لقد ألهبت نيران الحرب في غزة موجة من التعاطف الشعبي مع الشعب الفلسطيني إقليميا وعالميا. ولقد انعكس هذا بوضوح في منطقة الخليج. على الرغم من الأنظمة السياسية في الخليج شديدة الأوتوقراطية والسلطوية، ولكن هذا لا يعني، أنها لا تتأثر بالرأي العام. تصاعد التضامن مع غزة بين أوساط الرأي العام أثر على خطابات وسياسات حكام الدول الخليجية.
على الجانب الآخر، أبرزت الحرب في غزة أيضا التطورات الاجتماعية، وتنوع الآراء في المجتمعات الخليجية، فيما يتعلق بقضية فلسطين، بين التمسك بالقضية أحيانا، والتعامل تجاهها بمرونة وبرجماتية أحيانا أخرى. بالإضافة إلى أن تصاعد التضامن الشعبي وضع حكام الخليج في ورطة، تجعل مهمة تعبيد طريق التطبيع مع تل أبيب شاقة.
الرأي العام الخليجي والتطبيع
قد تبدو عمليات تطبيع علاقات دول الخليج مع إسرائيل، بأنها تجري بشكل سلسل وبلا مشاكل، وقد يكون هذا صحيحا على المستوى الرسمي، ولكن شعبيا الرأي العام الخليجي أكثر تقلبا وتناقضا. من شبه المستحيل التوصل إلى أرقام دقيقة حول الرأي العام في دول سلطوية مثل دول الخليج، خاصة في مسائل حساسة مثل، العلاقة مع إسرائيل، ولكن كانت هناك بعض الدراسات والاستطلاعات تشير إلى الاتجاهات العامة، بخصوص تلك المسألة.
أجرى معهد واشنطن استطلاعا في 2022؛ لتبيان آراء شعوب خليجية مختلفة حول اتفاقات إبراهام- بعد إبرام الاتفاقات بسنتين– وأظهر الاستطلاع، بأن نسبة الإماراتيين والبحرينيين والسعوديين الذين ينظرون لاتفاقات إبراهام بشكل إيجابي، يشكلون ما بين 19% إلى 25% من العينة. أبرز الاستطلاع تطورا هاما، حيث أن تلك النتائج تشير إلى انخفاض ملحوظ عن نسب التأييد مقارنة باستطلاع آخر، أجري خلال بدايات الاتفاقات عام 2020، حيث كانت النتائج حينها منقسمة بشكل شبه متساو بين مؤيد، ومعارض للاتفاقات في البحرين والإمارات، وفي قطر والسعودية، وصلت نسبة الردود الإيجابية؛ بشأن اتفاقات إبراهام إلى 40 % في الاستطلاع الأول.
دراسة أخرى أجراها باحثان من جامعة إسرائيلية، (جادي هيتمان، وموتي زويلينج) حللت مجموعة من حسابات تويتر في الدول الخليجية؛ لبحث نفس المسألة، ولكن في مجال مواقع التواصل الاجتماعي، ولقد توصلت، إلى أن 80 % من الحسابات عارضت التطبيع، ولكن أظهرت نتائج الدراسة أيضا، أن السعوديين كانوا أكثر انفتاحا عن دول خليجية أخرى، كما أظهرت ارتفاعا في عدد الحسابات المؤيدة للتطبيع في الإمارات والبحرين عقب توقيع الاتفاقات. ولكن نتائج ذلك البحث تسبق دراسة معهد واشنطن الأخيرة السابق ذكرها.
كما تم أيضا إجراء استطلاعات على دول بعينها. أجرى معهد واشنطن استبيانا على عينة من الجمهور السعودي في 2023، وتوصلت نتائجه، بأن ثلث السعوديين يؤيدون إقامة علاقات مع إسرائيل. وعندما سُئِل السعوديون حول الشروط التي يرونها ذات أهمية؛ لإقامة العلاقات مع تل أبيب، 64 %، ردوا ردا دينيا، وقالوا، بأن ضمان حقوق المسلمين في الأقصى هو الشرط الأهم، بينما جاءت حقوق الفلسطينيين الاقتصادية والسياسية في مرتبه أقل بنسبة 36 % فقط.
وفي استطلاع آخر، أجراه نفس المعهد عام 2023 على عينة من الإماراتيين، توصلت نتائجه أن 76 % يرفضون إطلاق صواريخ من غزة على تل أبيب؛ لانعكاساته السلبية على المنطقة، و45 % من العينة، رأوا أن العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل سيكون لها مردود إيجابي على بلادهم، أما على المستويين الأمني والسياسي، تتضاءل تلك النسب بشكل كبير، حيث أن 27 % نظروا لاتفاقات إبراهام بشكل إيجابي، وو21 % فقط، أيدوا التعاون الأمني مع إسرائيل في مواجهة إيران، والجدير بالذكر، أنهم لم يكن لديهم رغبة بالدخول في صراع عسكري بالأساس مع إيران، على الرغم من رؤيتهم لطهران كتهديد على الإمارات.
رأي عام ديناميكي
تشير جميع تلك الاستطلاعات، إلى أن الرأي العام الخليجي متغير وديناميكي على المستوى الجغرافي، يبدو أن هناك شعوبا خليجية- مثل الشعب الإماراتي- أكثر انفتاحا من غيرهم على تطبيع العلاقات مع إسرائيل بغض النظر عن قضية فلسطين. وعلى المستوى الزمني، يبدو أن مستويات الرفض والقبول أو النظرة السلبية، والإيجابية حول إقامة علاقات مع إسرائيل، تتواتر على مدار السنوات تبعا؛ لتطور الأحداث السياسية ونتائج السياسات التي تم اتباعها.
ولكن نتائج جميع تلك الدراسات– على الرغم من اختلافها– تعكس التطورات التي تمر بها المجتمعات الخليجية. فعلى الرغم من أنه يظل هناك أغلبية معارضة للتطبيع الكامل مع إسرائيل، ولكن تظهر الأرقام بذا الوقت، أن الشعوب الخليجية أصبحت أكثر مرونة وانفتاحا نسبيا، فيما يتعلق بإسرائيل- على المستوى الاقتصادي بشكل أكبر- خاصة وأن التطبيع حقق مكاسب وطنية لبلادهم. ويتعلق ذلك بشكل خاص بتلك القطاعات الأكثر انفتاحا التي تشير إليها الاستطلاعات، فعلى الرغم من أنها لا تشكل أغلبية، ولكنها تظل، تمثل نسبا لا يستهان بها من الشعوب الخليجية.
هذا الانفتاح على التعاون النسبي مع إسرائيل، قد يكون نتيجة لعدة عوامل؛ فحكام الخليج في السنوات الاخيرة، يعيدون هيكلة القيم الاجتماعية للمجتمعات الخليجية؛ لاستبدال الهويات الإسلامية أو العربية القديمة، بهويات قومية جديدة في ظل هذا السياق، تعلو المصالح الوطنية– التي قد تتحقق بالتعاون مع إسرائيل- فوق جميع القضايا الخارجية. كما تتضمن تلك القيم الجديدة التي تغرسها النخب الخليجية الانفتاح على الآخر، ودمج الشعوب الخليجية في العالم الذي يزداد عولمة يوما بعد يوم.
تلك السياسات تأتي بالتزامن مع نشر دعاية سياسية من خلال الحكام، والإعلاميين والشخصيات البارزة؛ لبناء تأييد شعبي اتجاه التطبيع مع إسرائيل. وهو ما يتضح في حالتي البحرين والإمارات اللتين وقعتا اتفاقات تطبيع بالفعل، ويظهر بشكل تدريجي حاليا في السعودية مع استعداد الرياض؛ لإبرام اتفاق التطبيع المنتظر مع تل أبيب.
غليان وإعادة توجيه
هنا تكمن إحدى الأزمات التي سببتها الحرب في غزة للنخب الخليجية. فبعد أن ابتعدت قضية فلسطين عن الأضواء- مما يجعل عمليات التطبيع أكثر سلاسة– انتقلت القضية إلى مركز الاهتمام مجددا في أوساط الرأي العام الخليجي. كما أن استمرار القصف الإسرائيلي، وازدياد أعداد الضحايا المدنيين في قطاع غزة، يؤجج موجة التضامن والتعاطف مع أهالي غزة بين شعوب الخليج.
لقد كتب توماس فريدمان– نقلا عن مصادر سعودية- في نيويورك تايمز، أن الحكومة السعودية أجرت استطلاعا غير معلن (قبل عدة شهور فقط من حرب غزة)؛ لاستبيان رأي الشعب السعودي في التطبيع، و70 %، وافقوا على التطبيع بشرط، أن يكون مصحوبا بدعم إنشاء دولة فلسطينية، ولكن ينقل فريدمان عن مسئول سعودي هام، أن حكومة بلاده لن تجرؤ على إجراء مثل هذا الاستطلاع مجددا في الوقت الراهن مع تصاعد الحرب الدائرة في غزة.
لقد حركت الحرب في غزة الشارع الخليجي بالفعل. لقد شهدت دول خليجية تظاهرات لدعم فلسطين مثل، البحرين والكويت. السعودية والإمارات، لم يشهدا تظاهرات ملحوظة، باستثناء تظاهرة لنشطاء خلال مؤتمر المناخ في دبي تحت قيود صارمة للغاية. ولكن هذا لا يعني، بأن الحرب في غزة غابت عن الرأي العام في الرياض والإمارات. اختفاء التظاهرات في السعودية والإمارات، يرجع بشكل أساسي إلى القبضة القمعية التي تجهض أي محاولة للتظاهر.
لكن المشاعر الشعبية المتضامنة مع غزة تغلي تحت السطح. لقد أشارت تقارير، إلى أن السعوديين غير متيقنين من الخطوط الحمراء التي وضعها النظام السعودي حول الحديث عن الوضع بغزة في المجال العام، ولهذا تظل النقاشات الحساسة محصورة داخل المنازل بشكل سري، خاصة بعد أن حذف فريق الهلال بشكل مفاجئ منشورا، يظهر دعم الفريق لغزة. كما أن نشطاء إماراتيين معارضين أكدوا، أن قطاعا ضخما من الشعب الإماراتي يدعم القضية الفلسطينية، ولكن الإماراتيين يخشون عواقب التعبير عن هذا، كما هاجمت المعارضة الإماراتية الحكومة؛ لتقاربها مع تل أبيب.
في ظل تلك الوترات، أصبح من اللازم احتواء الغضب الشعبي ومنع انفجاره، ولهذا قامت النخب السعودية والإماراتية بتوجيه المشاعر الشعبية خلال مشاريع حكومية، ومبادرات خيرية غير مسيسة. فلقد نظم حكام الإمارات والسعودية حملات تبرعات ومبادرات تطوعية، ومساعدات إنسانية لدعم الضحايا في غزة. كما قام حكام الخليج بالحفاظ على مظهر دعم قضية فلسطين؛ لإرضاء الرأي العام وضمان عدم انفجار الغضب الشعبي ضدهم، ما انعكس بوضوح في بيانات السعودية التي أدانت اسرائيل، منذ بدايات الصراع. أما الإمارات والبحرين، فسرعان ما توقفوا عن إدانة حماس، وأصبحت بياناتهم اللاحقة تدين إسرائيل.
قطاع لا يستهان به
ولكن هناك قطاعات من الشعوب الخليجية أكثر تقبلا؛ لإقامة علاقات مع إسرائيل، ولا يكترثون بالقضية الفلسطينية. فعلى سبيل المثال، خلال الحرب ظهر هاشتاج بعنوان “فلسطين، ليست قضيتي” بين مستخدمين سعوديين. وهو نفس الهاشتاج الذي انتشر أيضا بين المستخدمين السعوديين في سنوات سابقة. غالبا ما يحتوي هذا الهاشتاج على تغريدات، يعبر فيها المستخدمون عن أولوية المصالح السعودية، وعدم مبالاتهم بقضية فلسطين، وأحيانا يحتوي الهاشتاج على عبارات تشوه، وتسيء للشعب الفلسطيني.
خلال الحرب على غزة أيضا، صرح ناشط سعودي، يدعى بدر السعدون في حوار مع قناة اسرائيلية، بأن 80 % من الشعب السعودي، لا يهمه فلسطين، وأن السعودية هي أولوية الشعب السعودي في الوقت الراهن. كما قال إن قضية المسلمين هي المسجد الأقصى والقدس فقط، وأن فلسطين أصبحت ذريعة يستخدمها المتطرفون مثل، “الفارسي والتركي والإرهابي” على حد تعبيره. أضاف أن السعودية تسعى؛ للإعمار والسلام على عكس بعض الفلسطينيين. لقد لاقى السعدون هجوما من قبل سعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي؛ بسبب تصريحاته.
على الرغم من النقد الذي واجهه السعدون، إلا أن خطابه يعبر بالفعل عن قطاع من الشعب السعودي والخليجي بشكل عام. شدد السعدون، على أن المصالح الوطنية السعودية فوق أي مسألة أخرى، كما استخدم مزيجا بين خطاب قومي وإسلامي سعودي شديد الحدة، بوصفه “الأتراك” و”الفارسيين” بالمتطرفين. كما حصر الأزمة في فلسطين في حدود الرؤية الإسلامية التي تشدد على أهمية المسجد الاقصى والقدس فقط، مع الاستخفاف بقضايا تحرر وحقوق الشعب الفلسطيني. تلك العناصر التي عبر عنها تتسق مع نتائج الاستطلاعات السابق ذكرها. وهذا يعد مؤشرا، بأن السعودن ليس مجرد فرد، يغرد خارج السرب أو شخصية، تتقرب من القصر فقط، بل يعبر خطابه عن قطاع، لا يستهان به في الدول الخليجية، تتسق قيمه مع رؤى وسياسات النخبة الحاكمة.
ليس كتلة مصمتة
التحليلات والآراء حول الرأي العام الخليجي؛ بشأن فلسطين وإسرائيل، حملت الكثير من المبالغات والتبسيط. فالبعض يدافع عن موقف الشعوب الخليجية، ويدعي بأن الرأي العام الخليجي يدعم القضية الفلسطينية قلبا وقالبا. أما البعض الآخر، فيتهم الشعوب الخليجية، بأنها أصبحت تقبل، وتسلم بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، بدون أي معارضة تذكر، ولكن كلا الرأيين، يشوبهما قصور كبير.
الرأي العام الخليجي، ليس كتلة مصمتة، بل يختلف من دولة لأخرى، ويتحول أيضا مع تطور الأحداث. بعض الشعوب أكثر انفتاحا على إسرائيل، والبعض الآخر أكثر انغلاقا. وفي جميع البلدان هناك انقسامات بين مؤيد للتطبيع مع إسرائيل من ناحية، ومعارض من ناحية أخرى. وانقسام آخر بين من يهتم بالقضية الفلسطينية بشكل جاد من ناحية، ومن الناحية الأخرى من لا يكترث بالقضية الفلسطينية إلا في حال اصطدامها مع المصالح الوطنية. وفي وسط تلك الانقسامات هناك عدد لا حصر له من الرؤى، ووجهات النظر المختلفة ذات الأبعاد المتعددة بين الشعوب الخليجية.
الحرب في غزة، كشفت عن مدى الاختلافات، والتنوع في وجهات النظر حول فلسطين، وإسرائيل داخل الرأي العام الخليجي. ولكن الحرب أيضا، أيقظت القضية الفلسطينية في أذهان وقلوب الشعوب الخليجية بعد سنوات من سُبات عميق وطويل. هذا شكل تحديا وعائقا جديدا أمام حكام الخليج الذين يسعون؛ لتنحية القضية الفلسطينية عن الأذهان، وإبعادها عن المجال الشعبي، لتمهيد الطريق أمام تطور اتفاقات التطبيع مع تل أبيب.