مِثل فيلم تسجيلى مصنوع بدقة بالغة جدا، لا تترك للمشاهد من غير المتخصصين أمثالى أي مجال للشرود، أخذني باسل رمسيس في رحلةٍ جَسورَةٍ، خالِقًا حالةً لم أعرف فيها، ما إذا كان الزمان هو العابر للمكان، أم أن المكان هو الذى يسير في الزمان، بأحداثه والناس. القاهرة، مدريد، هافانا ذهابًا وعودة، وقد ضَفَّرَت الأحداث وأبطالها، علاقة الزمان بالمكان، فزالت الفروق في حرارةِ سَردٍ مُبهرة.
يبدأ باسل رحلته التى امتدت عبر 270 صفحة، من القطع المتوسطة، بحديث عن كلاب “الغالغو” أو “السلوقي” بالعربية، وسباقاتها التى تشتهر بها إحدى المقاطعات الإسبانية، حيث تنتهي تلك السباقات برصاصتين، أو أكثر في رأس الغالغو، بعد إجهادِ اصطياد الوَهم. أنهيت “عين شمس 1995، وهزائم أخرى” في ليلتين بالضبط، كما فعلت حين قرأت “المولودة” لنادية كامل منذ سنوات. رابطٌ خَفى بين الكِتَابَتَين على اختلافهما في الصياغة وطريقة السرد، لم أستطع إدراكه.
ورغم أن الكتاب عامرٌ بالأحداث والناس، إلا أنه لم يَخلُ من تحليلات فنية عميقة للغاية بصيغة أدبية سلسة ومريحة. فَتَح باسل الباب بجسارة، لا أحسده عليها، ولا أتوقع منه سواها، وهو المُبدع العاشق لِعملٍ يحترفه، في مغامرة -حسب وصفه- لحَكي فيلم تسجيلي عبر خطوطه العامة.
كان الفيلم التسجيلي الذى حكاه هو فيلم “آفاق” من تأليف، وإخراج العظيم شادي عبد السلام في 1972. بديعٌ وبسيطٌ، كان حَكي باسل للفيلم الذي فتح لي به “آفاقًا” للفهم مُدهشةً، كنت أجهلها. تحدث باسل أيضًا عن المخرج السينمائي الكوبي “تيتون”، الذي كان قد أعد بحثًا عن الدراما، طُبِع لاحقًا في كتابٍ بعنوان “دياليكتيك المشاهد” Dialectical del espectador (تعبيرٌ أسمعه للمرة الأولى)، وأتمنى عليه، أن يُفرِد له مقالًا شارحًا، وربما تسنح الفرصة برعايةٍ من وزارة الثقافة، و/ أو بمساهمة من أحدى دور النشر الخاصة، لترجمة الكتاب كامِلًا للعربية، وإتاحته للمحترفين والمهتمين من المثقفين وعاشقي السينما.
رغم حب باسل للحياة التي أطلق لنفسه عنان تَذوُقِ أحداثها -على تنوعها ما بين الحُلو والمُر- بإخلاصٍ حتى الثمالة، إلا أن طيف الموت كان حاضرًا في خلفية كل فصول الكتاب. سرده البديع لموت الصعلوك السكير في “ناجي العلي”، شراكة موتِ منتصر وصديقه في “الهروب”، موت زرياب في “آيس كريم في جليم”، موت فتحي على طاولة مسابقة الطعام في “قشر البندق”، ثم موت شيكو مينديز في “موسم الاحتراق” الذي قال عنه: “يعرف أنهم سيقتلونه، وقبل أن يقتلوه يعترف، بأنه لا يريد أن يموت، وأن قتله لن ينقذ غابات الأمازون، أو الفقراء الذين يعيشون منها”.
ما ذَكَرَهُ عن صديقيه الراحلَين هاني درويش وهاني شكر الله، ثم عنايات الزيات، وأروى صالح، ودعد حداد. ما حَكاهُ فى حساسيةٍ بالغة عن معاناة وَالِدِه الأخيرة، ثم الرحيل، وما تلاه: “كيف يبدو أبى الآن، حالة وجهه وجسده بعد أسابيع من رحيله؟. كنت أتخيله بالبيجاما في القبر، غالبًا ما أتخيل أبى بالبيجامة!”**، الكنيسة المرقسية بالإسكندرية التى تزوج فيها الوالد، والتي تمت فيها أيضًا مراسم صلاة جنازته. (خروج محدود عن النص: ذَكَرني حديث باسل بصديقي الراحل سامر سليمان الذي عُقدت مراسم زواجه بكنيسة العذراء على شاطئ النيل العجوز بالمعادي، وفيها كانت الصلاة على روحه الطاهرة بعد سنوات قصيرة، كانت بالغة الثراء. عَلَّ الموت هو الهاجس المشترك بين باسل وبينى!).
عن الموت في كوبا، يقول باسل: “أشعر أحيانًا، أن علاقة الكوبيين بالموت، والحداد غير مفهومة، وأن فيها تناقضات تكسبها مزيدًا من الغموض”***، ثم يروي عن ثنائية الموتِ والحياة هناك. كان باسل في كوبا يوم أعلن راؤول كاسترو، وفاة أخيه الزعيم التاريخي فيديل كاسترو عن تسعين عامًا، قضت فيها بلاده، ما يقرب من نصف القرن تحت الحصار الأمريكي. لاحظ باسل قيام الكوبيين بشكلٍ تلقائي بإغلاق أجهزة الموسيقى التي اعتادوا تشغيلها بلا انقطاع طوال النهار، بمجرد إعلان نبأ رحيل فيديل العجوز تعبيرًا عن الحداد واحترامًا للرجل. في اليوم التالي، أعلن راؤول بداية أيام الحداد الرسمي لمدة تسعة أيام كاملة، مُنِعَت فيها حفلات الموسيقى والرقص وتناول المشروبات الكحولية. شاهد باسل عمال البارات، ينزعون زجاجات الخمور من على الأرفف؛ ليعيدونها إلى صناديقها الورقية، ثم يقومون بتغطية الأرفف الفارغة بأكياس سوداء من القمامة. عاشت كوبا أيام الحداد التسعة في صمتٍ قاتم. في اليوم الأخير من أيام الحداد، والذي كان ينتهي عند الظهيرة، كان باسل يسير على كورنيش مدينة “ثين فويجوس”، وكان هناك المئات من الشباب والشابات جالسون في صمتٍ، ينتظرون انتظارًا مُريبًا، لم يفهمه وإلى جوارهم على الأرض سماعات موسيقية ضخمة مُطفئة. وفجأة، ومن انتهاء الدقيقة الأخيرة من الحداد الرسمي، انطلقت الموسيقى مُدَويةً في صخب، وظهرت زجاجات الروم الرخيصة، وانطلق الجميع في رقصٍ، واحتفالٍ بأغانٍ مُتداخلةٍ في خليط غريب، وكأنها الانتقام الموسيقى الشبابي من الحداد الطويل المفروض فوقيًا من السلطة، بعدما كان رد الفعل الشعبى التلقائي في اللحظة الأولى، هو إطفاء أجهزة الموسيقى، دون أمر بذلك. يدرك الكوبيون معنى الموت، لكنهم ينتصرون دومًا للحياة الت عادت سيرتها الأولى بالموسيقى والرقص والشراب.
وكما بدأ باسل رحلته، أنهاها “بالغالغو”: “لكن بعض كلاب الغالغو تنجو بجروحها من المصيدة. تهرب، تصل مفزوعة إلى قرى بعيدة، أو إلى محطات بنزين على الطرق السريعة. تبحث عن من يؤويها ويمنحها بعض الطعام والأمان، أو من يعيد استخدامها في منافسات السرعة، أو في موسم جديد للصيد. والأسوأ حظًا تصدمه عربة مُسرعة.”
*الصفحة 25
**الصفحة 267
***الصفحة 138