انتهت الجولة الأولى من معارك غزة بالتوصل إلى هدنة إنسانية، تم مدها ليومين آخرين، جرى فيها عملية تبادل للأسرى بين الجانب الفلسطيني والإسرائيلي، وإدخال مساعدات إنسانية للقطاع المحاصر، ثم دخل الطرفان في حوارات غير مباشرة، لعبت فيها قطر ومصر دورا رئيسيا برعاية أمريكية.
وقد شهدت العاصمة القطرية أمس اجتماعا مغلقا، شارك فيه مدير جهاز المخابرات الأمريكية والإسرائيلية والقطرية والمصرية؛ لبحث تمديد الهدنة، تسرب عنه حديث عن إمكانية الوصول؛ لوقف شامل لإطلاق النار في مقابل الإفراج عن كل الأسرى الموجودين لدى حماس، وأيضا معظم الأسرى الفلسطينيين، وبحث مستقبل قطاع غزة بعد وقف الحرب، ومطالبة الجانب الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة بنزع سلاح حماس، والبحث عن بدائل لها لحكم وإدارة قطاع غزة.
والحقيقة أن المواجهات التي جرت في غزة، وأسفرت عن سقوط أكثر من 15 ألف شهيد فلسطيني؛ جراء القصف الإسرائيلي بينهم حوالي 5 آلاف طفل، بجانب استشهاد عدد من عناصر حماس، قدره الجانب الإسرائيلي بثلث قوتها العسكرية في مقابل سقوط، ما يقرب من 400 جندي وضابط إسرائيلي، أوصلت الجانبين إلى “نقطة فاصلة”، دفعتهما إلى مفاوضات غير مباشرة في الدوحة بين الطرفين، أو بالأحرى بين مشروعين: الأول يتبنى إنهاء الحرب، ووقف القتال، وتحويل الهدنة الإنسانية؛ لوقف كامل لإطلاق النار، والثاني، ترفعه آلة الحرب الإسرائيلية، وحكومتها المتطرفة، وتعمل إما على إنهاء وجود حماس في قطاع غزة، وتهجير عناصرها وإما استكمال العدوان على القطاع.
والحقيقة أن كلا المشروعين يمتلكان أوراق ضغط، وأدوات قوة، وستشهد الأيام القليلة “حسما ما” في اتجاه أيهما، فرغم قوة الدفع التي امتلكها المشروع الأول، إلا أنه لا زال يواجه تحديات كبيرة، أبرزها العقلية الإسرائيلية الحالية، ومنظومة الحكم المتطرفة التي تهمين على القرار السياسي والعسكري.
فيما يتعلق بالمشروع أو الرؤية الأولى التي تدعو إلى تحويل الهدنة الإنسانية المؤقتة إلى وقف كامل؛ لإطلاق النار، فهي تستند على مجموعة من أوراق القوة، أبرزها صمود المقاومة، وتأثير البعد الإنساني لهذا الصراع؛ فصور الضحايا الفلسطينيين من أطفال ونساء، فجرت احتجاجات واسعة، وأخرجت من كل بقاع الدنيا أصوات الضمير في وجه العدوان الإسرائيلي، كما أعلن كثير من القادة الأوروبيين عن مطالبتهم بوقف القتال، وبحث ترتيبات سياسية جديدة لإدارة قطاع غزة، ودعمهم في هذا الموقف الأمين العام للأمم المتحدة، وتقريبا كل المسئولين في المنظمات الأممية.
وقد مثلت ضغوط الرأي العام العالمي، والشعبي ورقة ضغط هائلة على الحكومات الغربية، فشهدنا 800 ألف متظاهر في شوارع لندن رفضا للعدوان الإسرائيلي، وتضامنا مع أهل غزة، هو حدث تاريخي بكل معني الكلمة، سواء من حيث عددهم، أو من حيث دلالة اسم العاصمة التي احتضنتهم، بل أن مشاركة بعض رجال الشرطة المواطنين في هذه التظاهرات مثل بدوره، حدثا استثنائيا، وغير متكرر في العالم كله.
كما دفعت ضغوط الرأي العام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تغيير موقفه، وطالب في حوار مع بي بي سي بوقف إطلاق النار، كما شهدت الولايات المتحدة مظاهرات حاشدة، وتصريحات لسياسيين كبار ونواب تنتقد السياسات الإسرائيلية، وتطالب بوقف إطلاق النار، وهو أمر ما لم يكن سيحدث، لولا ضغوط الرأي العام هناك.
أما التجارب الديمقراطية، ولو غير المكتملة في كثير من بلدان العالم، فقد اتخذت حكوماتها مواقف صلبة ضد إسرائيل، فحديث أردوغان أمام البرلمان التركي في مواجهة العدوان الإسرائيلي، وسحبه لسفير بلده، كان يستند على شرعية انتخابات ديمقراطية، فاز فيها بحوالي 52 % من الأصوات، وفي “ظهرة” تيار واسع من شعبه يؤيده، ونفس الأمر ينسحب على إندونيسيا، وماليزيا والمغرب، أما جنوب إفريقيا فقد وصفت وزيرة خارجيتها، ما تقوم به إسرائيل، بأنه جرائم حرب وقرر البرلمان قطع العلاقات مع تل أبيب.
أما شيلي والبرازيل وبوليفيا التي وصل فيها اليسار إلى السلطة في انتخابات حرة ديمقراطية، فقد سحبوا سفرائهم من تل أبيب، وشهدت بلدانهم مظاهرات حاشدة داعمه للحق الفلسطيني.
يقينا لقد شهد العالم “تسونامي” حقيقي من الدعم والتعاطف مع الشعب الفلسطيني، وأصبحت ورقة الضغط الأساسية في مواجهة مشروع آلة الحرب الإسرائيلية في يد الرأي العام الشعبي في البلاد الديمقراطية.
أما المشروع الثاني، وهو مشروع استمرار الحرب واستئناف المعارك، وتقوده الحكومة الإسرائيلية الحالية التي لم تعد تضم “صقور وحمائم”، و”معتدلون ومتشددون” كما قيل في فترات سابقة، إنما فقط متطرفين وأكثر تطرفا، وإن هؤلاء تباروا في التأكيد على العودة مرة أخرى للعمليات العسكرية بعد انتهاء الهدنة الإنسانية، وتنفيذ اتفاق تبادل الأسري.
وقد كشرت إسرائيل عن أنيابها، “وتشطرت” على تصريحات إنسانية قالها رئيسا وزراء بلجيكا، وإسبانيا من أمام معبر رفح، لكي تؤكد على تمسكها بمشروعها القائم على استئناف القتال، فقد ذكر رئيس وزراء بلجيكا، بأن “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن مواطنيها، وأن “رد فعلها، ينبغي أن يلتزم بالقانون الدولي، وأن يتوقف قتل المدنيين الآن في غزة”. لافتًا إلى أن هدف بلاده الوصول إلى الوقف الدائم لإطلاق النار.
أما رئيس الوزراء الاسباني “بيدرو سانشيز” فقال: “نثمن اتفاق الهدنة الذي تم التوصل إليه في غزة، ونرغب في إطلاق سراح جميع الأسرى” وأن من “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، إنما يجب أن يكون ضمن القانون الدولي، وليس من خلال قتل الأطفال والنساء”. وأكد على استمرار بلاده في الدعوة إلى وقف دائم لإطلاق النار.
الموقف الإنساني البديهي لكلا الزعيمين من رفض قتل المدنيين، والمطالبة بوقف إطلاق النار، لم تقبله إسرائيل، واستدعت سفيري البلدين، وهو مؤشر على حجم التطرف الذي بات مهيمنا على حكومة الحرب الإسرائيلية، والتي من خلالها أرادت توجيه رسالة إلى العالم كله، بأنها ترغب في استمرار القتال.
ستشهد الأيام القادمة صراع إرادات حقيقيا بين رغبة الدولة العبرية المحمومة في استئناف المعارك والعدوان، وبين ضغوط الرأي العام العالمي من أجل وقفها، خاصة بعد مطالبة أمريكا إسرائيل بضمان تدفق المساعدات الإنسانية، وتغيير التكتيكات العسكرية، بحيث تتوقف عن استهداف المدنيين.
وصل الطرفان لنقطة فاصلة، سيحسم بعدها شكل المواجهة القادمة، ومستقبل إدارة قطاع غزة.