حتى صبيحة اليوم الثامن عشر في الحرب بين إسرائيل، وبين حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس ) في قطاع غزة ،أي وقت كتابة هذه السطور، لم يكن الاجتياح البري للقطاع قد بدأ، أو لاحت في الأفق بوادر اقترابه.
التفسيرات عديدة ومتنوعة؛ لتأخر بدء العمليات البرية في غزة للإجهاز النهائي علي حماس، كما توعد جميع المسئولين في تل أبيب، السياسيين منهم والعسكريين، وخاصة أنه قد مضى أكثر من أسبوع على الأمر الإسرائيلي لأكثر من مليون فلسطيني بالرحيل من شمال القطاع إلى جنوبه، تمهيدا لبدء الهجوم البري.
أبرز هذه التفسيرات هو الخوف من النتائج السياسية الكارثية؛ لمقتل الرهائن أو الأسرى الإسرائيليين، والأجانب لدى حماس في تلك العمليات، وذلك بالإضافة طبعا إلى السبب العسكري المحض، وهو التخوف من احتمال قدرة الحركات المسلحة في غزة على إفشال الهجوم البري، أو على الأقل تكبيد القوات المهاجمة خسائر بشرية كبيرة، بحيث تجبر صانع أو صناع القرار الإسرائيليين على قبول وقف إطلاق النار، دون تحقيق الهدف السياسي المعلن، وهو استئصال شأفة حماس، وكل حركات المقاومة من غزة.
هذا التخوف له مايبرره، بعد أن ثبت من هجوم حماس الكاسح، والمباغت يوم السابع من أكتوبر، أن الحركة لديها قدرات، وخطط لم تعلم عنها إسرئيل شيئا يذكر، بل لم تخطر على بال أي مسئول إسرائيلي، سواء في الاستخبارات، أو في الجيش، أو في الحكومة، فما الذي يمنع من أن يكون لديها ما تفاجئ به القوات الاسرائيلية، حين دخولها برا إلى غزة؟
و من الوارد أيضا، وبقوة، تفسيرا لتأخر الاقتحام البري لغزة، رغم حشد ما يقرب من ٤٠٠ ألف جندي، على حدود غزة، عدم وجود سياق، أو سيناريو سياسي قابل للتطبيق، بعد أن تسكت المدافع، فإذا افترضنا- جدلا- نجاح إسرائيل عسكريا في اجتثاث حماس، وكل فصائل المقاومة في القطاع ، فماذا بعد؟ : من سيحكم غزة، ويؤمنها؟ ومن سيوفر احتياجات سكانها؟
هل يعود الاحتلال الإسرائيلي الذي انسحب من جانب واحد عام ٢٠٠٥؟ أم تسلم إسرائيل القطاع للسلطة الفلسطينية في رام الله؟
حول إعادة الاحتلال، فقد حذر منه الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه، وأين؟ في قلب إسرائيل، وفي مواجهة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو شخصيا، وذلك خلال زيارة التضامن (الفج والمستفز من وجهة نظرنا)، التي قام بها بايدن لإسرائيل، وأسباب هذا التحذير معروفة، إذ أنها الأسباب نفسها التي فرضت على إسرائيل إنهاء الاحتلال من جانب واحد عام ٢٠٠٥، وهي الأسباب التي فرضت على الولايات المتحدة، الانسحاب من جانب واحد أيضا، وبصورة مخزية من كل من العراق، وأفغانستان، أي نزيف الدماء والأموال في حرب لانهاية لها، ضد مقاومة مسلحة، لديها حاضنة شعبية للحماية والإمداد من كل السكان.
وأما تسليم القطاع لسلطة رام الله، فهو أيضا حل غير عملي، بعد كل سياسات الإضعاف، ونزع المصداقية التي مارستها إسرائيل، ضد هذه السلطة، وتشجيع بل ورعاية الانقسام بين رام الله وغزة، إجهاضا لمشروع حل الدولتين، اللهم إلا إذا جاء تسليم القطاع لسلطة رام الله جزءا من سيناريو أوسع كثيرا ، أي إحياء حل الدولتين، في إطار خطة دولية ملزمة، وبالطبع فستكون هذه هزيمة سياسية ماحقة للمعسكر اليميني في إسرائيل بشقيه ،القومي والديني، وبالطبع كذلك، لن يقبله نتنياهو وائتلافه الحالي، لكن هذا الحل (النظري حتى الآن) يؤكد أيضا غياب السياق السياسي المقنع للحرب الجارية الآن، لدى الجانب الإسرائيلي.
مما يعزز المخاوف من إعادة احتلال غزة أيضا، الرفض المصري الرسمي القاطع، وعلى أعلى مستوى، والمؤيد بإجماع شعبي لمبدأ إعادة توطين الفلسطينيين النازحين من غزة في سيناء، أو توزيعهم على مدن الوادي، مما يعني ابقاء المسئولية معلقة في رقبة إسرائيل، والأهم هو بقاء الحاضنة المجتمعية لأية حركة مقاومة في المستقبل أيضا ، وذلك دون تقليل من قيمة حرص مصر والأردن بالذات على عدم تصفية القضية الفلسطينية، باستقبال نزوح فلسطيني جماعي، يحقق لليمين الإسرائيلي هدفه الأكبر، أي الترانسفير، تمهيدا لضم كل أراضي الضفة، وغزة، وإقامة إسرائيل الكبرى.
إذن فالهدف السياسي المعلن للحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وهو اجتثاث حماس والمقاومة، يصعب تنفيذه عمليا على الأرض، في غيبة سلطة سياسية قوية (غير سلطة حماس) في غزة، وقد رأينا، أن إعادة الاحتلال ليست حلا، وأن سلطة رام الله لا تستطيع أداء هذا الدور، إلا في إطار مسار سياسي نحو حل الدولتين، وهو مسار لا يبدو قريب المنال، بينما قد بدأت حملات الانتخابات الأمريكية، مما يعني عدم القدرة على حشد التأييد المحلي والدولي؛ لفرض ذلك المسار على إسرائيل، بفرض أن الجانب الأمريكي مقتنع بجدية بهذا المسار، الذي نوه به بايدن نفسه أكثر من مرة مؤخرا.
يعيدنا هذا إلى حقيقة انعدام الأفق، أو السياق السياسي للحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وعلى حركة حماس، إلا إذا كان هذا السياق هو الردع والانتقام، أو استعادة الهيبة السياسية والعسكرية، وهذا أيضا مشكوك في جدواه، بما أن هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر الحالي، لم يسقط فقط أسطورة الردع و المناعة العسكرية الإسرائيلية المطلقة، ولكنه أيضا أثبت، أن حماس تزداد قوة بالمعنى العسكري، رغم كل عمليات الردع الإسرائيلية السابقة.
من المهم جدا، أن ننتبه إلى أن الاستعراض السابق لا ينفي تفوق إسرائيل العسكري والاقتصادي الكاسح، ليس فقط على الفلسطينيين، ولكن على كل الإقليم، ولكنه في نفس الوقت يثبت الحقيقة الاستراتيجية البسيطة، والمهمة في نفس الوقت، والتي صكها -كما نعرف- المفكر الألماني كلاوفيتز، وهي أن الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى، فما لم تكن الأهداف السياسية للحرب واضحة وممكنة، فالنتيجة هي الفشل الاستراتيجي، حتى وإن تفوق سلاحك على سلاح خصمك، و ألحقت به ما لا يحصى من الهزائم التكتيكية.
بهذا المعيار، إذا تأملنا قليلا حروب إسرائيل بعد حرب عام ١٩٦٧، فسنجد أنها لم تحقق نصرا خالصا معترفا به سياسيا وعسكريا، أي بالمعنى الاستراتيجي الشامل، فرغم كل الادعاءات، بأنها حولت هزيمة الأيام الأولى في حرب أكتوبر ١٩٧٣، إلى نصر في نهاية الحرب، فإن ذلك ليس صحيحا، لأنه في أفضل الأحوال، ومن وجهة نظر ممالئة لإسرائيل، فإن النتيجة كانت متعادلة، وإلا فلماذا كانت النتائج السياسية لهذه الحرب زلزالا أطاح بمائير وديان و عشرات غيرهم من السياسيين والعسكريين؟، خاصة بعد أن أثبتت لجنة إجرانات للتحقيق، أن السياسة في إسرائيل خذلت السلاح، قبل بدء الحرب.
لكن الفشل الاستراتيجي المترتب على خذلان السياسة للسلاح في إسرائيل، جاء أوضح ما يكون في غزو لبنان عام ١٩٨٢، وفي حرب عام ٢٠٠٦، على حزب الله اللبناني، كما تقدم حالة حماس في غزة تطبيقا آخر؛ لخذلان السياسة للسلاح، على نحو ما شرحنا آنفا من تشجيع إسرائيل للانقسام بين حكومة رام الله، وحكومة غزة، لإجهاض حل الدولتين.
فبالرغم من نجاح الغزو الإسرائيلي للبنان عام١٩٨٢، واحتلال بيروت ذاتها، و إجلاء الفلسطينيين من الأراضي اللبنانية، فإن الناتج الصافي لهذه الحرب كان الفشل الذريع على كل الجبهات، فلا قامت حكومة لبنانية موالية لإسرائيل، ولا عُقدت اتفاقية سلام، و لا بقي الاحتلال الذي انسحب من جانب واحد، على مراحل، وبعد طول مكابرة، واستنزاف لا ينقطع، أمام المقاومة الشعبية، وكما نتذكر، فقد اعتزل مناحم بيجين، الحياة السياسية بالكامل، وانزوى. معترفا بفشله السياسي. وفي الوقت ذاته، لُطخت سمعة إسرائيل؛ بسبب مذابح صابرا و شاتيلا. ثم كان هذا الغزو هو السبب المباشر لظهور حزب الله، بكل ما يمثله في المعادلة الإقليمية أمام اسرائيل، كقوة لا يستهان بها، وهو ما ظهر في حرب عام ٢٠٠٦، التي اعترف الإسرائيليون بعد سنوات، بأنهم هزموا فيها، لأنهم دخلوها، دون تحديد هدف سياسي قابل للتحقيق، والتي أحدثت زلزالا سياسيا في إسرائيل، قضى على المستقبل السياسي لحزب كاديما، وقادته، الذين حاولوا تقديم بديل (يمين وسط ) لليكود والمتدينين، كما كانت هذه الحرب؛ سببا في اضمحلال حزب العمل نهائيا، الذي كان زعيمه عمير بيريتس وزيرا للدفاع في أثناء حرب ٢٠٠٦.
ربما يجدر بنا، أن نتساءل عما وراء هذه الظاهرة، أي عن السبب الأعمق؛ لتكرار خذلان السياسية للسلاح في إسرائيل بعد النصر العسكري الكبير في عام ١٩٦٧، وحتى طوفان الأقصى، و حرب غزة الحالية، ( ما لم يطرأ ما ليس في الحسبان).
البعض يقولون، إن التفسير هو غطرسة القوة؟ خاصة أصدقاء إسرائيل المشفقون عليها في الولايات المتحدة.
لكني أفسر غطرسة القوة هذه، ليس بوصفها حالة نفسية أو عقلية، ولكني أفسرها باعتبارها حسبة سياسية، بموجبها اقتنع زعماء إسرائيل من كل لون سياسي بعدم الحاجة؛ لتقديم التنازلات اللازمة لصنع السلام العادل والدائم مع الشعب الفلسطيني، ومن ثم تقوم الحكومات وتسقط ،وتتشكل الائتلافات وتنفرط، وتجري خمسة انتخابات عامة في ٤ سنوات، هروبا من هذا الاستحقاق التاريخي، أو تأجيلا له، أو رهانا على استسلام الفلسطينيين، فلا يأتي هذا الاستسلام، بل تشتد المقاومة، وتدور الحلقة المفرغة، لتعود السياسة؛ فتخذل السلاح من جديد.