يقدم المغرب على المستوى العربي نموذجا لافتا على صعيد السياسات الداخلية، هو جدير بالمتابعة، والنقاش كونه نموذجا منتجا في بلد متوسط الدخل؛ فالمغرب ليس بلدا ثريا، يتم تصنيفه على الصعيد العالمي كبلد متوسط القوة، والموارد، مع عدد سكان كبير نسبيا، بما يجعل أعباءه كبيرة، خصوصا في سياقات إقليمية مضطربة في منطقة الساحل الإفريقي المتاخمة له جغرافيا، وعلى الرغم من كل هذه التحديات، فإن السياسات الثقافية المغربية، هي نموذج لافت، ربما لا ننتبه له كثيرا في المشرق العربي، ولا نحتفي بها بالقدر اللازم، ولكنه بالتأكيد نموذج جدير بالاحتذاء في كثير من دولنا العربية ذات المعطيات المماثلة، من حيث محدودية الموارد، وكثرة التكاليف والأعباء، خصوصا الأمنية منها.
بالتأكيد من اللافت للنظر، أن يكون في بلد عربي ٤٣ مهرجانا فنيا، وثقافيا سنويا، يغطي غالبية الأنشطة الإنسانية ذات الطابع الثقافي والفني وكذلك الرياضي، وهي المهرجانات التي تم تأجيل بعضها؛ بسبب حدث وتداعيات زلزال مراكش المدمر، وكذلك أحداث غزة المأساوية، ولكن لم يتم إلغاؤها نهائيا على النمط الذي جرى في المشرق العربي، خصوصا في مصر، إذ أن بعض هذه المهرجانات اهتمت بأحداث غزة على صعيد فني، وأبرزتها على نحو، هو مطلوب في هذا التوقيت.
في هذا السياق، لا بد أن يسجل للمغرب، أن بعض مهرجاناته هي الرائدة في المنطقة العربية وإفريقيا، ذلك أنه على مستوى المهرجانات السينمائية هناك، مهرجان سينما المرأة بمدينة سلا الذي عقد مؤخرا دورته السادسة عشر، ليدشن بذلك مسار سينما المرأة في المنطقة العربية، حيث أن نظيره المصري، واللبناني على سبيل المثال لا الحصر، لا يتجاوز عمرهما عقد واحد، وعلى نفس الوتيرة هناك، مهرجان خريبكة للسينما الإفريقية الذي عقد قبل شهور دورته الثالثة والأربعين، بينما نظيره الأشهر مهرجان فيس باكو الذي يعقد في بوركينا فاسو، لم يتجاوز عمره العقود الثلاثة في وقت نظيره المصري مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية في بداية عقده الثاني فقط، وبين هذا الزخم من المهرجانات السينمائية التي تتضمن أيضا مهرجان سينما البحر المتوسط هناك، مهرجان المؤلف السينمائي الذي يعيد للنصوص المكتوبة أحقيتها في الاحتفاء، والنقاش وسط زخم النجوم السينمائية الذي غالبا، ما يكون مبهرا، فربما يعمي الأبصار مؤقتا عن لبنة العمل السينمائي الأساسية، وهي إبداع مؤلف.
وفي وقت تعاني فيه صناعة السينما في معظم دولنا العربية من تراجع كبير؟، خصوصا السينما الجادة والمستقلة، فإن المغرب يدعم صناعة السينما المغربية عبر تمويل إنتاج الأفلام بشكل مباشر، عبر أساليب مشاركة، برزت مؤخرا في تقاسم العوائد من المنتجين السينمائيين، وهو ما ساهم بشكل فعال، في أن تخطو السينما المغربية خطوات مهمة في تدشين بصمتها الذاتية. وبعيدا عن الفن السابع فهناك، مهرجانات موسيقية لها طابع عالمي كمهرجان صويرة للموسيقى، ومهرجاني العود والقانون الذي يعقد بمكناس ومهرجان موسيقى الراي.
في المجال الثقافي أيضا هناك، مهرجان الكتاب الإفريقي، والمؤلف الإفريقي ناهيك عن معرض الكتاب السنوي المغربي، ومهرجانات الأصوات النسائية المبدعة في كافة المجالات. وقد يكون من المثير للانتباه في هذا السياق، هو عقد مهرجان للطالب المغربي الذي يجد فيه الطلبة فتيات، وفتيان متسعا؛ لخلق مساحاتهم الذاتية تحت مظلة اعتراف وتشجيع مجتمعي كبير.
الأمثلة التي أسوقها تعني ببساطة، أن المغرب انتبه؛ لتطوير سياسياته الثقافية قبل حوالي نصف قرن، لاعتبارات داخلية مرتبطة بمخاطبة التنوع المغربي العرقي، ومخاطبة امتدادته الإقليمية بروح من التفاعل التعاوني، حيث تحرص جميع هذه المهرجانات على استضافة ضيوف مؤثرين في المجالات الأوروبية والعربية والإفريقية، بما يرفع مستوى إدراكات الجميع بالمغرب، وتوجهاته، بينما يضع المغرب في موقع المطلع على المجريات الخارجية.
وبطبيعة الحال فإن مثل هذا النوع من السياسيات الثقافية هي الرافعة المناسبة؛ لتطوير الوزن الإقليمي لأى بلد في سياق مؤشرات القوة الناعمة، وكذلك تنويع أدواته في التفاعل والتأثير داخليا وخارجيا .
أما على المستوى الداخلي، فإن تطوير مستوى الإدراكات العامة الثقافية، وغيرها بالتطورات العالمية من حولنا، لا بد وأن يؤثر في الأخير على رفع مستوى الكوادر البشرية المغربية في كافة المجالات، وربما هذا ما عكس نفسه على الصعيد الرياضي، بأن يعقد مونديال ٢٠٣٠، بالمغرب، وذلك بعد مسيرة من تحقيق إنجازات مغربية لافتة في المونديال الماضي، وفي كافة المسابقات الرياضية القارية في إفريقيا خلال العقدين الأخيرين، كما ينعكس على مستويات السلام المجتمعي، وانخفاض مستوى العنف والجريمة، وذلك مقارنة بدول أخرى، فضلا عن دعمه لاقتصادات البلاد عبر عملية منتظمة من تنشيط السياحة على مجمل التراب المغربي من المتوسط شمالا إلى حدود المغرب على المحيط الأطلنطي جنوبا.
في هذا السياق، نستطيع أن نرصد، أن الاهتمام الحكومي بتطوير السياسيات الثقافية يعتمد على روافع متعددة، يقدم لها الإسناد الحكومي المطلوب، ذلك أن غالبية المهرجانات المعقودة، خصوصا السينمائية منها، هي منبثقة عن منظمات مجتمع مدني مثل، جمعية أبي الرقراق ( نهر الرباط العاصمة) التي تعقد مهرجان سلا لسينما للمرأة، والتي تحظي أيضا برعاية ملكية، تضمن لها دعما كبيرا من القطاع الخاص المغربي، وربما هذا ما يمكنها من أن تكون جسرا بين المنتج السينمائي العربي، والأوربي في مجال المرأة، حيث يعقد مهرجان سلا مع مهرجان أسوان للمرأة اتفاقية تعاون، تتيح ترجمة تقرير سنوي، يصدر في مصر عن حالة سينما المرأة إلى الفرنسية. كما يضع مهرجان سينما المرأة بسلا على عاتقه تطوير السياسيات المغربية العامة تجاه المرأة، بما يعني تعميق حالة المواطنة والمساواة، وذلك عبر طرح القضايا المثيرة للجدل الاجتماعي العام، والتوعية بها والمساهمة في إزالة المقاومة المجتمعية القائمة على أسس ثقافية؛ لفكرة مساواة المرأة بالرجل في كل مجالات الحياة.
إن المشهد العام المغربي الراهن على الصعيد الثقافي يعتمد على فاعلية للمجتمع المدني المغربي تغذيها السياسيات العامة المتطورة، عبر الإيمان، بأن المجتمع المدني بكافة قطاعاته هو شريك فعال للحكومة في تطوير وظائفها، وهو شريك ينفي أية توجهات شمولية للسياسيات الداخلية على نحو يتنبأ فيه البعض، أن يكون المجتمع المدني، هو بديل للأحزاب السياسية في العقود القادمة، بعد أن باتت تفتقد الدعم الجماهيري على نحو ما على الرغم من انفتاح المجال العام المغربي، وهو الأمر الذي يضع المغرب على أعتاب مرحلة جديدة من تطوره الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما قد يرشح النموذج المغربي، أن يكون قائدا لنمط جديد من الدول متوسطة القوة في منطقتنا، هو بالتأكيد جدير بالدرس والمتابعة.