مصرُ قدرها السيادة والقيادة، كل المعطيات ترشحها لذلك، فإذا تراخت عن ذلك القدر، وقعت في المقدور والمحذور، تتوه منها البوصلة، ويتوه منها الطريق، وتضل عن ذاتها، حتى تكاد لا تتعرف على نفسها ولا تكاد تدرك حقيقة ذاتها.

إذا تراجعت مصر عن أن تكون سيد الإقليم وقائده وقعت تحت نفوذ وتأثير من هم دونها تاريخاً وثقافةً ومدنيةً وحضارةً وذوقاً وقوةً مع اختلاف أشكال هذا النفوذ والتأثير من الاحتلال المباشر حتى الهيمنة غير المرئية والتدخل غير الصريح.

فقد جاءها الخطر من شرقها أكثر من مرة وما زال يأتي وسوف يظل، كذلك جاءها الخطر من غربها أكثر مرة وسوف يظل، كذلك جاءها الخطر من جنوبها أكثر من مرة وهو الآن مضاعف وسوف يظل، كذلك جاءها الخطر من شمالها أكثر من مرة وسوف يظل. هكذا قدر مصر خُلقت في قلب دوائر الخطر من الاتجاهات الأربعة، مما يترتب عليه أعلى درجات اليقظة: فإما استعداد للدفاع، وإما استعداد للهجوم. اجتماع دوائر الخطر في وقت واحد لم يكن- في تاريخها الطويل- أوثق مما هو اليوم، فمصر تجد نفسها وقد أحاط بها الخطر من كل جانب.

كل ما نزل، وما زال، ينزل بمصر من المخاطر إنما مرده الغفلة التاريخية عن هذه الحقيقة الصلبة التي صمدت ولا تزال صامدة على مدى يزيد عن خمسة آلاف عام، ففي كل مرة تنازلت أو عجزت مصر عن السيادة والقيادة انفتحت الثغرات ليتسلل إليها من هم أقل منها حضارةً من جوارها القريب والبعيد، سواء بسواء، في العالم القديم أو العالم الحديث.

في القرنين الأخيرين جرب المصريون الشيء ونقيضه، جربوا القيادة والسيادة مرتين، مرةً مع مشروع محمد علي باشا، ومرةً مع مشروع جمال عبدالناصر، وقد انكسر المشروعان، كل لأسبابه، وقد أعقب الصعود الأول جزر سريع إذ لم يعقب الباشا من ذريته من يملك أدوات السيادة والقيادة فارتضوا الخضوع الذي انتهى بالاحتلال. ثم أعقب الصعود الثاني ثورة مضادة قادها خلفاء عبد الناصر وحلفاؤهم في الإقليم وخارجه حتى وصلت مصر إلى ما هي عليه، تتأثر أكثر كثيراً جداً مما تؤثر، وتتكيف أكثر كثيراً مما تفرض إرادتها، وتتواءم كثيراً أكثر مما تعبر عن نفسها بقوة، تخشى العواقب أكثر مما تخاطر. مع فارق أن انكسار صعود محمد علي باشا لم يكن عن هزيمة عسكرية في ميادين القتال، إنما كان عن سرعة استثننائية في تاسيس إمبراطورية إقليمية كبرى تفوق مساحتها مساحة مصر عشر مرات، مما حشد كافة القوى الدولية المهيمنة في النصف الأول من القرن التاسع عشر لمجابهة مشروع الباشا صفاً واحداً وتكتلاً واحداً، حتى جردوه من الإمبراطورية، ولم يُبقوا له غير وادي النيل.

أما في حالة الرئيس عبد الناصر فإن المشروع إذا قورن بالإمكانات والرؤية والتكتيكات كان مثالياً وكان التنفيذ متواضعاً، فانهزم في ميادين القتال حتى انسحب ثلاث مرات، مرة في 1956م، ثم من اليمن 1962- 1967م، ثم في 1967م .

المشروع- نظرياً- كان صحيحاً ، وكان عصارة وخلاصة فكر الحركة الوطنية المصرية في القرنين التاسع عشر والعشرين، لكن أدوات تنفيذه لم تتناسب مع عظمته، وأخطر أدوات التنفيذ ما كان غير مدروس العواقب، فلو كانت القرارات مدروسة لتمهل عبدالناصر كثيراً في مشروع الوحدة مع سوريا 1958م، ثم لتمهل أكثر في التورط العسكري بكامل الجيش في جبال اليمن، ثم لما انساق وراء العقول الساخنة التي أودت به إلى النكسة الكبرى 5 يونيو 1976م، انهزم عبد الناصر لكن تظل رؤيته أن حقائق التاريخ تملي على مصر حق السيادة وواجب القيادة هي رؤية من بديهيات الأمور التي لا يجوز الغفلة عنها.

يظل الباشا 1805م- 1849م، ثم عبد الناصر 1953م- 1970م، هما القائدان اللذان-بالبصيرة التاريخية والغريزة السياسية- كانا على إدراك كاف أن مصر يلزمها أن ترمي بصرها شمالاً حتى جنوب تركيا، وجنوباً حتى منابع النيل، وشرقاً حتى مشارف الخليج والفرات، وغرباً حتى مشارف تونس.

القرن التاسع عشر كان قرن غزو واستعمار وفتح وكان الباشا ابن زمانه وخير تمثيل له، كان- بالغريزة- غازياً ومستعمراً وفاتحا، له همة الغزاة، وعنده جشع المستعمرين، وعنده همة وروح الفاتحين، لم يكن يخترق أي قانون دولي، ولم يكن ينتهك أي عرف أخلاقي، كان يلعب بالقوة والدهاء معاً، وكانت القوة هي قانون النصف الأول من القرن التاسع عشر كما كان الدهاء دستوره وعقله. لم تكن على مشروع الباشا من قيود إلا ممانعات القوى الاستعمارية الدولية وكلها كانت إمبراطوريات عاتية.

أما في حالة الرئيس عبد الناصر في الربع الثالث من القرن العشرين، فإن الدنيا كانت قد تغيرت، كانت الأمم المتحدة وكافة مؤسسات المنظومة الدولية من مجلس الأمن وصندوق النقد والبنك الدولي قد تأسست، كذلك إسرائيل قد تاسست، وقبل ذلك كانت الامبراطورية العثمانية قد تفككت وظهرت من بعدها دول قومية كثيرة سواء في شرق أوروبا أو الشرق الأوسط، ثم وهذا هو الأهم كانت قد تبلورت أفكار مثل الديمقراطية والرأسمالية والوطنية والقومية وتمثلت في شكل دول وتكتلات وأحلاف دولية.

هوامش الحركة أمام الباشا كانت أوسع ما يكون في القرن التاسع عشر ورغم هذا كان شديد الحنكة وعميق الحكمة وأستاذاً كبيراً في فنون الحذر وتأمل عواقب كل خطوة، كان يعلم أنه يصارع في بحر هائج مع حيتان جبارة جائعة لن تتردد في ابتلاعه إذا تمكنت منه. وعلى النقيض من ذلك، كانت هوامش الحركة أمام الرئيس عبد الناصر أضيق ما تكون،لكنه- بمثالية خطابية شعبوية حالمة- تصرف كما لو كانت مشروعية الأحلام وصدق الطموحات وشرف الغايات تكفل- وحدها- نجاح مساعيه. الفرق بين واقعية الباشا ومثالية عبد الناصر أن حروب الأول كلها كانت فوق تراب الخصوم وليست فوق تراب مصر، كما كان من المكر بحيث لم يتورط بقوات في اليمن. أما في حالة الرئيس عبد الناصر فقد وضع قواته تحت انتقام خصومه الإقليميين والدوليين سواء في اليمن أو في سيناء حتى مدن القناة. أيا ما تكن نتائج المشروعين، فإنهما – سواء في النصر أو الهزيمة- كانا نموذجين تطبيقيين لقدر مصر: السيادة والقيادة.

في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد كانت مصر أول وأقوى وأغنى إمبراطورية في العالم القديم، كانت هي روما أو واشنطن ذلك العصر، كانت الإمبراطورية هي الاستجابة التاريخية لما سبقها من غزو جاءها من الشرق (قبائل الهكسوس)، أحمس الأول قاد حروب التحرير، تحتمس الثالث حدد المجال الحيوي ووضع نظرية الأمن القومي المصري- الثابتة أبد الدهر- من آسيا الصغرى في الشمال حتى الشلال الرابع في الجنوب، ومن مشارف الخليج والفرات في الشرق حتى قلب الصحراء الليبية في الغرب. عاشت الإمبراطورية ألف عام.

ثم جاء الغزو الثاني من الشرق (الفرس) ثم من الشمال (الإسكندر) ثم من الشمال (الرومان) ثم من الشرق (العرب) ثم من الغرب (الفاطميين) ثم من الشرق (العثمانيين) ثم من الشمال (الفرنسيين والبريطانيين). ألف عام إمبراطوية رقم واحد في العالم القديم، ثم ألف عام مستعمرة للفرس ثم الإغريق ثم الرومان، ثم ألف وخمسمائة عام حاضرة عظيمة من حواضر الإسلام، ثم دولة قومية من قريب من مائة عام، من تصريح 28 فبراير 1922م الذي اعترفت فيه بريطانيا- كقوة احتلال وسلطة حماية- بأن مصر دولة مستقلة استقلالاً مشروطاً بحقوق بريطانيا في: السودان، قناة السويس، حماية الأجانب والأقليات،تأمين طرق المواصلات إلى الهند. هذه الدولة القومية كانت لها السيادة والقيادة حتى وهي تحت الاحتلال، لم تكن سيادة القوة ولا قيادة السيطرة، لكن كانت سيادة وقيادة النموذح الناجح في بناء دولة عصرية، نخبة عصرية، مؤسسات عصرية، رأي عام متنور، صحافة تسعى للحرية، جامعات تسعى للتفوق، قضاء يسعى للاستقلال، نموذج أمة ناهضة تلهم نفسها وتلهم غيرها حتى وهي تحت الاحتلال.

ثم دولة ذات طابع قومي ثوري تحرري، طموحاتها أكبر من إمكاناتها، ألهمت كافة الشعوب الساعية للتحرر من آسيا إلى إفريقيا إلى أمريكا الوسطى والجنوبية. الأولى من 1922 حتى 1952م، والثانية من 1953 حتى 1973م، خمسون عاماً من عمر الدولة القومية. في هذه السنوات كان قد تم استنزاف روح مصر مرتين، مرةً بفشل الحلول الليبرالية الديمقراطية، ثم مرة بفشل الحلول الثورية والتحررية. الملك والاحتلال وأحزاب الأقلية أفشلوا التجربة الليبرالية، الديكتاتورية أفشلت التجربة الثورية إذ محقت طبقة سياسية قديمة ولم تسمح بطبقة سياسية جديدة، استأصلت حياةً سياسيةً نشطة ووتركت فراغاً لا يملؤه غير حاكم فرد مطلق. سياسات الحكم الفردي المطلق من 1953 – 1973م أنهكت مصر واستنزفت كافة مواردها المادية والروحية، ونزلت بمكانة مصر من موقع السيادة والقيادة في الإقليم إلى موقع أدنى، وقد تنافست على موقع مصر قوى عربية ثم إقليمية ثم إسرائيل ذاتها في نهاية المطاف إذ باتت تعتبر نفسها القوة الأولى مادياً وحضارياً في الإقليم خاصةً بعد أن:

1- اضطرت مصر للتفاوض والتوقيع على معاهدة سلام حتى يتسنى لها استعادة وتحرير كامل تراب سيناء.

2- تضاعف أسعار النفط العربي بفضل حرب أكتوبر 1973م من ثلاثة دولارات للبرميل إلى ثمانية عشر ثم ستة وثلاثين في فترة قصيرة جداً مما راكم فوائض ضخمة ارتفعت بمكانة ونفوذ وتأثير دول النفط في الإقليم.

3- حروب الخليج الأولى بين العراق وإيران ثم غزو العراق للكويت، ثم غزو أمريكا للعراق، أخرجت العراق من موازين القوة، وأدخلت دول الخليج الصغيرة في المعادلة.

4 – تسلل النفوذ الإسرائيلي إلى كافة العواصم العربية باستثناء الجزائر، سواء تسلل علني أو سري.

5- تطور معنى التطبيع بين العرب وإسرائيل إلى نوع من التحالف الإقليمي تتصدر فيه إسرائيل موضع الصدارة بالذات مع توقيع معاهدات السلام مع بعض دول الخليج .

هذا الوضع الإقليمي الذي تتصدر فيه إسرائيل قيادة من أسلموا لها قيادهم من العرب في الخليج وغير الخليج هو- بوضوح شديد- ثورة تاريخية مضادة ضد مصر، ثورة تاريخية مضادة ضد مصر محمد علي باشا، ضد مصر الثورة العرابية ضد فساد الحكم المحلي والغزو الأجنبي، ضد مصر ثورة 1919م ضد الحكم الفردي المطلق والاستعمار معاً، ضد مصر ثورة 23 يوليو وكل معاني الاستقلال الوطني والتحرر القومي، ثم هي فوق كل ذلك ثورة تاريخية مضادة لروح ثورة 25 يناير المجيدة بما هي طاقة نور لإعادة إحياء مصر وبعثها من مرقدها وتمكينها من االقيام بدورها وأداء رسالتها مع شعبها وفي الإقليم والعالم.

حرب أكتوبر 2023م وصمود المقاومة الفلسطينية في وجه إسرائيل وأمريكا والغرب وقوى التطبيع والخضوع العربي، هذه الحرب كسرت هذه الثورة المضادة، كشفت أوهام التفوق الإسرائيلي، أوهام فوائض المال الخليجي، أوهام القوة الأمريكية، أوهام الحياد بين الاحتلال والحق الفلسطيني بزعم الالتزام والتقيد بمعاهدات السلام.

حرب 7 أكتوبر 2023م أعادت بعث روح ثورة 25 يناير 2011م العظيمة لكن على نطاقات أوسع وأوضح . حرب 7 أكتوبر بعشرات الآلاف من الشهداء كشفت حقيقة التحالف الإسرائيلي- العربي ، كشفته حتى التعري مما يستره ولو ورقة توت، كشفت الدور الذي تلعبه فوائض النفط في الإجهاز على ما بقي من مكانة مصر وسمعتها ونفوذها لصالح إسرائيل.

وللأسف الشديد فإن هذه الثورة المضادة لمصر شاركت فيها مصر ضد نفسها بدرجات متفاوتة من وفاة الرئيس عبدالناصر 28 سبتمبر 1970 م حتى اندلاع حرب 7 أكتوبر من المقاومة الفلسطينية الحرة ضد إسرائيل وحلفها العربي. حرب 7 أكتوبر 2023م من زاويتها الفلسطينية والعربية والإنسانية هي حرب لنا، هي استكمال لكافة مساعينا الوطنية والقومية من أجل التحرر المزدوج من الاستبداد المحلي والهيمنة الأجنبية بكافة أشكالها االصريحة والمستترة. لكن هذه الحرب من زاويتها الإسرائيلية هي حرب علينا، هي حرب علينا من منظور الأمن القومي المصري كما فهمه أحمس الأول حين طرد الهكسوس، وكما أرساه تحتمس الثالث حين أسس في مصر أول وأقوى إمبراطورية حقيقية في تاريخ الإمبراطوريات في العالمين القديم والحديث، هي حرب علينا وليست حرباً في جوارنا بمفهوم الأمن كما فهمه محمد علي باشا ثم عبد الناصر.

هذه الحرب فرصة سانحة أمام مصر، لتراجع نفسها، ولتعيد قراءة تاريخها، وتتأمل حاضرها، وترسم ملامح مستقبلها، وتخرج من حلف الثورة المضادة، وتنحاز لشعبها، وتقطع الجفوة التي بينها وبين الديمقراطية والحرية، وتثق أن خيارات الشعوب هي دروب المستقبل.

دخلت مصر الألف الثالثة من أوسع أبواب الحرية في ثورة 25 يناير 2011م ثم ها هي تدخل الألفية الثالثة- للمرة الثانية – من أوسع أبواب التحرر في 7 أكتوبر 2023م.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.