النبوءة وردت في فقرتين، من رواية “رُد قلبي “، التي كتبها يوسف السباعي عام 1954 م، لإضفاء الشرعية الاجتماعية والأخلاقية على انتصار الديكتاتورية العسكرية البازغة، فقد انتصرت في يوليو 1952م على النظام القديم، ثم انتصرت في مارس 1954م على القوى الديمقراطية، ثم أصبح الطريق ممهداً أمامها لحكم مصر طوال سبعين عاماً حتى يومنا هذا وإلى أجل لا يعلمه إلا علام الغيوب، تخللها فاصل قصير مع ثورة 25 يناير 2011م، ثم استأنفت مسيرتها من جديد.
هذه الرواية حد فاصل بين دولتين ومجتمعين وثقافتين وتاريخين، حد فاصل بين دولة أفندينا، دولة الأمراء، دولة باشوات الأرستقراطية، ثم دولة الضباط، حسين ضابط الجيش، وشقيقه علي ضابط البوليس، وهما أنجال الريس عبد الواحد كبير الجناينية في بساتين قصر أفندينا الأمير الباشا الارستقراطي، الرواية حد فاصل بين دولة الاستعباد في عهود سلالة محمد علي باشا ودولة الاستبعاد في عهود الرؤساء من ضباط الجيش.
الدولة الأولى كان من حقها استعباد المصريين بينما الدولة الثانية كانت وما زالت ترى من حقها بل من واجبها استبعاد المصريين من القرار ومن الفعل ومن المسئولية ومن النفوذ ومن التأثير وقد زادت حدةً وقسوةً واشتدت وطأتُها على الشعب في السنوات العشر 2013 – 2023م.
حصل الشقيقان عليُ وحسين على شهادة البكالوريا أي الثانوية العامة، وقد اختار الأول أن يكون ضابط بوليس، ورشح الأب الثاني أن يكون ضابط جيش، كان ذلك في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، حيث كانت نذر الحرب العالمية الثانية تدق طبولها قبل سنوات عدة من اندلاعها، وحيث كانت مصر في طريقها لعقد اتفاقية 1936م مع الاحتلال والتي كان من تداعياتها زيادة عدد ضباط الجيش ومن ثم فتح الباب أمام طبقات اجتماعية من غير الأرستقراطية ومن غير كبار الملاك لأن يلتحق أبناؤها بالكلية الحربية، ومن هذه اللحظة بدأت البذور الأولى للضباط الذين تحركوا ليلة 23 يوليو 1952م وفي ساعات قليلة قبضوا على مقاليد الأمور وفي أقل من عامين دانت لهم البلاد قاصيها ودانيها وما زالت.
1 – الفقرة الأولى من النبوءة تقول: ” احذري يا أماه .. أنت لا تعرفين من تكلمين .. بعد بضعة أشهر سوف آتي إليكم .. وأوقف البلد على قدم وساق .. وسأجعل العمدة يقبل يدي .. سأكون من الحكام .. أتعرفين الحكام؟. وضحك الأب قائلاً: ربنا يكفينا شرهم”. ص 59 من الرواية على لسان النجل علي الذي دخل كلية البوليس.
2 – الفقرة الثانية من النبوءة تقول: ” ابشري يا أماه .. وهذا ضابط آخر.. سيحضر إليك إن شاء الله بالمدفع.. فيدك لك دار العمدة.. سنخربها ونجلس على تلها”. ص 62 من الرواية على لسان النجل ذاته.
في حكم الارستقراطية التي استعبدت المصريين كان الريس عبد الواحد الجنايني يملك فدانين يؤجرهما للمزارعين، بالإضافة إلى عمله كبير الجناينية في بساتين أفندينا الأمير، كما استطاع إلحاق نجليه بالبوليس والحربية، وضمن لهما حراكاً اجتماعياً نحو القمة، هذه الفرص غير متاحة -بعد سبعين عاماً – من دولة الريس عبد الواحد، أو بالتحديد دولة على وحسين، دولة البوليس والجيش، الدولة الأمنية العسكرية، الدولة التي استبعدت المصريين وهمشتهم، سلبتهم الحرية، ثم سلبتهم الرغيف، وعبدت نفسها، وألهت نفسها إلهاً يُعبد لذاته بغض النظر عما ينزله بالشعب من قهر وما يلحقه به فقر. صارت هذه الدولة الأمنية العسكرية غاية ذاتها تدور حول ذاتها ولديها قناعة أن الشعب ينبغي أن يضحي بكل شئ حتى ولو بنفسه في سبيلها.
بعد سبعين عاماً من كتابة هذه الرواية، ومن هذه النبوءة، وصلت دولة علي وحسين إلى غيبوبة كاملة، فقدت الوعي بمنطق الدولة، وفقدت الوعي بمعنى الشعب، وفقدت حاسة التعاطف مع هموم المواطن، انعزلت عن جوهر وظيفتها، وانحرفت عن حقيقة معناها، وشيدت الحواجز بينها وبين الناس، فلا هم في حسابها مواطنون لهم حقوق وحريات وعليهم واجبات ومسؤوليات، ولا هم في اعتبارها رعايا يلزمها- أخلاقياً- أن تقوم على راحتهم وأمنهم وتيسير معاشهم مقابل ما يمنحونه لها من خضوع وولاء وامتثال لسلطانها عليهم .
دولة علي وحسين، أو دولة حسين وعلي، تم التعبير عنها في السنوات العشر 2013 – 2023م بعبارة: ” أنا والجيش والشرطة”. حيث المكونات الثلاث للجمهورية الجديدة: 1 – حاكم فرد مطلق مهيمن على كل صغيرة وكبيرة . 2 – جيش يقوم بعض إدارات منه على تنفيذ إردة الحاكم الفرد المطلق. 3 – بوليس يتولى هندسة المجتمع وضبط إيقاعه ليتناغم- طوعاً أو كرهاً- مع إيقاع الحاكم الفرد المطلق.
هذه المكونات الثلاثة هدفها إقامة دولة قوية وشعب خاضع خانع مستسلم مستكين، وهو هدف مستحيل التحقق، فمستحيل بناء دولة قوية بشعب مقهور، ومستحيل يتقبل أي شعب- مهما كان تراثه عريقاً في الخنوع والخضوع- المنطق الذي تؤمن به الجمهورية الجديدة وهو أن على الشعب أن يتقبل- برضا وتسليم- الجوع والحرمان في سبيل بناء الدولة. قهر الشعب كان هدفاً دائماً للحكام في الدولة الحديثة من مطلع القرن التاسع عشر حتى كتابة هذه السطور، أما قهره وتجويعه وحرمانه والطلب منه أن يتقبل كل ذلك بأريحية فهذا مستوى من القهر غير مسبوق في أي حكم وطني أو حتى أجنبي، هذا سحق رسمي للشعب.
القهر القديم عبرت عنه الفقرة الأولى من نبوءة علي ابن الريس عبدالواحد: ” سوف أجعل العمدة يُقبل (يبوس ) إيدي “.. سأكون من الحكام.. تعرفين الحكام؟ “، هذا هو القهر القديم.
القهر الجديد، القهر الراهن، عبرت عنه الفقرة الثانية من النبوءة : ” سيحضر إليك إن شاء الله بالمدفع، فيدك لك دار العمدة، سنخربها ونجلس على تلها ” . هذا هو القهر اليوم.
المصريون- على اختلاف طبقاتهم- لديهم الإحساس العميق بالقهر، القهر على ما وصل إليه حال البلد بالدرجة الأولى، من السهل- كشعب قديم صبور حليم حكيم- أن يتسامح المصريون فيما نالهم من قهر على المستوى الشخصي أو المعيشي، لكن يحز في أنفسهم ما نزل ببلدهم من قهر أزاحها عن موقع قيادي بين العرب وفي الإقليم وجعل منها الرجل المريض بين العرب وفي الإقليم.
السؤال الآن: ماذا بعد أن صدقت النبوءة؟ أين المشكلة في دولة حسين وشقيقه علي أبناء الريس عبد الواحد؟ أين المشكلة في دولة الجيش والبوليس؟
الجواب: المشكلة في “أنا وحسين وعلي “، “أنا والجيش والشرطة “،” مثلث الحاكم الفرد المطلق مع الحكم العسكري والقبضة البوليسية”.
السؤال: كيف يمكن الخروج من قبضة هذا المثلث؟. الجواب بعضه سهل وبعضه صعب. وهذا يستلزم توضيح عدة حقائق:
1: العالم – بالذات في الديمقراطيات – أقام دولة المؤسسات، حيث الجيوش مملوكة للشعوب، تحترف القتال، ولا تحترف الحكم، تحترف الحرب، ولا تقترف السياسة، تخضع لقيادة الدولة ولا تقود الدولة، تقوم بمهماتها في إطار الدستور والقانون. كذلك يمكن القول عن المؤسسات الشرطية كأجهزة مدنية باتت لعملها معايير انضباط والتزام متقاربة في كافة الديمقراطيات، تخضع الشرطة للقانون وتلتزم بالدستور وهي مملوكة للشعب. هذا الكلام عن مؤسسات الدفاع والبوليس ينطبق على كافة مؤسسات الدولة المدنية الحديثة بما في ذلك القضاء والدبلوماسية والتعليم والنقل والتجارة والصناعة والري والزراعة والصحافة والضرائب إلخ، كل مؤسسة لها معاييرها وضوابطها بما يتناسب مع طبيعة تشكيلها ووظيفتها، وليس من المستحيل إلزام المؤسسات بهذه المعايير لضمان الكفاءة والجودة والعدالة والنزاهة.
2 : المشكلة ليست في المؤسسات في حد ذاتها، المشكلة في أمرين: 1- نظام الحكم: ديكتاتوري أم ديمقراطي؟ ديكتاتوري كفؤ رشيد أم ديكتاتوري فاشل جهول؟ ديمقراطي قادر على إنفاذ القانون أم ديمقراطي هش مهترئ ضعيف؟ ديكتاتوري يتبع العلم والعقل أم ديكتاتوري يتبع أهواء الحاكم ونزواته؟ ديمقراطي تقوده نخبة تخضع للمحاسبة والشفافية والمساءلة أم تقوده نخبة فاسدة متواطئة؟ . 2 – ثقافة المجتمع ودرجة تحضره ومدنيته وتعليمه، قروي أم مديني؟ بدوي أم حضري؟ فردي أم قبلي؟.
3 – المؤسسات الحديثة في مصر -الآن – تتراجع حد التدهور المريع في كفاءتها ومهنيتها، في مجتمع يعود القهقرى للخلف، لا يكاد يؤمن بقيمة مدنية حديثة، ولا يكاد يعتصم بقيمة أخلاقية قديمة، مجتمع يقف على الحافة الحادة يتأرجح يقاوم السقوط، مجتمع منقسم بحدة وعنف بين أقلية شديدة الثراء دون سبب معلوم أو مصدر علني مشروع إلا الاقتراب من السلطة وأغلبية مسحوقة مطحونة تقاتل الليل والنهار لضمان الثلاث وجبات وأساسيات البقاء على قيد الحياة والوسط بينهما ينهار. مجتمع فقد الثقة في كل قيمة حديثة لأنها لم تعد تفتح بيتاً ولا تضمن قوتاً ولا تحفظ ماء الوجوه من الإراقة، أهم قيمة حديثة عرفناها منذ مطلع القرن التاسع عشر كانت التعليم الحديث، كانت أي شهادة دراسية من أدناها إلى أعلاها تضمن للمصري المتعلم حياة محترمة مادياً وأدبياً، ثم بعد سبعين عاماً من حكم دولة حسين وعلي أو دولة الجيش والشرطة أو دولة أنا والجيش والشرطة فقدت قيمة التعليم المدني الحديث معناها وجدواها، ممكن تحصل على درجات الأستاذ الدكتور وتظل تعيش في فقر وبؤس مادي وقلة قيمة وعدم احترام وتقدير أدبي، هذا هو أخطر انقلاب في قيم المدنية والحداثة، ومن هنا بدأت كافة القيم والأخلاق المدنية الحديثة ينحسر مدها وينكسر موجها وترتد على أعقابها ويلوذ المصريون بتخلف عشوائي. فكرة التعليم والتفوق العلمي والجدارة المهنية كانت هي أول الأخلاق المدنية الحديثة وقد سقطت تماماً عن عرشها، ولأن التعليم هو النبع الذي تشرب منه كل المؤسسات فقد سرت روح التخلف العشوائي فيها جميعاً .
4 – بينما المجتمع يتقهقر للخلف، تقدمت الديكتاتورية للأمام، لم تعد تكتفي كما قال حضرة الضابط علي ابن الريس عبد الواحد بأن يبوس العمدة يده، ولا بأن يدك أخوه جضرة الضابط حسين بيت العمدة بالمدفع، ولا حتى الاكتفاء بقوله ” سنخربها ونقعد على تلها “، لم تعد الديكتاتورية تكتفي بذلك، إنما انتقلت لما هو أبعد وأعمق: التحقير من قيمة الدولة المدنية ذاتها، أعرق دولة في التاريخ صارت شبه دولة، تم نسف تاريخها، تمت إزالة هيبتها، تم تصويرها في حال ضعف وهوان واضمحلال وفقر واستخذاء ومذلة. بكل عيوبها – استعباد الشعب قبل 1952م ثم استبعاده بعدها – تظل الدولة الحديثة سجلاً لنضال المصريين من كل الطبقات من أجل حراك اجتماعي مشروع قائم على قيمتي التعليم والعمل، هذا التحقير من شأن الدولة أعاد موضعتها في البرواز العسكري، دولة عسكرية، ليس فقط لأن الحاكم يعلن ذلك، لكن لأنه يتم فرض المرجعية العسكرية على كافة مؤسسات الدولة التي يفترض أنها دولة مدنية لشعب مدني، بحيث صار شرطاً أن يحصل كافة من يلتحقون بالوظائف المدنية على شهادة بتدريب جبري في الأكاديميات العسكرية، وفيما نعلم فإن كافة المؤسسات- باستثناء القضاء- قد خضعت والتزمت. هذه المؤسسات- قبل دولة حسين وعلي- خرجت أجيالاً من العلماء في كافة فروع المعرفة كانوا يمثلون واحدة من أنبغ النخب المدنية الحديثة خارج أوروبا الغربية.
5 – هذا المجتمع الذي يتقهقر للخلف، هو المجتمع الذي هندسته دولة حسين وعلي، فمنذ بزغت دولتهما عام 1952م وهم يُفصلون دماغ الشعب ومشاعره وأذواقه وثقافته ورؤاه وأفكاره حسب مقاسهم ومصالحهم ومطامحهم ومطامعهم، لقد تم غسل دماغ الشعب وصنع ضميره وتشكيل وعيه أكثر من مرة في أكثر من اتجاه بل أحياناً في الاتجاه ثم في نقيضه، اختاروا له ثم فرضوا عليه كل شيئ: المقرر الدراسي، الغنوة والمسرحية والفيلم، والمقال والخبر والرأي والتحليل، والقصيدة والرواية والديوان، والفتوى والتفسير والنزعة الدينية، اختاروا له سقف الطموح وحدود المغامرة ومساحة المبادرة، لكن كل ذلك بدأ يتصدع من مطلع هذا القرن الحادي والعشرين، مع تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات بدأ الشعب يسترد دماغه وضميره ووعيه وذوقه وإحساسه بالغبن الذي فرضته دولة الشقيقين الضابطين نجلي الريس عبد الواحد.
6 – هذا المجتمع العائد- ببطء شديد- استطاع في أول طلعة أن يهز دولة حسين وعلي هزة واحدة كانت كافية ليتفرفط أركانها، تفرفط مبارك والعتاة من أركان النظام مثل أوراق تذروها الرياح في دخلة الخريف. هذا المجتمع بعد ما يقرب من ربع قرن على مطلع القرن مازال يتغير، يتغير من العمق، ولا ينال من هذا التغير ما يبدو على السطح من كمون واستسلام تحت مطارق القهر والفقر في السنوات 2013م – 2023م. جوهر هذه التغير له معنى واحد ومغزى واحد: انتهى إلى الأبد عهد الديكتاتورية الراكبة الواثقة المطمئنة، مشهد الشرطة ( الضابط علي ابن الريس عبدالواحد ) وهي ترفض الصدام مع الشعب وتنسحب دون الدفاع عن الحاكم الفرد المطلق ، مما يضطر الجيش ( الضابط حسين نجل الريس عبد الواحد ) أن ينزل بالمدرعات مكتوب عليها يسقط مبارك، من هذه اللحظة 25 يناير 2011م ولد شعب جديد، من رحم تجربة تاريخية عميقة مدفوعة الثمن تجسدت في حقيقة صلبة صلدة غير غير قابلة للزوال ولا الطمس مهما تم تجاهلها، هذه الحقيقة هي باختصار شديد: لا راحة لديكتاتور بعد مبارك، كل ديكتاتور قادم سوف يعاني، انتهى التاريخ الذي يحكم فيه الديكتاتور المصريين- بسهولة ويسر- كما لو كانوا مزرعة فراخ .
لا راحة لديكتاتور بعد اليوم، هذه أول تجليات المجتمع الجديد، مجتمع ما بعد تحقق النبوءة.
الديكتاتورية الجديدة على وعي شديد بهذه الحقيقة، ولهذا تختلف عن كل ما سبقها من الديكتاتوريات في أن لها موقفاً مبدئياً من الشعب فهي لا تطمئن له وتحذر منه كل الحذر وتحتاط له كل الاحتياط.
ولأن موقفها من الشعب شديد الرجعية ذهبت تبتكر نوعاً مستجداً من نظرية الحكم بالحق الإلهي، فهي لا تتوقف عن االتذكير بأن الخالق العظيم- وليس الشعب- هو من يختار من يحكمون الشعوب.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.