فتح الحوار الذي أجراه باسم يوسف مع الصحفي والإعلامي البريطاني “بيرس مورجان” جدلا كبيرا، ليس فقط من زاوية تأثيره الكبير على الرأي العام العالمي ومتابعة 15 مليون شخص للحلقة، إنما أيضا للأسئلة التي أثارها في الواقع المصري، خاصة أنه كان أحد الذين تم التشكيك في انتمائه ووطنيته على مدار سنوات.
والمؤكد إنه يمكن الخلاف مع بعض أو كثير من آراء باسم يوسف، ويمكن أيضا ألا تحب طريقته، ومعالجته لبعض أو كثير من الأمور، لكن بات من المهم اعتبار هذه الحلقة، وهذا الحوار فرصة لمراجعه شريط الاتهامات التي طالته، واعتبرته رجل “أجندات” ومندوب للخارج، وجزء من المؤامرة الغربية الأمريكية على مصر، حتى جاء الوقت، واكتشف كثيرون، إنه اختار، وهو يعيش في الغرب والولايات المتحدة، أن ينتقد بحدة مواقفهم من العدوان الإسرائيلي على غزة، دون أي توجيه أو تكليف بفعل ذلك، واختار موقف حر “عكس مصالحه” هناك بأن يكون جزءا من أصوات الضمير، وليس صوت المؤسسات الحاكمة والمهيمنة في الغرب، أو الشرق.
إن الحديث عن باسم يوسف ليس حديث عن شخص، إنما عن تيار أو حالة أو ظاهرة، تمثل نمطا من التفكير، ينطلق من بُعد أساسي، هو الانتماء للقيم الإنسانية العالمية في الحرية والعدل والمساواة، وأن هذا التيار على استعداد، أن يختلف مع نظم بلاده، لو انتهكت هذه القيم، حتى لو رفعت الشعارات الوطنية كل يوم، واعتبرت، أنها تتعرض لكل مؤامرات الدنيا، وتحارب الصهيونية والاستعمار الأمريكي.
والمؤكد أن هناك من يتغاضى في مجتمعاتنا عن قيم الحرية؛ لأسباب يراها أكثر أهمية مثل، محاربة الإرهاب أو تحقيق التنمية الاقتصادية أو مواجهة المؤامرات الخارجية.
والحقيقة أن النظم التي أسست مشروعها السياسي على رفض الديمقراطية أو تأجيلها، وخاصة في عالمنا العربي؛ بسبب ادعاء قيامها بمهام أخرى، وعلى رأسها تحرير فلسطين، فشلت ولم تنجح أيضا في تحقيق التنمية الاقتصادية، واكتفت بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي بالخطب النارية والشعارات.
وقد يؤخذ على بعض من آمن بعالمية قيم الحرية والعدل والمساواة في بلادنا، أنه لم يُراعِ الواقع المحلي لمجتمعه ليس بغرض تكريس عكس هذه القيم، إنما من أجل امتلاك الأساليب، والأدوات القادرة على التأثير في هذه المجتمعات لدفعها نحو تبني هذه القيم.
ولذا فقد ظهر بعض ممثلي هذا التيار أمام المواطن العادي في صورة “الغرباء” عنهم، واعتبرهم البعض الآخر، يعيشون في أبراج عاجية ولديهم استعلاء على خلق الله، ويتكلمون لغة “أجنبية” ( حتى لو عربي)، لا تصل إلي أغلب الشعب الذي يتعرض لحملات تجهيل إعلامية وسياسية منظمة.
صحيح أن برامج باسم يوسف التي قدمها قبل مغادرته مصر في 2015، وخاصة” البرنامج” عرفت نسب مشاهدة عالية، واتسمت “بخفة الدم” إلا إنه لايمكن وصفها، بأنها حملت مشروعا سياسيا جادا وبديلا، إنما نقد ساخر، ورائع فنيا لكل ما يجري في مصر.
والحقيقة أن ظهوره مع المذيع البريطاني كسر جانبا كبيرا من هذه الصورة النمطية “للكوميديان اللي بيضحك”، فظهر في صورة رجل يحمل رؤية سياسية قوية، ومتماسكة دافع من خلالها أمام الرأي العالم العالمي، والمحلي عن القضية الفلسطينية بشكل عميق وساخر، وبطريقة لا ينفع فيها “حنجوري” مدعي الوطنية والقومية في بلادنا، ونجح نجاحا كبيرا في كسر الحدود الفاصلة بين المحلي، والعالمي فوصل لقطاعات واسعة من السياسيين، والنشطاء والمحافظين والليبراليين، والكبار والشباب، سواء في داخل مصر أوخارجها، مستفيدا من منظومة قيمه الإنسانية في الدفاع عن الحرية والعدل والمساواة.
نجاح باسم، في حلقته الشهيرة أكبر من الموقف منه كشخص، ليصل إلي تقييم حالة أو نموذج فالمهارات العلمية، والتاريخية التي امتلكها (بعيدا عن الموقف من أدائه) تقول، إن هذا التمكن من لغة أجنبية لا يعني بالضرورة، أنه أصبح “خواجة” يفكر في القضية الفلسطينية، كما يفكر بايدن أو ترامب أو ماكرون، كما أن إيمانه بقيم إنسانية عالمية كالحرية والعدالة والمساواة، لا يعني، أنه “أجندات” ولا ناقص وطنية، حين يواجه نظما محلية تستبيح هذه القيم.
ما يمثله باسم يوسف ليس مجرد تجربة شخصية، إنما هو نموذج ظل محل اتهام من قبل بعض من تاجروا بالوطنية، وحاولوا أن يقنعونا، إنهم مع القضية الفلسطينية التي تحتاج للدفاع عنها، ناس يؤمنون فعلا بالحرية والعدل والمساواة، وهي مبادئ روجوا لعكسها سنوات، ودعموا الاستبداد، و كرهوا العدل والحرية، فكيف يكونوا مدافعين عن الشعب الفلسطيني؟
أهمية هذه الحلقة، أنها قدمت رسالة جديدة، تقول إن التعليم الجيد والإيمان بقيم إنسانية عالمية، يعني امتلاك فرص أفضل للدفاع عن القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وإن موهبة باسم، وخفة دمه، لم تكن تكفي وحدها؛ لتنجح حلقته كل هذا النجاح، إنما لإيمانه بقيم إنسانية عادلة، جعلت دفاعة عن القضية الفلسطينية، يصل للقلب والعقل، وهذا أمر لا يفهمه من يكرهون العلم، ولا يدافعون عن أي قيم إنسانية عادلة، وفي نفس الوقت، يطلقون الشعارات، ويهتفون بحياة فلسطين وبتحرير القدس، ولذا لن نندهش، أن حلقة باسم يوسف وصلت للإنسانية في كل بقاع العالم، وحلقات الآخرين حتى لو كانت تبث يوميا، لا تصل حتى للجمهور المحلي.