكن محض مصادفة اختيار قمة العشرين في نيودلهي منصة؛ لإعلان مشروع إنشاء ممر اقتصادي، ينطلق من الهند إلى الخليج العربي، والشرق الأوسط وصولا إلى أوروبا.
أنه محاولة مقصودة؛ لفك الارتباط بين البزوغ الهندي والطموح الصيني في إطار مجموعة “البريكس”، أو استثمار سياسي في المواريث السلبية التي تجمع البلدين الآسيويين الكبيرين.
وإنه إغواء بلغة المصالح لدول الخليج، بأن مستقبلها مع الغرب لا مع الصين ولا روسيا، ولا أية دولة أخرى خارج المنظومة الغربية.
ثم إنها مكافأة إسرائيل بالتطبيع المنتظر مع السعودية، دون أدنى كلفة سياسية.
استبعدت الدول الإقليمية الثلاث الكبرى، مصر وتركيا وإيران.
يصعب تسويغ استبعاد مصر وتركيا، اللتان ترتبطان بعلاقات وثيقة مع واشنطن، إلا أن يكون الهدف أن تنفرد إسرائيل وحدها بتمثيل الشرق الأوسط، وأن يكون الدور الأردني مقتصرا في شبكة المواصلات المقترحة مدخلا للتطبيع مع السعودية.
تركيا أبدت على لسان رئيسها “رجب طيب أردوغان” ضيقا بالغا من ذلك الاستبعاد، فهي الأكثر مناسبة في الطريق بين أوروبا والهند، ومصر لم تعلق، كأن المشروع لا يمس مصالحها، ولا يمثل تهديدا لقناة السويس!
استهداف القناة أثر متوقع للمشروع، وليس المشروع كله.
هناك من يأمل، أن يكون لذلك المشروع نفس الأثر الذي أحدثه افتتاح قناة السويس بالقرن التاسع عشر في حركة التجارة العالمية.
وهناك سعي إسرائيلي، لا يتوقف للقضاء عليها بمشروع بديل كقناة “بن جوريون”، التي تقوضت فكرتها قبل أن تبدأ.
بتعبير الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس السابق، فإن الكلام في ذلك الخطر “مضيعة للوقت”.
من زاوية صحيحة تماما، يصعب الوصول إلى أي بديل لقناة السويس بأي مدى منظور أو متوسط.
ومن زاوية أخرى صحيحة بدورها، فإن عدم التحسب للمخاطر خطأ فادح بحق الأمن القومي المصري.
وفق ما هو معلن، فإن مشروع “الممر الاقتصادي” يتضمن شبكة سكك حديدية، وسفن توفر شبكة عبور فعالة؛ لتكملة طرق النقل البري.
مسألة تستغرق وقتا طويلا وكلفة مالية هائلة، وبنى تحتية وتقنية عالية الجودة، حتى يكون ممكنا تحقيق استهدافاته في تعزيز أمن الطاقة، والنقل الرقمي للبيانات، وزيادة مرور البضائع بين الدول بالسكك الحديدية.
لا يوجد حتى الآن جدول أعمال معلن، ولا ميزانيات مرصودة واعتبارات الانتخابات الرئاسية في أمريكا، استدعت الإعلان عنه الآن.
أكثر الأسئلة جدية في هذه اللحظة: إلى أي حد يؤثر الممر الاقتصادي بالسلب على قناة السويس، بعدما يستكمل مقوماته وبنيته التحتية؟
كان مستلفتا ما بدا عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” من بهجة غامرة، وهو يزف للإسرائيليين في شريط فيديو مسجل.. “البشرى السارة”.
قال بالحرف: ” إننا نلعب دورا محوريا في مشروع غير مسبوق”.. متوقعا “إعادة تشكيل ملامح منطقتنا، وبدء عصر من الاندماج والتعاون الإقليمي”.
بنفس التوقيت، زار وفد إسرائيلي للمرة الأولى بصورة معلنة العاصمة السعودية الرياض؛ للمشاركة في اجتماعات لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”.
إنها مقدمات التطبيع، لكنه بكامل معانيه ومقوماته لم يحدث بعد.
بتعبير “جيك سوليفان” مستشار الأمن القومي الأمريكي، فإن “هناك كثير من العمل للوصول إلى التطبيع السعودي الإسرائيلي”.
إذا ما مضت السعودية إلى فخ التطبيع، فإنها تخسر أية رهانات على لعب دور قيادي في العالم العربي، حيث ما زالت القضية الفلسطينية الاختبار الرئيسي للأوزان والأحجام والأدوار.
وإذا لم تدرك مصر حجم التحديات التي تعترض مستقبلها، وتصحح مسارها فإن النتائج كارثية.