منذ أن بدأت إسرائيل في الرد على عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي، بعد أيام قليلة من تلقي صدمة الهجوم، بدأت تسرد إسرائيل أهدافها من تلك العملية التي طالت الأخضر واليابس، ونالت من البشر والحجر على السواء. كانت الأهداف المعلنة من تلك العملية المسماة بالسيوف الحديدية، فوق استعادة كل الأسرى الصهاينة من جنود ومدنيين، هو تدمير حركة حماس بشكل تام ونهائي، والشروع في تكوين سلطة بديلة على الأرض، مرة تشير، إلى أنها السلطة الفلسطينية في رام الله، وتارة تقول، إنها ستكون من وجهاء قطاع غزة، ومرة تقول، إنهم سيكونوا من الإقليم مشيرة إلى مصر والأردن تحديدًا، وتارة أخرى، تشير إلى تواجد قوات دولية خاصة تابعة للأمم المتحدة، وبعض الأطراف الأوروبية. المهم في ذلك كله، هو الخلاص من حماس، التي طالما أذاقت إسرائيل الأمرين، من خلال الصواريخ التي طالت كل من العمق الصهيوني للدولة المؤسسة عام1947، أو البلدات والمدن الواقعة داخل خط الهدنة أي حدود ما قبل 5 يونيو 1967.
وحركة حماس هي حركة مقاومة إسلامية الهويةـ تنتمي فكريا لجماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تعلن انفصالها سياسيا عنها، وهي من سهلت إسرائيل، تأسيسها انتقامًا من “فتح”، تماما كما فعلت الولايات المتحدة، وأسست تنظيم القاعدة لضرب الوجود السوفيتي في أفغانستان، وهو التنظيم الذي دعمته السعودية، ونال تأييد بلدان مثل مصر والأردن، والمعروف أن هذا التنظيم دار بعد سنوات قليلة، وتحول لشوكة في ظهر الولايات المتحدة، إلى أن وصل لحد تنفيذ حادث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة. الفرق الرئيس بين حماس والقاعدة، أن الأولى تقاتل من أجل تأسيس وطن مسلوب، وتواجه في سبيل ذلك استعمار استيطاني عتيد، على عكس القاعدة ذات الهوية والغرض الأممي.
وعقب ما يربو على الشهرين على الحرب في غزة، لم تحقق إسرائيل هدفيها، هنا يكمن السؤال الجوهري: هل حركة حماس حركة عصية على التدمير أو الاندثار؟
هذا السؤال الجوهري يثار لأن حماس ليست دولة، تمتلك صناعات عسكرية ضخمة، وهي ليس لها علاقات إقليمية، ودولية إلا في حدود ضيقة، ربما تقتصر على إيران ومصر وتركيا وسوريا وقطر وروسيا. في حين أن الطرف الصهيوني يمتلك آلة عسكرية قوية، كثيفة العدة والعتاد المصنع محليا، ولها علاقات دولية متشعبة قابلة لدعمها عسكريا وسياسيا، وهو ما حدث بالفعل ليس فقط بتعاونها مع واشنطن المعروفة بانحيازها الدائم للكيان الصهيوني، بل مع برلين ولندن وباريس وروما ونيودلهي وطوكيو وأوتاوا، وغيرها من الدول التي أسس بعضها هذا الكيان لغرضين هما: الخلاص من اليهود، وليكون هؤلاء مخلب قط لهم في المنطقة. ناهيك بالطبع عن علاقاتها المستجدة مع بعض الأنظمة التي كانت، حتى وقت قريب رصيدا عربيا قويًا للقضية الفلسطينية، ويقصد هنا على وجه التحديد الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. كل ذلك يجعل من الصعوبة بمكان لحركة مثل حماس على خصومة مع منافسها الفلسطيني “فتح”، أن تكون ذات خيارات محلية وإقليمية ودولية واضحة، ومتعددة… في هذه الأسطر، نرصد الأسباب التي يمكن أن تجعل من حماس حركة مقاومة عصية على الحل.
أولا: لم يُعرف تاريخيا، أن انزوت أية مقاومة مسلحة ضد مستعمر، دون أن تحقق أهدافها. وفي التاريخ الحديث لعالم اليوم، يمكن ملاحظة كيف أن المقاومين حول العالم بقوا في صمودهم رغم ضعفهم الشديد أمام المستعمر، إلى أن حقق هؤلاء أهدافهم بالجمع بين الوسائل العسكرية والمقاومة السلمية. في هذا الصدد يشار على سبيل المثال إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي قاتلت المستعمر الفرنسي خلال الفترة من 54-1962، وقبلها كانت هناك عشرات الثورات المسلحة ضد المستعمر الفرنسي بالجزائر.
وفي فيتنام استمر كفاح الفيت كونج (الجبهة الوطنية؛ لتحرير جنوب فيتنام) في قتال شرس مع الولايات المتحدة، إلى جانب الجيش الفيتنامي الشمالي، إلى أن انسحبت الولايات المتحدة متكبدة خسائر كبير في 15 أغسطس1973، توحد بعدها شطرا البلاد. وفي جنوب إفريقيا الأكثر شبها بإسرائيل من حيث نظام الأبارتيد، أو الفصل العنصري، بقى وضع المقاومة المسلحة قائمأ على يد الجناح العسكري للمؤتمر الوطني الإفريقي، إلى أن تحررت البلاد، بعد أن يأس فريدريك دكليرك، في البقاء وبيده زمام الأمور، وذلك عام 1990، حيث اضطر للتفاوض على نقل السلطة مع نيلسون مانديلا، بعد عقود من الصراع. وفي كوبا وبوليفيا، كان التحرر من الاستعمار الإسباني في الأولى عام1898، وفي الثانية على يد قوات بوليفار وجماعات جمهورية الموز، وذلك في 6 أغسطس 1825، وهو ما تكرر في عديد البلدان بأمريكا اللاتينية التي تحررت من الاستعمارين الإسباني والبرتغالي. وفي الكاميرون وبلدان إفريقية كثيرة، تم نيل الاستقلال عسكريا بقتال المستعمر الفرنسي في يناير1960.
وفي إيرلندا الشمالية، بقت المقاومة المسلحة، ضد إنجلترا مع جماعة الشين فين، إلى أن وقعت اتفاقية سلام عام 1998، اتُفِق خلالها على تقاسم السلطة بين الكاثوليك والبروتستنات. كل ما سبق وغيره وغيره من حركات النضال المسلح، هي من أسهمت في نيل عشرات البلدان تحررها من يد المستعمر الأوروبي وغيره، رغم فارق القوة بين المحتل والمستعمر. ومن ثم، فإن هذا يؤشر، على أن نهاية حماس على يد المحتل الصهيوني قبل تحقيق هدف التحرير هو أمر صعب للغاية.
ثانيا: على الصعيد الميداني، ابتكرت حركة حماس أساليب قتالية جديدة؛ للتغلب على القصور الكبير في الحرب، إذ اعتمدت الحركة على الخنادق، والإنفاق التي قامت بحفرها بأطوال كبيرة وبأحجام واسعة، وتلك الأنفاق مكنت الحركة عند بداية العمل بهذا الأسلوب، منذ عقد ونيف من التغلب على الحصار المفروض على الحركة، منذ أن هيمنت على السلطة في القطاع 2006/2007. إن أسلوب الأنفاق الناتج عن ضيق مساحة القطاع، كانت وظيفته ميدانيا بالنسبة لحماس، هو أن يكون لديها متسعًا من المكان، حتى تستطيع العمل بحرية، ودون انكشاف أماكن عملها، سواء أثناء تصنيع عتادها العسكري، أو للاختباء من العدو وجواسيسه عند بدء العمليات العسكرية، أو إطلاق الصواريخ على فلسطين المحتلة. كل ذلك وغيره مكن الحركة، من أن يكون عمرها طويل، وقابلة للصمود أمام ضربات العدو الذي فشل حتى اليوم في تعقب الحركة فوق الأرض، فما بالنا بما هو تحت الأرض، والذي وصل حفره إلى حد غلاف غزة في المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل قبل 5 يونيو 1967.
ثالثا: إن سياسة الانتقام كعقيدة متكرسة في ذهن الصهيوني، والنابعة من الرغبة في التسيد والتفوق والشعور الدائم، بأن العدو هو مغتصب الأرض، وأنهم هم من حررها من يد، من يجب أن يعاملوا معاملة من هم أقل من البشر، وكل تلك الأمور تُدرس، وتُكرس في مناهج التعليم وفي قوانين البلاد، وفي الممارسات الصهيونية الاستحواذية على الأرض. هذه السياسة خلفت مناخًا من الحقد، والكراهية والحنق لدى الطرف الآخر، ما جعل كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى، كلها ما هي إلا تكريس لطموحات وآمال الشعب الفلسطيني في نيل حريته، وحقه في تقرير مصيره على أرضه. وقد تلمس المرء كل ما سبق إعلاميا في عديد المشاهد عقب بدء أحداث غزة، وما قبلها بعدة أعوام، حيث لم يجد المرء فلسطينيا واحدا، يلعن المقاومة أو يتبرأ منها رغم الويلات التي تزعم إسرائيل، أنها تقوم بها ردًا على المقاومة المسلحة.
رابعًا: أن حركة حماس تمكنت خلال السنوات الماضية من الحصول على كم معتبر من السلاح؛ نتيجة حالة الانفلات الأمني في كل من ليبيا والسودان، وبذلك دخل القطاع العديد من العتاد العسكري، والذي استطاعت الحركة، أن تفكك بعضه، وتقوم بابتكار مثله، بل والأكثر دقة والأبعد مدى منه، وكل ذلك، ربما نبع من أن الحاجة أم الاختراع. والمؤكد أن الحركة قد حصلت على الدعم الخارجي من بعض البلدان على رأسها إيران. كما أنه وخلال الحرب الحالية، فإن إيران هي من مد يد العون المادي العسكري لها، بفتح جبهة في جنوب لبنان، وجنوب البحر الأحمر، بغية تخفيف وطأة العمليات الهمجية الصهيونية، ضد الحركة وضد المدنيين في غزة والضفة الغربية، وكل ذلك بلا شك من شأنه، أن يطيل عمر الحركة، ويمرر الاستحقاق الصهيوني الخاص بحتمية الرد على عملية طوفان الأقصى.
خامسا: تلعب مصر دورًا غير مباشر لبقاء حماس في صدارة المشهد، فهي تدرك، أن أي فراغ أمني في القطاع ليس في صالح الأمن القومي المصري، الذي يهدف إلى ضرورة، أن يكون هناك حاجز، وسد منيع، يقف بين القوات المصرية والإسرائيلية، ولو في الجزء الصغير المتبقي من المنطقة الممتدة من طابا إلى رفح والبالغ نحو 230 كم.
خلاصة القول، إن مصر لا تريد، أن تنتهي حماس، فتحدث فوضى في القطاع، ما يجعل هناك حالة انفلات أمني على حدودها الشرقية، ينتج معها تجاوز عشرات الآلاف من الفلسطينيين معبر رفح باحثين عن الحياة. هنا تدرك مصر، أن حماس من القوة التي تجبر سكان القطاع على البقاء في أماكنهم مقارنة بأي سلطة فلسطينية أخرى، ومن باب أولى أي سلطة أممية، وذلك لأن أي تهجير هو ضد مصلحة القضية الفلسطينية.
سادسًا: أن تمسك الحركة بعقيدة قتالية تعتمد على الدين الإسلامي، الذي يكرس الرغبة بل الدعوة إلى الجهاد والاستشهاد في سبيل الله وتحرير مقدساته، وكذلك القتال في سبيل الوطن، لهو أبلغ سبب على تشبث الحركة بنضالها وبقائها، حتى يتم تحرير الأرض أو الاتفاق على صيغة عيش مشترك، تضمن حياة كريمة للشعب الفلسطيني.