تعددت وتنوعت المداخل؛ لتحليل وفهم معضلة الدولة الحديثة في مصر في طوريها الخديوي / الملكي والجمهوري، وذلك ما بين سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي، وما بين إيديولوجي وغير إيديولوجي ، وجيبوليتيكي بالطبع، كما هو الحال عند الراحل الكبير جمال حمدان، لكن في كل هذه المداخل، وعلى تنوع الباحثين والمفكرين، فلا خلاف على وجود أزمة مزمنة، ومستعصية على الحل، تبقي مصر في حالة، ماقبل الحداثة، وماقبل الديمقراطية، وتحت خط التنميةن والمستوى المعيشي العصري، فضلا عن اطراد تآكل المكانة الإقليمية والدولية.
كما يظهر من السطور السابقة، يمكننا القول، إن كل تلك المداخل صحيحة، ومفيدة كل على حده، أو مجتمعة، ولكن حسب رأيي، فإن خلاصتها في مجمل تاريخ الدولة المصرية الحديثة، هي أن القادرين على الإصلاح كانوا غالبا غير جادين فيه، وأن المطالبين بالإصلاح كانوا لايملكون أدواته في الغالب، والإصلاح الذي نقصده هنا هو وجود نظام مستقر للحكم والإدارة الرشيدين، يكون خاضعا للقانون، وقابلا للمراجعة والتصحيح والتغيير السلمي، ومن ثم تتوازن أو تنسجم علاقاته مع حاجات، وقدرات وحركة المجتمع، أو على حد وصف سعد زغلول، يكون نظاما لا ينظر فيه الشعب إلى الحكومة نظرة الطائر إلي الصياد.
قد يكون مفهوما- ولا أقول مقبولا- أن تبقى بعض مواريث العصور الوسطى، والتقاليد المملوكية مؤثرة في علاقة محمد علي مؤسس الدولة المصرية الحديثة، وخلفائه بالمصريين، بمعنى أن الأسرة العلوية تأسست كأسرة حاكمة امتدادا للتقليد المملوكي، أي الحق التاريخي في امتياز الحكم، أو السلطة لعرق غير مصري، فيكون بطبيعته خارج علاقات الإنتاج، وخارج العلاقات المجتمعية بكافة أشكالها، وفي الوقت نفسه له حق ممارسة، ما تكفله السلطة من أدوار، ووظائف وامتيازات كحيازة الثروة، والجباية والعقاب، والعطاء…. إلخ، دون حسيب أو رقيب.
بالطبع، كانت هذه المواريث والتقاليد تتضاءل أو تتوارى تدريجيا، مع ظهور طبقة المتعلمين العصريين، والانخراط في السوق الرأسمالية الدولية، بما فتح البلاد لمختلف المؤثرات والعلاقات الحداثية،ولكن بقي مترسبا في عقول، ووجدان الحكام العلويين الإيمان، أو الشعور بعدم جدارة المصريين أصلا؛ للمشاركة في السلطة، بما ينتقص من السلطة المطلقة لهؤلاء الحكام، والأمثلة كثيرة منها، تحذير رياض باشا رئيس نظار الخديوي إسماعيل، لأعضاء أول مجلس نيابي من “أخذ الحكاية جد “، فضلا عن إسماعيل، لم يقبل تشكيل مجلس نظار إلا تحت الضغط البريطاني الفرنسي بسبب؛ أزمة الديون ،وأما إنشاؤه لمجلس نيابي، فكان للمناورة به علي تلك الضغوط الأجنبية، أي أن من بيده الإصلاح لم يكن جادا فيه، كما سبق القول، وهو ما تكرر مع توفيق، وعباس وفؤاد وفاروق، فمثلا، فضل توفيق استدعاء الاحتلال البريطاني علي الاستجابة؛ لمطلب المشاركة ومسألة الحكم؛ ليبقى المصريون (عبيد إحساناتهم )، فيما ظل ابنه عباس حلمي-رغم بدايته الواعدة- يرفض منح المصريين دستورا ،ولم يتعهد به إلا بعد أن خلعه الاحتلال، وأما موقف الملكين، فؤاد وفاروق من الدستور والمشاركة الشعبية من خلال حكم الأغلبية، فلعله أشهر من الإفاضة فيه، ولكن مما له دلالة رمزية كبرى، هنا أن رئيس ديوان الملك فؤاد حسن نشأت كان وراء محاولة اغتيال سعد زغلول، عنوان مبدأ وثورة الأمة فوق الحكومة.
نعود إلى قولنا، فيما سبق، أن هذا قد يكون مفهوما-وليس مقبولا- من حكام الأسرة العلوية؛ للأسباب سالفة الذكر، فلماذا إذن يتكرر ويطرد رفض المشاركة الشعبية، في دولة يوليو ١٩٥٢، الجمهورية التي أعادت السلطة كاملة، غير منقوصة لأبناء الفلاحين، وأولاد البلد المصريين، والذين لا شبهة في انتمائهم للدم، والعقل والوجدان المصريين؟ وأكرر أن المقصود بالمشاركة هنا، هو خضوع الحاكم والمحكوم للقانون، وقابلية السلطة للمساءلة، والتغيير السلمي بواسطة المواطنين أنفسهم، باعتبار أن ذلك هو الطريق الأقصر، والأضمن للحكم الرشيد، والإدارة العامة الناجحة.
المفارقة الأكثر مدعاة للدهشة، أن جميع الرؤساء في دولة يوليو استشعروا الحاجة إلي هذا الاصلاح، وأن بعضهم نوه إليه، أو تعهد به، لكن لا أحد منهم أكمل الطريق، إن لم يكن بعضهم قد انقلب علي نفسه.
فإذا بدأنا بجمال عبد الناصر، فإنه بعد أن صنف الرأسمالية الوطنية ضمن تحالف قوي الشعب العاملة، ضمن وعد بالإصلاح، والقيادة الجماعية بعد انفصال سوريا عن دولة الوحدة، وعاد وأمم هذه الرأسمالية بالكامل تقريبا، وبعد أن تعهد في بيان ٣٠ مارس بالانفتاح السياسي، وسيادة القانون، عاد وأجرى، ما عرف بمذبحة القضاء.
عدم الجدية هذه في الإصلاح السياسي، تنطبق على الرئيسين السادات ومبارك، رغم استشعارهما الحاجة إليه، والإيحاء بالإقدام عليه، والأمثلة عديدة نكتفي منها باعتماد مبدأ تزوير الانتخابات، وتصنيع البرلمانات، وحجب المعلومات، وعموم الإدارة الأمنية البيروقراطية للمجال العام، فضلا عن استمرا الحكم بالطوارئ، مما فجر الصراعات داخل النظام ذاته، كما هي طبيعة النظم المغلقة.
لا جدال، أن السبب المشترك في كل تلك التجارب هو الرفض الغريزي؛ للانتقاص من السلطة الفردية المطلقة، جنبا إلى جنب مع التخوفات الأمنية على الكرسي ذاته، بما أن الوجود فيه ليس راجعا دائما إلى الرضا الشعبي، أو التداول السلمي للسلطة.
كان يقال لتبرير هذا الإحجام، أو التردد في الإصلاح السياسي، إنه لا يوجد في مصر طلب شعبي حقيقي على الديمقراطية، ولكن ثورة يناير كذبت هذا التفسير، لذا فإن الانتخابات الرئاسية الوشيكة ستكون- في نظري- هي الفرصة الأخيرة – كما يجب أن يكون- لتدشين مسار متدرج، ولكن متصل للتحول الديمقراطي، نحو مشاركة المحكومين، وإطلاق طاقات المجتمع، فعلى الرغم من كل المؤشرات المحبطة، ينبغي الانتباه، إلى أن تجارب جميع رؤساء يوليو السابقين، تثبت أن التردد في الإصلاح، والرهان على عدم امتلاك المطالبين به لأدواته، وكذلك المناورة على حركة التاريخ، كانت نتائجها وخيمة، فجعلت من مصر شبه دولة، أو أشلاء دولة بتعبير الرئيس السيسي نفسه.