بعد أن صدر الدستور المصري الأخير بتاريخ الثامن عشر من يناير لسنة ألفين وأربعة عشر، بات على عاتق الدولة مجموعة من الالتزامات المرتبطة بتواريخ محددة، وهو ما يعني، أن تلك الحقوق المترتبة عليها باتت مؤجلة بتحقق تلك التواريخ، وكأنما باللغة القانونية، قد أوقفت على مدى زمني واقف لنفاذها، وهذا ما يجعل على عاتق السلطة التزاماً دستوريا بضمان تحقيقها قبل نفاذ ذلك الأجل الدستوري. ولكن هل إذا ما انتهى الأجل المحدد في الدستور؛ لتنفيذ تلك الالتزامات، ألا يعني ذلك، أن الدولة قد استهانت بمبدأ سيادة القانون، وأهدرت احترام الدولة للقانون، وهي بذلك تضرب مثالاً سلبياً للمواطنين في قيمة، وقوة القانون والدستور.
ولا بد، وأن نبين، أن هناك نوعين من هذه الالتزامات، أودرها القانون نصاً، أولهما تلك الالتزامات التي انقضت بالفعل المدة المحددة لتنفيذها، ولكن وبكل أسف لم يتم من ذلك شيء، فقد أورد نص المادة 241 من الدستور، أنه يلتزم مجلس النواب في أول دور انعقاد له بإصدار قانون للعدالة الانتقالية بغرض المحاسبة، وكشف الحقيقة وتعويض الضحايا، ولم يتم ذلك. كما أن هناك التزام ورد بنص المادة 239 بإلزام مجلس النواب خلال مدة خمس سنوات” قد انقضت فعلياً” من تاريخ نفاذ الدستور بإصدار قانون بتنظيم قواعد ندب القضاة وأعضاء الجهات القضائية ، بما يضمن إلغاء الندب الكلي. وأيضا ما ورد بنص المادة 242 من التزام السلطة بتطبيق نظام الإدارة المحلية الوارد تفصيلاً بنصوص الدستور خلال خمس سنوات، وأن يتم ذلك بشكل تدريجي وفقا لما أوردته المادة 180 من الدستور.
مجموعة ثانية من الالتزامات، قد حدد لها الدستور مدة عشر سنوات لتنفيذها، فهناك التزام دستوري قضائي هام، ربما قد يضمن حسن سير مرفق العدالة الجنائية، بالعمل على إنشاء محاكم استئنافية لمواد الجنايات، وهو الأمر المنصوص عليه بالمادة 240 من الدستور، والتي حددت مدى زمني قدره عشر سنوات، لم يتم مناقشة قانون يخص هذا الأمر، هذا إضافة إلى الالتزام المنصوص عليه في المادة 236، بأن تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها في مشروعات التنمية، وفي أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلي، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون، فلم تزل تلك القضايا معلقة، ولم تطرح على موائد البرلمان، فهل تشفع لهم السنتان الباقيتان في هذا الأمد الذي قارب على نهايته، وذلك بحلول عام 2024.
وهنا لا بد من طرح تساؤل مبدئي للسلطتين التشريعية والتنفيذية، فبخصوص الفترة القليلة الباقية، والمتمثلة فيما يقل عن ثلاثة أشهر، فهل يطمح المواطنون، في أن تقوم هاتان السلطتان، خلال ذلك الأمد البسيط بتنفيذ هذين الالتزامين الباقيين، أعتقد أنه بخصوص إنشاء محاكم استئنافية لمحاكم الجنايات، أن هناك رغبة فعلية في تنفيذ ذلك الأمر، خصوصا وما يشجعني على قول ذلك، أنني فعليا قد قرأت مشروع تعديل قانون الإجراءات الجنائية الموجود حاليا في أروقة مجلس النواب، ووجدت أن به فعليا نصوصا خاصة بإنشاء دوائر استئنافية لمحاكم الجنايات، وما يتبقى في ذلك، هو مناقشة القانون وإصداره.
أما عن باقي الالتزامات، فلا أدري عنها شيئا، وهنا فهل تقع الدولة في مغبة المخالفة الصريحة لنصوص الدستور، والعبث بأحكامه ومقتضياته، و لما كانت دولة القانون يجب أن تتسم بجملة مبادئ تُجسد الحقوق، والحريات الإنسانية في الدولة على أساس المواطنة، وهذه الحقوق لا تتحقق بمجرد النص عليها في دستور الدولة، وفي قوانينها، ولا تتحقق بمصادقة الدولة على اتفاقيات ومواثيق دولية؛ بشأن تلك الحقوق والحريات، بل في نظام حكم يعترف، في إطار قانوني وتطبيقي، بحق المواطنين، بأنهم أصحاب ومصدر السلطة الحقيقية. وتصبح الدولة الديمقراطية مرادفة لدولة القانون في سياق نظام سياسي، يقوم على مفهوم المواطنة، هذا التنظيم القانوني والسياسي هو الدولة الديمقراطية- دولة القانون- التي تعترف بخضوع سلطة الحكم للقانون، كحال خضوع المحكومين له، حيث تشكل حقوق وحريات المواطنين في هذا القانون، قيوداً على الدولة.
وبشكل أعمق، فإذا كان القانون يعني تلك القواعد القانونية الناتجة عن عملية التشريع، أو المسطرة التشريعية المحددة في الدستور التي تحتكم لها جماعة معينة، فمنذ وجود الإنسان، وجدت معه قواعد، قام بإبداعها من أجل التحكم في سلوكياته. أما المجتمع بكل بساطة، هو مجموعة من الأفراد يتفاعلون فيما بينهم، وتربطهم علاقات، سواء على المستوى الواقعي أو الافتراضي بغية إنتاج ثقافة معينة.
لكن السؤال المطروح هو، ما هي العلاقة التي تربط بين القانون والمجتمع؟ وهل هناك حاجة للإنسان في علاقاته الاجتماعية للقانون؟. إن إعادة طرح هذا السؤال ليس إلا من أجل التأكيد على أهميته، ومشروعيته في هذا الطرح، حتى يتسنى لنا القول، بأن القانون ليس إلا منظومة من المنظومات المكونة للمجتمع، وهذا ما يعني، أن القانون حقل من الحقول السوسيولوجية، أو أن القانون ظاهرة اجتماعية موجود بيننا بشكل دائم، فرضته علينا حاجة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية.
وهذا ما عبر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إيدجار موران بقوله،إن المجتمع أنتج القانون الذي أنتجه، بمعنى أن هناك نوعا من العلاقة الوجودية بين القانون و المجتمع، فالمجتمع ينتج القانون، وهذا الأخير هو بدوره ينتج المجتمع من خلال تلك القواعد التي يسطرها، وكذا الكوابح التي ينهجها، وذلك ما يتفق والأصل العام، أن يكون المشرع حريصاً على صون حقوق المواطنين وحرياتهم المقررة دستورياً، وألا ينال منها متخفياً وراء ستار من ولايته المنصوص عليها في الدستور، إذا لا يجوز أن تتخذ السلطة التشريعية من اختصاصها في تنظيم الحقوق ستاراً، لإخفاء نواياها في الخروج بهذا التنظيم عن طبيعة الأغراض التي يجب، أن يحرص عليها، حتى وإن حاجج البعض بأن للمشرع السلطة التقديرية في المفاضلة بين البدائل المتعددة حين تنظيم الحقوق، إلا أن ذلك محدود باختياره أفضل تلك البدائل لصون تلك الحقوق، وحمايتها على أكمل وجه، دونما إثقال بالقيود، أو ما يجاوز حد التنظيم بشكل عام.
فما بالنا، والأمر يتعلق بالتزامات تقع على عاتق الدولة التي يجب، أن تضرب المثل للمواطنين في مدى احترامها لوجود القانون بحسبه النسق الذي ارتضته الجماعة لصيانة مبادئها وقيمها، أم أن الأمر لا يعدو في مقامه الأساسي إلا ما ترتضيه السلطة التنفيذية، فهو يكون الحاصل فعلياً بغض الطرف عن القانون أو الدستور.