تبدو أزمة غزة الراهنة من أعنف الأزمات الإنسانية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، منذ فترة طويلة نسبيا، وقد تكون مؤشرا مهما لقياس طبيعة علاقات العرب، ومساراتها مع القارة الإفريقية في المرحلة الراهنة، والتي طالما شهدت اهتماما بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، وكان لها أدورا تاريخية؛ لمساندة الحق العربي في هذا الإطار، خصوصا ككتلة تصويتية وازنة في الأمم المتحدة.
معطيات المؤشر الذي نستطلعه في هذا المقال، يمكن رصدها في عدد من النقاط منها: أن الموقف الإفريقي لم يتبلور، ويتفاعل مع حدث الحرب على غزة إلا مع قصف مستشفى المعمداني، حيث كانت الكارثة على المستوى الإنساني محركا للاتحاد الإفريقي الذي أصدر بيانا بعد بداية الأحداث بأكثر من إسبوع، يستنكر الفعل الإسرائيلي ضد غزة، معتبرا إياه إبادة جماعية، كما غرد موسى فكي رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي رافضا الأداء الإسرائيلي، في أثناء وجوده بالقاهرة على هامش اجتماعات متعلقة بالأمن والسلم في إفريقيا، وذلك في الأسبوع الثاني من الأحداث.
أما على صعيد الدول، فإن دول شمال إفريقيا العربية ظهر فيها حجم الرفض؛ للأداء الإسرائيلي في مظاهرات حاشدة، أما على الصعيد الرسمي، فقد ألغت المغرب رحلات الطيران إلى تل أبيب مؤقتا.
دول جنوب القارة، الموقف الأبرز فيها من حيث القوة، والوضوح، كان لدولة جنوب إفريقيا، وذلك لعدد من الأسباب منها: مقتل رعايا من جنوب إفريقيا في أحداث غزة، وكذلك وجود موقف مسبق لجنوب إفريقيا من السياسيات الإسرائيلية، باعتبارها دولة احتلال فهي لا تستورد منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وأيضا في جنوب إفريقيا جالية فلسطينية نشطة، تمارس نوعا من رفع الإدراك الجنوب إفريقي بحالة السعار الدموي الإسرائيلي ضد الفلسطينين بشكل عام.
وطبقا لهذه العوامل، تكررت مظاهرات ضد الغارات الإسرائيلية على غزة في جوهانسبرج، وذلك بعد أربعة أيام فقط، من الأحداث، كما ظهر رئيس جنوب إفريقيا مرتديا الكوفية الفلسطينية منددا بالقتل العشوائي للمدنيين الفلسطينين، حيث نعت إسرائيل بالخداع وطالب بحل الدولتين، لشعب يكابد الاحتلال، منذ ما يزيد عن سبعة عقود، و تضامن مع هذا الموقف القوي لرئيس البلاد حزب المؤتمر الوطني الحاكم في جنوب إفريقيا، كما نددت وزيرة خارجية جنوب إفريقيا بإسرائيل، وأكدت على موقف بلادها الرافض؛ لعضوية إسرائيل كمراقب في الاتحاد الإفريقي.
الموقف الأهم لجنوب إفريقيا، هو دعوة 33 دولة إفريقية، عضو في المحكمة الجنائية الدولية من جانب مركز العدالة الدولية بجوهانسبرج؛ لتقديم دعاوى اتهام، ضد إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق المدنيين العزل فى غزة، وهي دعوة لم يلاحظ حتى اللحظة الراهنة أية استجابة لها.
ثاني دولة كبيرة في إفريقيا، هي نيجيريا التي تبنت موقف الاتحاد الإفريقي الداعم؛ لحل الدولتين في فلسطين، وذلك طبقا لوزير خارجيتها يوسف توجار، ولكن لم تظهر فيها تظاهرات كبيرة. أما فيما يتعلق بالموقف الإفريقي في مجلس الأمن، فقد أيدت كل من الجابون، وموزمبيق مشروع القرار الروسي بوقف الحرب، والانتهاكات في غزة، بينما امتنعت عن التصويت غانا.
في هذا السياق، فإن ضعف موقف دول جنوب القارة، فيما عدا جنوب إفريقيا عن دعم قضية العرب الأولى، وهي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين طبقا لحل الدولتين، وذلك مقارنة بمواقف إفريقيا التاريخية في دعم القضايا الأخلاقية، والمبدئية بشكل عام، وكذلك ممارسة الإسناد للموقف العربي في شأن قضية فلسطين.
يمكن القول، إن ضعف الموقف الإفريقي يعود الي فاعلية إسرائيلية كبيرة، في إفريقيا حاليا بعد حالة الفراغ التي تركتها مصر، والعرب جميعا في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد، حيث تم التراجع عن الاهتمام بإفريقيا، منذ حقبة الرئيس الراحل أنور السادات الذي قدر، أن دور إفريقيا الوظيفي لمصر قد انتهى بتوقيعه على اتفاقية كامب ديفيد، خصوصا وأن الرجل امتلك مشروعا مواليا للغرب في وقت، كانت ما تزال القارة مخلصة لمشروع التحرر الوطني من الغرب.
وقد تكون أهم المؤشرات على الفاعلية الإسرائيلية حاليا، هي التوجه نحو عقد قمة إفريقية إسرائيلية، ومحاولة الحصول على عضوية المراقب في الاتحاد الإفريقي، وعلى الرغم من أن الطلبين الإسرائليين قد رفضا من جانب الأفارقة على المستوى القاري، فإن ذلك لا ينفي فاعلية تل أبيب على الصعيد الثنائي مع الدول الإفريقية، خصوصا في شرق وجنوب إفريقيا، حيث تنشط في ثلاث مناطق بالسودان منها، جنوبه ومنطقتي دارفور وأعالي النيل، وذلك إلى جانب فاعلية في كل من كينيا، وأوغندا، خصوصا في المجالات الاقتصادية الخدمية كالسياحة.
كما أن التوجه العربي نحو الاتفاقات الإبراهيمية لعب دورا آخر في تقديم الدلائل على انخراط العرب في اتفاقات صلح إضافية، رغم حجم الانتهاكات الإسرائيلية الذي يتم ممارسته، ضد الفلسطينيين، والتي لم تتوقف، حيث لعب الهوى الخليجي في التطبيع مع إسرائيل دورا في تحجيم اتجاهات إفريقية؛ لدعم الفلسطينيين على أسس أخلاقية مواكبة لقواعد القانون الدولي، حيث تحظى دول إفريقية باستثمارات خليجية كبيرة فيها، ولعل حالة إثيوبيا تبدو ممثِلة، إذ أنها تملك علاقات عضوية بإسرائيل، كما تحظى باستثمارات من غالبية دول الخليج في قطاعات صناعية وزراعية.
انقسام السياسيات العربية الرسمية في إفريقيا، والحالة التنافسية التي يمارسها العرب في الكواليس الإفريقية، ضد بعضهم البعض، باتت محل إدراك إفريقي، وبالتالي تقدير أن الموقف العربي لم يعد موحدا بالنسبة لقضايا النظام العربي الرئيسية، وهي وضعية تغري أية أطراف بالتأكيد بتجاهل موقف الإسناد لقضايا العرب.
في هذا السياق، فإنه ربما يكون منوطا بالنخب العربية، ومنظمات المجتمع المدني بها لعب دور أكبر إزاء إفريقيا، وعدم الاكتفاء بمخاطبة، ومحاولة التأثير في السياق الغربي فقط، حيث من المطلوب، أن تتبلور الجهود في اتجاه رفع الإدراك الإفريقي بطبيعة الانتهاكات التي تمارسها إسرائيل، ضد الإنسانية، وعدم احترامها لقواعد القانون الدولي المنظمة للسلوكيات الحربية، وكذلك السعي للتضامن الشعبي الإفريقي مع الضحايا الفلسطينيين، وإبراز الأداء الإسرائيلي كسلوك احتلالي استعماري.
وبطبيعة الحال، فإني لا أشك مطلقا في أن الضمير الإنساني الجمعي الإفريقي هو داعم لكل ما هو حق، وإنساني ذلك أن اضطهاد الشعوب الإفريقية من السلوكيات الاستعمارية العالمية، سواء في الاضطهاد ونهب الموارد التي تم ممارستها ضدهم تاريخيا، هو مماثل لحالة الاضطهاد اللا إنساني الذي تمارسه إسرائيل في فلسطين عموما، وغزة خصوصا، والذي يستوجب وقفة من صاحب كل ضمير، ومن مراجعة لسياسات كل دولة إفريقية، ما زالت صامتة ترى جرائم إبادة جماعية للفلسطينيين ولا تحرك ساكنا.