يوشك الشرق الأوسط بكل حروبه وأزماته واحتقاناته، أن يدخل حقبة جديدة في تفاعلاته وحساباته بتداعيات “طوفان الأقصى”.
بقوة الصور، شاهد العالم كله إذلالا غير مسبوق للجيش الإسرائيلي، الذي قيل عنه طويلا وكثيرا، أنه لا يقهر، وبدا الفشل الاستخباراتي في توقع العملية العسكرية التي شارك فيها أكثر من ألف فلسطيني، مزريا.

رغم المجازر وجرائم الحرب التي ارتكبت بداعي الانتقام من غزة، سكانها ومبانيها ومظاهر الحياة فيها، تأكدت مجددا الحقيقة الأساسية في الصراع العربي الإسرائيلي، أن القضية الفلسطينية تستعصي على الإلغاء أو الإنكار، ومحاولات فرض سلام القوة على شعبها.

دخلت الولايات المتحدة على خط الحرب بكامل ثقلها السياسي والعسكري، أرسلت حاملة الطائرات “جيرالد فورد” إلى شرق المتوسط قرب إسرائيل في رسالة مباشرة إلى أية أطراف إقليمية، إيران وحزب الله على وجه الخصوص، خشية أن تحاول استغلال الوضع الإسرائيلي المتدهور لفتح جبهة جديدة.

ثم عادت، لتقول إنه لا يوجد دليل على أي دور إيراني في عملية “طوفان الأقصى”.. وبدورها نفت “حماس” أية أدوار إقليمية في تلك العملية.

إنها رسائل وليست حقائق.

من غير المستبعد، أن يدخل حزب الله مواجهة واسعة على الجبهة الشمالية، لا الاكتفاء بالمناوشات الجارية الآن، إذا ما اقتحمت إسرائيل غزة بريا.
حسب التصريحات الأمريكية والإسرائيلية، فإن هناك نوعا من التنسيق العسكري والاستخباراتي بشأن؛ مجريات الحرب وأهدافها.

المعنى، أن الولايات المتحدة طرف مباشر في الحرب بذريعة حق إسرائيل في حماية أمنها على النحو الذي تدخلت به في أكتوبر (1973)؛ لإنقاذها من هزيمة ساحقة، حين طلبت وقف إطلاق النار بعد أسبوع واحد، وفتحت بالوقت نفسه جسرا جويا؛ لنقل الأسلحة والذخائر إليها.

بعد نصف قرن، لقى الجيش الإسرائيلي هزيمة مذلة أخرى على يد مقاومة مسلحة،تتمركز في قطاع محاصر وفقير، لا بسلاح بلد بحجم مصر، عبأت قدراتها ومواردها لست سنوات كاملة من أجل؛ تحرير سيناء المحتلة.

الهزيمة الميدانية مخزية، وتثبت أن إسرائيل لا تقدر على تبعات الصراع، دون دعم الولايات المتحدة.

أعلنت إسرائيل الحرب، وفرضت حالة الطوارئ، واستدعت (360) ألفا من قوات الاحتياط للخدمة.

وأعطت الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر؛ للتنكيل بغزة وهدم أحياء بكاملها وقطع الكهرباء والمياه والطاقة عنها، دون أدنى التفات إلى جرائم الحرب التي ترتكب بحق المدنيين العزل، ونزوح (250) ألف فلسطيني؛ هربا من الموت المحقق.

الإفراط في الانتقام من غزة، استهدف رد اعتبار الجيش الذي أُذِل في المواجهات المباشرة، لكن ما جرى يصعب نسيانه، أو تجاهل أثره.

إذا لم يكن بمقدوره، أن يحمي إسرائيل، فكيف يسوغ التطبيع، وعقد معاهدات سلام معها باسم قدراتها العسكرية الفائقة على حفظ الأمن الإقليمي؟!

ثم.. ما جدوى مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند، والإمارات والسعودية والأردن وإسرائيل وأوروبا، إذا لم يكن ممكنا تأمين خطوط مواصلاته؟

الحرب سوف تطول، وقد تتسع.

الغزو البري؛ لغزة احتماله قائم، غير أن البقاء فيها مستحيل.

من الخطط شبه المعلنة إنشاء شريط أمني كالذي شيدته في جنوب لبنان، وهو محكوم عليه بالفشل المسبق.

تقسيم القطاع إلى ثلاثة تجمعات؛ للسيطرة عليه مخطط آخر، وهو بدوره محض وهم.

المعضلة الإسرائيلية هنا، أن غزة لا تدخل في المطامع التوسعية التوراتية.

بتعبير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق “إسحاق رابين”، الذي أبلغه للرئيس الفرنسي في ذلك الوقت “فرانسوا ميتران”، أنه يتمنى أن يستيقظ من النوم فلا يجد غزة على الخريطة.

“ميتران” نقله إلى صديقه الأستاذ “محمد حسنين هيكل”، الذي أعلنه للعالم بأسره.

إثر توقيع اتفاقية أوسلو (1993)، أطلق على المرحلة الأولى فيها “غزة وأريحا أولا”.

ترددت في ذلك الوقت على نطاق واسع عبارة “غزة وأريحا.. أولا.. وأخيرا”، وقد ثبتت صحتها على مدى ثلاثين عاما.

أرجو أن نتذكر، أن مؤتمر مدريد للسلام الذي دعيت إليه أطراف الصراع العربي الإسرائيلي، عقد بعد تطورين مهمين.
الأول: انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي.

الثاني: الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

قفزت القيادة الفلسطينية إلى أوسلو؛ خشية أن تبرز في مدريد قيادة بديلة، يعبر عنها الأكاديمي الراحل “حيدر عبدالشافي”، وكان ذلك خطأ فادحا، أفضى إلى تكريس الحلول الانفرادية التي بدأها الرئيس المصري “أنور السادات” بزيارة القدس عام (1977).

في مدريد أطل لأول مرة على الرأي العام العالمي “بنيامين نتنياهو” متحدثا رسميا باسم الوفد الإسرائيلي.. فيما برزت الدكتورة “حنان عشراوي” متحدثة باسم الوفد الفلسطيني، وقد بدت أكثر إقناعا وتأثيرا بما لا يقاس.

بعد انقضاء المواجهات الحالية، سوف تذهب الحسابات الأمريكية والغربية، بقوة المصالح قبل أي شيء آخر، إلى طرح صفقات سياسية جديدة تستهدف أولا: الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين.. وتستهدف ثانيا: طرح مبادرات؛ لتسوية ما؛ لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي باسم “حل الدولتين”.

الشق الأول، من الصفقة المحتملة يلخصه سؤال: “ما المقابل؟”.

“حماس” لديها مئات الأسرى و”الجهاد”، أعلنت إنها أسرت (30) إسرائيليا.

في صفقة سابقة؛ لتبادل الأسرى عام (2011)، أفرجت إسرائيل عن (1027) فلسطينيا،ة مقابل الجندي “جلعاد شاليط”، الذي أسرته “حماس” لمدة خمس سنوات.

الثمن هذه المرة لا بد، أن يشمل كل الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية بمن فيهم “مروان البرغوثي” أبرز رموز “فتح” و”أحمد سعدات” الأمين العام لـ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.

بالنسبة لإسرائيل، وحليفتها أمريكا، فإن استعادة من تطلق عليهم “الرهائن” أولوية مطلقة.

وبالنسبة لـ”حماس” و”الجهاد”، فإن الملف مؤجل لحين انتهاء القتال.

بأي نظر في طبيعة الحكومة الحالية، فإنها لا تقدر على تحمل الموقف، الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين يسقطها ورفض الصفقة يسقطها أيضا.
هذه معضلة، يصعب تجاوزها في الحسابات، وموازين القوى الإسرائيلية الحالية.

الشق الثاني، يرمز إليه سؤال آخر: “مدى استعداد إسرائيل بتركيبة حكومتها الأكثر تطرفا في التاريخ الإسرائيلي؛ لإخلاء أية مستوطنات في الضفة الغربية، حتى يكون ممكنا إعلان دولة غير مقطعة الأواصر؟”.

الإجابة باليقين: لا يوجد مثل هذا الاستعداد.

بإيحاء أمريكي، طرحت فكرة إنشاء “حكومة طوارئ” في إسرائيل؛ لترميم الوضع الداخلي المنقسم بفداحة على خلفية أزمة التعديلات القضائية، وتقليص صلاحيات المحكمة العليا، وإضفاء قدر من كفاءة المناورة السياسية في نفس الوقت باسم البحث عن تسوية.

إزاحة اليمين المتطرف من التشكيلة الحكومية، ليست مسألة يسيرة والإبقاء عليه تهديد وجودي لإسرائيل نفسها.

وفي الحسابات المتغيرة التي تضغط على صانع القرار الأمريكي، التداخل الاستراتيجي المربك بين حربي أوكرانيا و”طوفان الأقصى”.

الأولى، قد يولد من تحت نيرانها نظاما دوليا جديدا، تتحدد على أساسه حسابات وموازين القوى الدولية لحقب طويلة مقبلة.

والثانية، قد تربك موازين القوى في الشرق الأوسط، بما يمثله من مصالح استراتيجية لا غنى عنها.

لم يكن سحب حاملة الطائرات “جيرالد فورد” من قرب أوكرانيا إلى شرق المتوسط قرب إسرائيل حدثا، استدعته حسابات الردع وحدها بقدر، ما كانت خطوة ضرورية؛ لاثبات قدرة الإدارة الأمريكية الحالية على إسناد الحليف الإسرائيلي قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة.

بقدر آخر، فإنه محاولة للإفلات من مأزق إدارة تضع على رأس أولوياتها الحرب الأوكرانية، بعد أزمة التمويل الحكومي التي كادت، أن تغلق المؤسسات الفيدرالية، وجرى تجاوزها بصعوبة بالغة في الساعات الأخيرة، مقابل صفقة مع رئيس مجلس النواب الجمهوري “كيفين مكارثي”، أوقِفت بمقتضاها أية مساعدات؛ لأوكرانيا لمدة خمسة وأربعين يوما.

على خلفية تلك الصفقة، جرى عزل رئيس مجلس النواب لأول مرة في التاريخ الأمريكي، بما يؤكد أن الجمهوريين، سوف يكونوا أكثر تشددا عند إعادة النظر في التمويل الحكومي.

وقف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، يضع أوروبا و”الناتو” في مأزق كبير.

روسيا بدورها تحاول الاستثمار الاستراتيجي في أزمة التمويل بأمل تشقق التحالف الغربي تحت ضغط أزماته الاقتصادية، فيما الصين ترقب ما يحدث على جبهتي أوكرانيا وفلسطين.

بتلخيص لأهم نتائج تلك الحرب: لسنا ضعفاء.. وليسوا أقوياء.