منذ أيام قليلة، بدأت حملة جمع بطائق الموظفين، كما بدأت عملية أخرى للدعوة للتصوير سلفي، أثناء الوقوف على صندوق الاقتراع، أو منح بدلات للإغراء للتصويت. الدعوة الأولى وصلتني من قطاع التعليم بإدارة تمى الأمديد بالدقهلية، وهي تدعو مدراء المدارس هناك للاجتماع بمقر الإدارة التعليمية قبل الانتخاب، بحيث يكون بحوزة كل مدير مدرسة مظروفين كبار أحدهما، بكم بطائق الرقم القومي للموظفين بالمدرسة التي يديرها، وثانيهما، بكم البطائق التي يستطيع، أن يجمعها من أولياء أمور الطلبة، وذلك كله- بالتنسيق مع مركز الشرطة- بغية وضع رقم مسلسل صاحب البطاقة المدون في سجل الناخبين في اللجنة الانتخابية، حتى يأتي الناخب/ الموظف أو ولي الأمر، ولا يأخذ وقتا أثناء التصويت. المهم في الدعوة، أن صاحب البطاقة سيتسلم بطاقته في اللجنة؛ للتأكد من وصوله وتصويته.
الدعوة الثانية، وصلتني من طبيب صديق، يعمل بمستشفى بولاق العام، أرسلت له من قبل مديره عبر تطبيق الواتس أب. المرسل إليه، رجل محل ثقة لا انتماء سياسي له، حتى يقال عنه، إنه من الخلايا “النايمة أو الصاحية”، ولا يعرف شيئا عن الانتخابات خاصة أو الشأن السياسي المصري عامة. تقول الرسالة، تمنع الإجازات الاعتيادية من السبت إلى الأربعاء، على الجميع الانتخاب مع إرسال صورة سلفي أثناء الاقتراع، إبان الانتخاب من الأحد للثلاثاء وفقًا لجدول معد سلفا؛ بشأن الأيام الثلاثة، وهناك خصم 500 جنيه، لمن لا ينتخب (لاحظ كلمة خصم، ولم تقل الرسالة غرامة، أي أن الخصم هو خصم إداري من وزارة الصحة، ولا علاقة له بالغرامة المسطورة في قانون مباشرة الحقوق السياسية).
الدعوة الثالثة، تم الاستعلام عنها بالتليفون، من أحد موظفي شركة الخدمات البترولية، وفيها أن وزارة البترول قامت بتقسيم موظفي الوزارة والشركات التابعة لها على الأيام الثلاثة للانتخاب وفق جدول محدد، وأنها منحت بدلين للمقترع. بدل وجبة، وبدل راحة. ويسرت على المقترع، بأن يغارد مقر العمل يوم الاقتراع.
هذه عينة من الرسائل التي وصلتني، ولم أذكر غيرها، لأن غيرها قد يبدو لدى البعض غامض، ويحتمل التأويل. على أي حال، فإن كل ما سبق، يشير إلى عدة أمور مهمة: –
أولا: أن القائمين على تلك الدعوات من الواضح للغاية، أنهم لا يهتمون بمن سيتم انتخابه، بل بكثافة المشاركة. بعبارة أخرى، أن تلك الدعوات تعتمد على عدم ثقة الإدارة والقائمين على الانتخابات، وكل المهتمين بالشأن الانتخابي، بنسبة المشاركة. أي أنها لا تهتم بمن سيبطل صوته، أو ينتخب أ أو ب أو ج أو د. كل ما يهم هو صورة الانتخاب أمام أعين من هم بالداخل والخارج، حتى يكتمل المشهد بشكل مريح، وحتى يكون الإخراج جيدًا، وقابلا للتصديق، حتى ممن يقومون بالتوليف والتلفيق. فلا غرو القول، إنه لو صدق الملفق نفسه، فستكون هذه بداية تصديق المشاهدين للأكذوبة.
ثانيًا: لعل الغريب في الأمر، أن القائمين على الإدارة الانتخابية، وهم يسعون إلى بذل الجهد الكبير بغية دعم المشاركة بطريقة التلفيق والتوليف، كان من الأجدر بهم ألا يقوموا بكل هذا الجهد، لو تركوا الأمور على حالها تسير، بيسر ودون أدنى مشكلة من حيث ضمانات النزاهة. فعلى سبيل المثال، لو قام هؤلاء بترك الانتخابات، تسير بشكل تعددي حقيقي، وليس مصطنعا، كما يجري الآن، وذلك عبر ترك مكاتب الشهر العقاري، تقوم بعمل توكيلات لكل من يرغب في الترشح، دون بلطجة أو غلق السيستم الساقط دومًا، لكان المظهر أكثر تحضرًا، ومن ثم كانت المشاركة حقيقية، وليست مفبركة، عبر الدفع دفعًا بموظفي الدولة من القطاعات الإدارية المختلفة من تعليم، وصحة وبنوك عامة وبترول وغيرها، وغيرها على النحو الذي ذكر أو صادف القارئ في مشاهد مشابهة.
ثالثا: أن المشاهد السابقة لدفع الناس لصناديق الانتخاب عنوة لا تزال هي مشاهد تبدو غير مكتملة، بمعنى أنها قاصرة على موظفي الدولة بشكل رئيس، وهؤلاء رغم استجابتهم السريعة؛ بسبب مناخ الابتزاز، فإنهم لن يستطيعوا، أن يفعلوا الكثير لإكمال الصورة المرادة. لذلك يتوقع أن تقوم الإدارات المختلفة المعنية بالانتخاب، بالبحث عن مؤهلين جدد للانتخاب من خارج دولاب الموظفين. بدأ هذا البحث في كلام إدارة تمى الأمديد بالإشارة لنظار المدارس بتجميع – قدر الإمكان- بطائق أولياء أمور الطلبة، لذلك على الأرجح، سوف يتم التوسع في تلك العملية بإغراء من هم من غير الموظفين، لا سيما ممن ينتمون إلى الطبقة الدنيا على وجه الخصوص، عبر ابتزازهم؛ بسبب عوزهم الاقتصادي، بتقديم كراتين التموين عبر الإيعاز لرجال الأعمال كل في دائرته بالمساعدة على شراء المقترعين بأكياس السكر والأرز والزيت.
رابعًا: أن ما يحدث من عملية شراء للأصوات هي عملية غاية في الخطورة؛ لأنها تؤثر على الخدمات المقدمة مقابل التواجد في المشهد الانتخابي. بعبارة أخرى، ما هو المقابل الذي سيحصل عليه الناخب الذي تم شراؤه نظير اقتراعه؟ من واقع الرسائل المرسلة، سواء المذكورة أو التي لم تذكر، إن هناك حق غياب للموظف من دائرة عمله، سواء كان طبيبا أو مدرسا أو خلافه، وبالطبع هذا الأمر سيؤثر على الإنتاج، وعلى مستوى الخدمات المقدمة للناس. إن أخطر ما يمكن، أن يدفع هو الفساد نظير الانتخاب. خذ على سبيل المثال، هذا السؤال: أليس من أُخذت بطاقته من أولياء أمور التلاميذ الحق، في أن يطلب أن تتغير درجات ابنه في المدرسة؟ أليس له الحق في رفع نسبة غياب ابنه؟ أليس له الحق في طلب إغماض عين الإدارة التعليمية عن أي شكوى بحق ابنه؟. وفي المجال الصحي، كم من التجاوزات الإدارية للأطباء والتمريض، سيتم التغاضي عنها، إذا ما تمت تعبئة وحشد الطواقم الطبية لصناديق الانتخاب؟
خامسًا: إن إغراء الناس المحتاجين للذهاب للاقتراع، أو ابتزاز الآخرين بتهديدهم بإيقاع عقوبة عليهم، هو أسهل طريق لتأسيس مجتمع جبان، وفاسد ومرتشي، وهذه الصفات كلها، لا يمكن أن تخلق مجتمعا يسعى إلى تنمية أوضاعه، وأحواله الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن أحواله السياسية. وكل ذلك بالطبع يتعارض بالكلية مع مشهد آخر، يرتبط بخطط الدولة للتنمية المستدامة 2030، والقوانين التي سنتها والمتصلة بملكية الدولة، والملكية الفكرية وتكوين كادر برلماني من النواب قادر على الدفع بعملية التنمية المحلية بصدق ونزاهة، والقضاء المستقل، والإعلام السوي، والمجتمع المدني النزيه، والأحزاب السياسية القادرة على تجنيد جيل جديد على أسس محترمة.
كل ما سبق وأمور أخرى، سيكون لها أبلغ الأثر على العملية الانتخابية، التي لو تركت تسير بلا تدخل وبشفافية، منذ فتح باب الترشح حتى فرز الأصوات، لفاز الرئيس المرشح عبد الفتاح السيسي بشكل سهل ومؤكد. لكن يبدو أن اعتياد الإدارات المعنية بالشأن الانتخابي على تنظيم انتخابات على طريقة الشاذلي، والشريف وغيرهم، هي الأسلوب الأسرع للضحك على الذات قبل الغير، فلا يهم المضمون، أو المظهر اللائق الذي يحترم عقلية الناخبين، وهو بالتأكيد كان سيحقق نسب مشاركة أفضل من نسب التلفيق والتوليف.