بين السياسة والأمن تحرك “أشرف مروان”، وتداخل مع ثلاثة رؤساء متتاليين “جمال عبد الناصر”، بالمصاهرة، و”أنور السادات” بالعمل داخل حلقته الضيقة سكرتيرا للمعلومات، ومبعوثا لمهمات خاصة، و”حسني مبارك” بصلات شخصية وعملية وثيقة، لم تستكشف كامل حقائقها وحدودها.
“أنا لا أستطيع النوم”.
كان الوقت متأخرا، والصدمة تهز مشاعره بأثر ما انتهى من قراءته للتو.
هل تعرضت مصر إلى هذه الدرجة من الخيانة، التي كادت أن تلحق هزيمة مروعة جديدة بقواتها، قبل أن تشرع في عبور الجسور على قناة السويس؟
هكذا كان سؤال الدكتور “نبيل العربي”، أمين عام الجامعة العربية السابق، في ذلك المساء من صيف عام (٢٠١٦)، بعد أن طالع النسخة الإنجليزية من كتاب إسرائيلي، صدر وقتها، يحمل اسم “الملاك- الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل”.
السؤال أعاد طرح نفسه مجددا على خلفية، ما كشفت عنه إسرائيل من وثائق، ومستندات عن حرب أكتوبر؛ بمناسبة مرور خمسين سنة عليها.
الملف بالغ الحساسية بموضوعه، وأبطاله ومدى ما أبلغت به إسرائيل من أسرار عسكرية، وسياسية قبل أن تدوي المدافع في حرب أكتوبر (١٩٧٣).
القصة قديمة نسبيا، فقد كشفت لأول مرة عام (2002)، قبل أن يلقى “أشرف مروان” مصرعه الغامض بالسقوط من شرفة شقته في لندن عام (٢٠٠٧).
لخمس سنوات كاملة طاردته الاتهامات الخطيرة، وشغلت الرأي العام، دون أن تستبين حقيقته، هل خدع مصر وخانها لصالح إسرائيل حسب تأكيدات الدولة العبرية.. أم خدع إسرائيل نفسها، فيما تطلق عليه خطة الخداع الاستراتيجي، حسب تصريحات مصرية؟
خدع من بالضبط؟!
الكلام الإسرائيلي موثق.. والكلام المصري مرسل.
بصياغة ثانية لنفس السؤال: من الذي قتله في لندن؟
أسرته تقول، إنه قد تعرض لاغتيال إسرائيلي انتقاما من الخديعة التي تعرضوا لها.. والإسرائيليون يلمحون في تصريحات معلنة، أن المصريين هم الذين فعلوها لإغلاق الملف إلى الأبد انتقاما من خيانته.
التحقيقات البريطانية أغلقت، دون أية إجابة تشير إلى القاتل.
في البداية، ألمحت تسريبات إسرائيلية إلى دوره وشخصه، قبل أن تذكر بلا مواربة اسمه، ثم صدرت كتب، وأنتجت أفلام، تروي، وتكشف بعض ما جرى في الظلام من أسرار، وتفاصيل شملت قصة تجنيده، وما أسداه من خدمات لإسرائيل في أوقات حرجة.
عندما شرعت الصحافة البريطانية في عرض التسريبات الأولى، منسوبة إلى “إيلي زاعيرا” مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، أرسل لي الدكتور “خالد عبد الناصر”، النجل الأكبر للزعيم الراحل، بنفس اليوم فاكسا لصورة ذلك العرض، ما زلت أحتفظ به.
كان تقديره: “إذا صحت الرواية الإسرائيلية، فإن المثل البريطاني يقول: إذا دخل الثعلب حظيرتك الأشرف لك، أن تمسكه بنفسك”.
لم تكن لديه إجابة على السؤال الخطير، لكنه كان يطلب الحقيقة.
في هذا التوقيت المبكر، لم يستبعد “سامي شرف”، مدير مكتب الرئيس “عبد الناصر” وأحد أخلص رجاله، احتمال تورط “مروان”، الذي عمل تحت إمرته في منشية البكري.
استبعد بالقدر نفسه، أن يكون ذلك قد حدث، أثناء حياة الزعيم الراحل.
“لم يكن يجرؤ، ثم إن عيوننا مفتوحة طوال الوقت على السفارة الإسرائيلية في لندن”.
فيما بعد، تبدت تناقضات في الروايات الإسرائيلية للطريقة التي جند بها “مروان”، وتوقيتها، تؤكد ما ذهب إليه “سامي شرف”.
إحدى الروايات تقول، إن ذلك جرى في عام (١٩٦٨)، وأن “مروان” أمد الاستخبارات الإسرائيلية بمحاضر اجتماعات الرئيس المصري مع الزعيم السوفيتي “ليونيد بريجينف”، وهو ما لم تأت على ذكره روايات أخرى، قالت، إنه قد جند قبل رحيل “عبد الناصر” بشهور قليلة، لكنه لم يقدم شيئا، ولا شرع في العمل لصالح الاستخبارات الإسرائيلية إلا مطلع حكم “السادات” ـ على ما تضمنه كتاب “الملاك” لمؤلفه “يورى بار جوزيف”، وهو أستاذ للعلوم السياسية في جامعة حيفا، وضابط سابق بالاستخبارات العسكرية.
في الروايات المتباينة، ظلال نزاعات موروثة بين مدير الاستخبارات العسكرية “إيلي زاعيرا”، ومدير جهاز الموساد “تسيفي زامير”، أو بين الجهازين الاستخباريين بصورة عامة.
كل جهاز يحاول أن يعظم من دوره، ويكيف الوقائع لمقتضى تخفيض دور الجهاز الآخر.
غير أن كليهما له نقطة تنشين واحدة، هي النيل من جهاز المخابرات العامة المصرية، تخفيضا للروح العامة، وتشكيكا في القدرة على مواجهة إسرائيل، واختراقها في عقر دارها، وإلحاق الهزائم بها ـ كما حدث أكثر من مرة.
ليس شيئا جديدا في التاريخ، أن تتعرض دولة ما لضربات موجعة، أو اختراقات في بعض مراكزها الحساسة.
وفق “يورى بار جوزيف”، فإن المصريين أضفوا صفة البطولة على أكبر خائن في تاريخهم كله.
الرئيس “السادات” منحه وساما عسكريا رفيعا لدوره في حرب أكتوبر، والرئيس “مبارك” أصدر بيانا بعد مصرعه في لندن، يصفه بـ”الوطنى المخلص”، وأرسل نجله الأصغر “جمال” إلى سرادق العزاء على خلفية رعاية “أشرف مروان” له أثناء تواجده للعمل في العاصمة البريطانية لندن.
في لفتة إلى مصرعه، قال مؤلف كتاب “الملاك”: “إن المصريين هم الذين قتلوه”.
الكلام خطير، ويستحق التدقيق فيه.
بحسب تأكيدات “أمين هويدي”، رئيس المخابرات العامة المصرية بعد هزيمة “يونيو” (1967)، فإنه لم تكن لديه أية معلومات في هذا الشأن.
الإسرائيليون يستبعدون مطلقا- حسب كتاب “الملاك”- أن يكون قد كلف من “عبد الناصر”، ولا يعقل أن يكلفه “السادات” بإفشاء توقيت بدء العمليات العسكرية، ومصيره يتوقف على ما قد يجرى بعد ساعات على جبهات القتال.
كما لا يعقل الادعاء، بأن مثل هذا الإفشاء من ضمن خطة الخداع الاستراتيجي، فقد أبلغ “مروان” الإسرائيليين، أن الحرب سوف تبدأ في الساعة السادسة من مساء السادس من أكتوبر، بينما بدأت فعلا بالساعة الثانية، والشمس في كبد السماء.
حسب تأكيد الأستاذ “محمد حسنين هيكل”، فقد كان ذلك هو الموعد المحدد فعلا؛ لبدء الحرب، لكنه تقدم أربع ساعات للتوفيق بين القيادتين العسكريتين في مصر وسوريا.
هذه مسألة يمكن التأكد منها ببساطة من الأرشيف الرسمي، فإذا ما صحت فهو الخائن الأخطر في التاريخ المصري بلحظة تأهب؛ لعبور الجسور، ورد الهزيمة بواحد من أروع المشاهد التاريخية، التي جسدت روح القتال والتضحية.
لا يمكن استبعاد فرضية الجاسوس المزدوج، لكن الكلام يحتاج إلى ما يثبته لا بإطلاق العبارات المرسلة عن الخداع الاستراتيجي!
لم تأخذ إسرائيل المعلومات الخطيرة التي وردت إليها من “مروان” بكامل الجدية، وكان الغرور بالغا و”التقصير” مريعا، حسب “لجنة اجرانات”، التي حققت، واستقصت ضمن عملها أسباب الفشل الإسرائيلي في توقع الحرب، رغم المعلومات التي توفرت لها من جاسوس، لم تفصح عن اسمه في ذلك الوقت.
القضية ليست إنكار واقعة الاختراق التي حدثت، ولا مدى الضرر الذي ترتب عليها بقدر، ما هي كشف الحقيقة، أو أن تكون هناك رواية مصرية متماسكة لما جرى فعلا.
إذا ما أمكن يوما إزاحة الستار عن أسرار، وخفايا قصة “أشرف مروان”، فإنها يمكن أن تمثل إضاءة، لما جرى في مصر، وحولها على مدى عقود تتالت.
المشكلة أنه لا توجد مثل هذه الرواية، ولا أنشئت لجنة تحقيق مستقلة، تبحث وتستقصي، وتجيب على الأسئلة المعلقة، ما بين الأمن والسياسة وحقيقة الرجال، كل الرجال في أوقات مزلزلة.