يستبدل المصريون كلمة الخبز بالعيش، في إشارة إلى الحياة، وهو أول سلم لمتطلباتها، يتخذ الخبز بجانب أهميته الغذائية، مكانة اجتماعية، فهو دليل على الترابط، وبجانب كونه أساسيا في أى وجبة، ويتداول في الأمثال كأساس لأي علاقة، فيقال “بيننا عيش وملح” تعبيرا عن ثقة تجمع الأفراد.
في سبتمبر، قررت مصر التحول؛ لاستيراد ما يقرب من نصف مليون طن من القمح من فرنسا وبلغاريا، بعد أن منعت موسكو توريد الحبوب الروسية، وفقا لما نقله موقع “بلومبرج” الإعلامي، المتخصص في الاقتصاد الدولي. وللمرة الثانية، خلال أشهر قليلة، تعترض موسكو على تسعير صفقات ضخمة للقاهرة.
هذا في وقت، تزداد فيه صعوبات التمويل، وتتصاعد مدفوعات الديون، إذ تبلغ فواتير السداد للعام المقبل، ما يزيد عن 29 مليار دولار.
محطات زيادة الأسعار
وغالبا، ما كان الخبز تحديا للحكومة، إذ ما إرادات رفع سعره، لكنه لم يعد الخط الأحمر في سنوات مضت، فقد شهدت أسعار الخبز والدقيق ارتفاعات متوالية في الأسواق، بدأت منذ العام 2014، حيث تضمنت السياسات الاقتصادية مخططات تحرير أسعار السلع والخدمات تدريجيا، ومنها تحرير سعر الدقيق.
إضافة لتخفيض وزن الرغيف المدعم بنسبة 40 % تقريباً، وثبات حصة الفرد عدديا بخمسة أرغفة في اليوم، لكن الحصة تم تقليصها فعليا لثلاثة أرغفة لكل فرد، إذ ما احتسب الانخفاض في وزن رغيف.
ومع السير في برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأ منذ 2016، وارتكز أساسا على معالجة عجز الموازنة، عبر زيادة الإيرادات من عوائد الضرائب، ورفع أسعار الخدمات، مع تخفيض النفقات المتعلقة بالدعم، طُرحت خيارات رفع أسعار الخبز مجددا.
في مارس 2022، رُفعت أسعار رغيف الخبز الحر، وبدأ تطبيق القرار الذي نشرته الجريدة الرسمية، ليصبح سعر بيع الخبز المميز زنة 45 جراما بـ 50 قرشا، والـ 65 جراما بـ 75 قرشا، و 11.5 جنيها لكيلو الخبز المعبأ.
وبالنسبة للخبز الفينو، فحدد القرار 50 قرشا للرغيف زنة 40 جراما، و 75 قرشا لزنة 60 جراما، و جنيه لزنة 80 جراما، وألزم قرار تحديد أسعار الخبز الفينو والسياحي منافذ البيع، بالإعلان عن الأسعار في أماكن ظاهرة للمستهلكين.
الحرب عمقت الأزمة
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفعت أسعار الحبوب بينها القمح، حيث تعتمد مصر على روسيا وأوكرانيا كمصدرين رئيسيين في هذا الخصوص، وتبلغ نسبة ما تستورده من البلدين حوالي 80 %.
لكن القاهرة بعد الحرب، نوعت مصادر الإمداد، والتي شملت رومانيا وفرنسا وأمريكا وبلغاريا، ذلك أمام مخاطر تعثر وصول شحنات القمح لأسباب؛ تتعلق بالأسعار أو ظروف الحرب نفسها. ما يصعب الحصول على القمح فضلا عن توافره في ظل الحرب.
، ويعتمد ما يقرب من ثلثي المصريين على الخبز المدعم، وهو ما يشكل تحديا حقيقيا، إذ يتطلب ذلك سنويا توفير 2.9 ملياري دولار، وهو ما يمثل نسبه 2.6 % من الميزانية.
ارتفاعات جديدة
ارتفعت أسعار الخبز الحر، خلال أغسطس الماضي، بنسب تراوحت بين 25 % و 33 %، بررت المخابز ذلك بارتفاع أسعار الدقيق مع تهاوي الجنيه أمام الدولار.
وصل سعر الرغيف البلدي الصغير، وزن 60 جراما، إلى 1.25 جنيها بزيادة 25 قرشا، والمتوسط وزن 90 جراما من 1.5 جنيه إلى جنيهين، والكبير وزن 110 جرامات من 2.5 جنيه إلى 3 جنيهات، ولجأت بعض المخابز إلى تصغير رغيف الخبز “الفينو” المخصص لعمل الساندوتشات، للمحافظة على سعر القطعة التي تباع بجنيه واحد.
لم يكن غريبا، أن تقوم الحكومة بشراء القمح المنتج محلياً من شركات إماراتية، عبر قرض قيمته 500 مليون دولار.
سد النهضة والتغير المناخي
ما زالت مصر لا تستطيع تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح، تكفي المساحات المنزرعة نصف الاستهلاك بالكاد، وتستورد الباقي، مما يجعلها أكبر مستوردي القمح عالميا، هذا يعني، أنها عرضة بشكل أكبر لظروف الحرب الحالية وتقلبات السوق.
ليس ذلك التحدي الوحيد، فهناك أزمة هي تآكل المساحات الزراعية التقليدية في وادي النيل، والتي يزحف عليها التوسع العمراني في وقت غاب فيه التخطيط العمراني.
تحذر دراسات عدة من مخاطر على الأراضي الزراعية، وكذلك تقلص الموارد المائية، وكلاهما يهدد زراعات الحبوب التي ما زالت تعتمد على وسائل ري تقليدية، هذا بجانب مخاطر التغير المناخي من ملوحة الأراضي، وغرق أراض زراعية في الدلتا، أو تقلبات جوية قاسية، تخفض إنتاج المحاصيل ومنها القمح.
بجانب ذلك، هناك تحدي نقص المياه المحتمل، نتاج سد النهضة الإثيوبي، والذي يمكن أن يحجز كميات من المياه تعرض النشاط الزراعي للخطر، لأنها فعليا تتحكم في محبس المياه حاليا، ويدور التفاوض حول حصة مصر من مياه النيل، وهو ما ترفضه القاهرة، خشية أن يشكل عائقا لنشاط الزراعة الذي يعمل فيه، ما يقارب ثلث القوى العاملة.
ويعتقد البنك الدولي، أن زراعة 5 ملايين طن أخرى من القمح، بالإضافة إلى 20 مليون طن، تستهلكها البلاد الآن كل عام، ستتطلب 5.5 مليارات متر مكعب إضافية من المياه، أي ما يعادل 10 مليارات متر مكعب أخرى من المياه.
سارت مصر في إطار التكيف مع أزمة المناخ، وسد النهضة معا، إذ ستنفق ما يقارب 246 مليار دولار، على تدابير التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه بحلول عام 2030. وهو ما يمثل 10 % من الناتج المحلي سنويا، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لبلد يعاني من أزمة اقتصادية.
خطورة إلغاء دعم الخبز
هذه التحديات وتدفع الحكومة إلى إعادة التفكير في دعم الخبز، والذي سبق وتم طرحه من قبل خلال 2014 و 2016. وربما يٌطرح بدلا من الخبز المدعم، وكما جرى في السلع التموينية، إبدال الخبز بتحويلات نقدية، ستكون أقل من تكلفة الاستيراد للقمح، لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر سياسيا، ويمثل معضلة، وإخلالا بالأمن الغذائي الذي يتراجع فعليا.
مع ارتفاع السلع الغذائية بشكل متواتر، خاصة فى العام الأخير، شهدت بعض السلع زيادة تفوق 400 بالمائة، ولم يترك الارتفاع حتى الخضراوات، كما الخيار والطماطم والبصل ناهيك عن الفواكه.
ستكون خطوة المساس بالخبز أكثر قسوة، لأن هناك 30 بالمائة من الفقراء يستطيعون تدبير الغذاء بصعوبة شديدة، إذ حرر الخبز المدعم، وسقط من أولويات الحكومة، فإن الأزمات المعيشة ستتصاعد بدرجة أكبر.