إن الاعتراف الدستوري بمبدأ استقلال القضاء، هو من الأهمية بمكان، ذلك اعتماداً على كون الوثيقة الدستورية، هي أسمى وثيقة في البلاد، والتي لا يجوز بأي حال من الأحوال للتشريعات، والقوانين الأخرى بمخالفتها، وعلى الرغم، من أن الدساتير غالبا ما تنص على الفصل بين السُلط الثلاث المعروفة، فإن هذه الدساتير غالبا ما تكتفي بتبيان الخطوط العامة والأساسية للسلطة القضائية تاركة مسألة التفصيل فيها للقوانين العادية. هذا في الوقت الذي تحرص فيه على إيلاء الاهتمام اللازم؛ للسلطتين التشريعية والتنفيذية، بحيث تفصل مهام كل منهما، وكذا طبيعة العلاقة التي تربط بينهما. لذلك، فعلى الرغم، من أن أغلب الدساتير في العالم تنص على مبدأ استقلال القضاء، إلا أنه يتم في الكثير من الأحيان إفراغ هذا المبدأ من دلالاته، ومعانيه السامية عن طريق سن قوانين خاصة بتنظيم الجهاز القضائي. ذلك بخلاف ما أكدته المواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان من حرصها الدائم على دعم مبدأ الاستقلال القضائي، ومنع تداخل السلطات الأخرى فيها.
وفي هذا السياق، ولأجل بيان معنى استقلالية السلطة القضائية كضمانة مقررة لها بموجب القوانين، تمنع عنها التدخل، وتضمن لها الحيدة والنزاهة في الأداء، وتغرس الثقة في نفس المواطن بحسب كونه الجهة التي تطبق القوانين، بل وتحمي قوانين الدولة من أي انتهاك، وترعى حقوق المواطنين، ولذا أجمعت كافة القوانين الأساسية السائدة في عالم اليوم (مواثيق ودساتير وقوانين) على اعتبار السلطة القضائية (هيئات المحاكم والنيابات) هيئات قضائية، لا تخضع في عملها سوى للقانون والضمير، وبالتالي يحظر على كافة الجهات الأخرى التشريعية منها، والتنفيذية، التدخل في عملها ضماناً؛ لمبدأ حياد القاضي الذي يجسد استقلال القضاء، ولذلك درجت الدول ومن بينها الجماهيرية الليبية، منذ نشأتها على تضمين قوانينها الإجرائية، ولا سيما منها قانون نظام القضاء، وقانوني الإجراءات الجنائية والمرفعات المدنية الضمانات الكفيلة باستقلال القضاء وحياد القاضي، وذلك من خلال منع التأثير على استقلاليته أوالتدخل في نشاطه.
كما يمثل استقلال القضاء نموذجاً معبراً عن مدى وجود حالة من الديمقراطية، بحسب كون الأساس الحاكم، هو الفصل بين السلطات والتوازن بينها، وفي حقيقة الأمر، إن وضعية السلطة القضائية، وعلاقتها بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في أي نظام سياسي، يمكن أن يحدد طبيعة العلاقة بين السلطتين التشريعية، والتنفيذية في ذلك النظام، ومقدار ما تتمتع به كل منهما من استقلال في مواجهة الأخرى، وهو ما يضمن تحقيق التوازن فيما بينها، ومن ثم يدعم ممارسة الديمقراطية. ويرتبط ذلك بالدور الذي من الممكن أن تلعبه المؤسسة القضائية، كمرجعية نهائية في الفصل في طبيعة العلاقة بين جهات التشريع، وجهات التنفيذ، إلى جانب دورها في الحكم على دستورية القوانين، والتشريعات الصادرة عن المؤسسة البرلمانية، ومشروعية ودستورية أفعال الجهات التنفيذية.
ولا حاجة إلى القول، بأنّ انسجام النصوص القانونية ومعايير الديمقراطية تكمله أعمال القضاء، ومن هنا يظل وجود سلطة قضاء مستقلة ضمانة أساسية؛ لاستقرار الدول والمجتمعات، وحجر أساس في مفهوم سيادة القانون. ولا يتأسس الأخير إلا في ظل قضاء مستقل ونزيه، ينشط في وظيفة الفصل في القضايا، بما فيها تلك التي تكون الدولة أحد أطرافها. والحال أنه لا يتصور حياد القاضي في المنازعات بين الدولة والمواطنين، سواء في المحاكمات الجنائية أم القضايا الإدارية، إلا بتحقق عناصر الاستقلال القضائي والنزاهة. وبهذا المعنى يفهم القضاء المستقل بوصفه عنصرًا رئيسًا من عناصر الرقابة الفاعلة على أداء أجهزة الحكومة للوظائف العامة، وأداة ضرورية؛ لفرض سيادة القانون وتعزيزها، تضمن فاعلية الهياكل السياسية وخضوعها للمساءلة.
ومن هنا، فهل تحرص السلطة التنفيذية على ضمان مبدأ الاستقلال القضائي، وهل من زاوية ثانية هل الحكومة ترتضي بذلك المبدأ كقيمة حاكمة لها وللمواطنين؟ أم أنها تسعى بشكل أو بآخر إلى تسخير ذلك المبدأ؛ لصالح استحواذها على السلطة القضائية، وضمان ولوجها عليها وقتما يعن لها ذلك، وكيفما يتوافق ذلك مع رغبتها. أرى أن هناك سعيا مستمرا، منذ زمن طويل؛ لضمان تدخل السلطة التنفيذية في مقررات القضاء، بما يعني نفاذها داخل السلطة القضائية، وهو الأمر الذي يهدر قيمة مبدأ الاستقلال القضائي بشكل كبير.
وإذا ما تطرقنا فقط إلى باب التشريع الفرعي عن طريق السلطة التنفيذية، ستجد أن الحكومة قد استغلت ذلك المدخل الدستوري، والمحدد لأغراض بعينها حتى تؤطر عمل السلطة القضائية، وإذ كان مقررًا في الأصل، أن للسلطة التنفيذية أن تصدر قرارات لها قوة القانون، وذلك في حال غياب المجلس التشريعي، أو عدم انعقاده لأي سبب. ينعت الفقه هذه الحالة بحالة “تشريع السلطة الفعلية”، وهو التشريع الذي يصدر عن السلطة التنفيذية في أحوال غير منصوص عليها دستوريًا، أو غير ممنوحة لها بمقتضى الدستور.
وهناك العديد من الأمثلة التشريعية الواقعية في مصر، والتي تعبر بلسان الواقع، على أنه لم تكن هذه التشريعات، سواء أكانت قوانين أم قرارات بقوانين، لتصب في خانة الحفاظ على استقلالية السلطة القضائية، أو استقلال القضاة حال أدائهم مهمات وظائفهم، بل الملاحظ، أنها كانت تسعى نحو تأميم استقلال السلطة القضائية باعتبارها “سلطة مستقلة”، والعمل على إخضاعها؛ لتدخلات السلطة التنفيذية، سواء من خلال التعيين أو الندب أو النقل، أو من خلال المخصصات المالية، أو من خلال الاستحواذ على كيفية تعيين رؤساء الهيئات القضائية.
ومن بين تلك الأمثلة على المستوى الحديث قرار بقانون رقم 26 لسنة 2014، بتعديل أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا: وذلك فيما يخص استثناء الطعون الدستورية المتعلقة بقوانين تنظيم الانتخابات الرئاسية، أو البرلمانية من الإجراءات المعمول بها أمام المحكمة الدستورية العليا، سواء من حيث مواعيد رفع الطعون، أو إجراءات التقاضي، أو مدى الحكم فيها، وكذلك القرار بقانون لتعديل قانون محكمة النقض رقم 11 لسنة 2017: بمقتضى ذلك التعديل صار لمحكمة النقض، بدلًا من أنها كانت تقضي بنقض المحكمة، وتعيد القضية إلى محكمة الموضوع، أن تقبل النقض، وتقضي هي نفسها في الموضوع، وأن تعدّل الخطأ في القانون الذي كان في حكم محكمة الموضوع، دون إعادة القضية له. وبموجب هذا أيضًا صار النقض مرة واحدة.
وهو ما يعد دليلاً دامغاً على استغلال السلطة التنفيذية، لتلك المكنة الدستورية المخولة لها؛ لأغراض ذات دلالة وطبيعة استثنائية، دون أن يكون هناك مدعى لذلك للولوج إلى السلطة القضائية، والعبث بمبدأ الاستقلال القضائي، وهذا وإن كان بعيداً عن الهدف المقرر للنفاذ التشريعي المؤقت، فإنه يتنافى مع قيمة الاستقلال القضائي، كما أنه من ناحية مغايرة هناك العديد من النظم الدستورية التي تحدد المواضع المقرر النفاذ التشريعي لها من قبل السلطة التنفيذية في أحوالها، وهناك أمور محرم على السلطة التنفيذية الاقتراب منها، ومن تلك الأمثلة الدستور البرازيلي الذي يمنع السلطة التنفيذية من استخدام تلك الصلاحية الدستورية في الاقتراب من السلطة القضائية أو المساس بها، وهذا ما يحتاجة المجتمع المصري بشكل عاجل وليس آجل، بما يضمن للسلطة القضائية الحيادية اللازمة لها في تطبيقها لأعمال القانون.