في ظل تشابك الأدوار والسياسات على الساحة الإقليمية خلال الحرب على غزة، بات من شبه المستحيل رؤية سياسات أي من الدول المشتبكة مع الصراع بمعزل عن الأخرى، مصر والإمارات والسعودية بشكل خاص، تصدرت الدول المنغمسة في مجريات الصراع. فهناك الكثير على المحك بالنسبة للدول الثلاث مع استمرار الأزمة في غزة.
تفاعلت السياسات والمصالح الخليجية مع السياسات والمصالح المصرية، وأثرت على بعضها البعض، ورغم بعض التباينات بين مواقف مصر والدول الخليجية، لكن هناك عوامل متعددة جعلت المساعي، تتشابك في النهاية، وأبرزها إعادة الاستقرار للمنطقة بأكملها، وأهمية مركز مصر الاستراتيجي في المنطقة؛ لتحقيق هذا الهدف.
تنافس مؤقت
شهدت المنطقة قمتين بارزتين؛ لبحث الحرب في غزة، الأولى، عقدتها مصر تحت عنوان قمة القاهرة للسلام في بدايات الحرب، بمشاركة مجموعة من القوى الدولية والإقليمية، وانتهت دون التوصل لبيان مشترك، بعدها بفترة قصيرة، عقدت الرياض القمة العربية الإسلامية الاستثنائية، والتي تم خلالها الاتفاق على بيان مشترك، تضمن البيان إدانة العدوان الإسرائيلي، ورفض مقترحات تهجير الفلسطينيين، ودعم جهود مصر خلال الأزمة، مع التأكيد، على أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، والتشديد على أهمية الوصول لحل سلمي، والالتزام بالقانون الدولي.
عدم الاتفاق على بيان مشترك في قمة القاهرة قد يرجع لجمع قوى دولية مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي مع قوى إقليمية منها الدول العربية، فتباعد الرؤى بين الأطراف الحاضرة صعب الوصول لبيان موحد، خاصة خلال بدايات الأزمة.
بينما قصرت السعودية المشاركة على الدول الإسلامية، والعربية (من ضمنها إيران وتركيا) التي تجمعها أرضية مشتركة حول فلسطين؛ فبات من المتوقع منهم الإعلان عن موقف تضامني مع فلسطين؛ نظرا لعوامل سياسية وتاريخية متعددة.
عقد القاهرة والرياض قمتين مختلفتين خلال تلك المدة القصيرة، يعبر عن تنافس، بدأ بالظهور على الساحة الإقليمية بين البلدين في العقد الأخير، سعت السعودية خلال القمة الاستثنائية؛ للتشديد على أهميتها الإقليمية باستخدام أدوات القوة الناعمة، القاهرة أيضا رغبت في إعادة التأكيد على قوتها الناعمة، وقيادتها خلال محاولة التوسط؛ لحل الأزمة في غزة، خاصة في ظل تراجع نفوذها الإقليمي، وصعود القوى الخليجية.
الجهود المصرية خلال الحرب الاخيرة اعتمدت على دور القاهرة التاريخي في الصراع، ونجحت مصر بالفعل في تحقيق نتائج أكثر تأثيرا وفعالية من الدورين السعودي والإماراتي. فبفضل وساطة مصر وقطر تم الوصول لاتفاق وقف إطلاق نار مؤقت بين حماس واسرائيل و إطلاق سراح عدد من الرهائن، ولكن محدودية تأثير الإمارات والسعودية قد تتغير لتصبح أكبر في مستقبل غزة عقب الحرب نظرا لمواردهم المالية الوفيرة التي ستساهم في إعادة بناء القطاع.
الاستقرار المصري ومصلحة الخليج
احتدام الصراع في غزة، وأخطاره على استقرار المنطقة بأكملها، جعل التنافس بين القاهرة والخليج، يتراجع في سلم الأولويات، لتصبح الأولوية الأولى والأساسية لمصر، والخليج هي احتواء الأزمة بأسرع وقت.
تتعرص مصر لضغوط إسرائيلية وأمريكية؛ لتحويل مناطق من سيناء إلى مخيمات للفلسطينيين، تلك الضغوط، ارتكزت على استخدام المساعدات المالية، وشطب الديون كأدوات لإقناع القاهرة.
نقل موقع واي نت (التابع لجريدة يديعوت أحرونوت)، أن القاهرة حصلت على عرض من إسرائيل لشطب جزء كبير من ديونها؛ مقابل نقل الفلسطينيين لسيناء، كما أشار تقرير للتليجراف، بأن مصر تفكر في عرض أمريكي باستضافة مليون لاجئ فلسطيني في سيناء، مقابل إلغاء ديون أمريكية، لكن التصريحات المصرية الرسمية شددت على رفض القاهرة القاطع؛ لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، بينما نفى وزير الخارجية المصري تلقي مصر عروضاً من هذا النوع من الأساس.
المسئولون في القاهرة حتى الآن لم يقبلوا تلك العروض، ورغم الرفض الحالي، قد تكون المقترحات على الأقل جديرة بالنظر- كما أشار تقرير التليجراف السابق ذكره – نظرا لسخائها، خاصة في ظل تراكم الديون على الاقتصاد المصري، لكن ما يجعل القاهرة، تنظر إلى تلك العروض بتشكك، وتحفظ حاد- يميل للرفض بشكل كبير- هي الأخطار المحدقة على الأمن المصري التي تترتب على إقامة مخيمات في سيناء، فهناك احتمالية تسلل أعضاء من حماس داخل مصر، كما أن وجود عدد ضخم من اللاجئين في سيناء سيؤدى للإخلال بالوضع الأمني، حيث يحارب الجيش المصري الجماعات الإرهابية.
علاوة على ذلك، تحويل قطعة من الأراضي المصرية إلى مخيم للاجئين الفلسطينيين، سيؤدي إلى إثارة السخط داخل المجتمع المصري، وقد يتطور لتظاهرات وغضب شعبي، فالشوارع المصرية شهدت بالفعل تظاهرات في القاهرة والإسكندرية تضامنا مع أهالي غزة خلال الأسابيع الأولى للأزمة، والمسئولون المصريون لا يرغبون في خروج الاستقرار الداخلي عن السيطرة.
هذه المخاوف بشأن مستقبل استقرار الأمن والاقتصاد والمجتمع المصري؛ تتسبب بقلق المسئولين في القاهرة. ونفس تلك التهديدات، تقلق أيضا حكام الخليج، الذين يدركون، إن تهديد استقرار مصر سيؤثر سلبا على المنطقة بأكملها، مما يؤدي إلى الإضرار بمصالح الخليج على المدى الطويل.
آخر ما تريده دول الخليج الآن، أن يعود الوضع في مصر الى ما كان قبل 3 يوليو 2013 بعد نجاحهم في احتواء التوترات السياسية التي أعقبت الربيع العربي، والتخلص من حكم جماعة الإخوان في مصر. ولهذا كان من اللازم التأكيد على دعم الدور المصري في مواجهة الأزمة في البيان الختامي لقمة الرياض.
احتواء المستقبل أيضاً
تلك الرغبة في احتواء الأزمة، وتدعيم استقرار مصر والمنطقة، تمتد لرؤى الأطراف ذاتها، فيما يتعلق بمستقبل القطاع، إذ أشارت عدة تقارير وتصريحات، إلى أن الإمارات والسعودية ترحبان بإنشاء حكومة فلسطينية جديدة في غزة بقيادة السلطة الفلسطينية؛ ليصبح هذا السيناريو خطوة أولى في سبيل حل الدولتين؛ لحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل مستدام.
و نقل تقرير لتايمز أوف إسرائيل، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صرح للكنيست “البرلمان” الإسرائيلي، بأن الإمارات والسعودية سيساعدان في تمويل إعادة اعمار غزة، مستبعداً سيناريوهات إنشاء دولة فلسطينية، أو حكم “السلطة الفلسطينية” لغزة عقب الحرب.
الجزء الأول من تصريحات نتنياهو للكنيست الإسرائيلي، يتوافق مع عدة تقارير تشير إلى استعداد الدول الخليجية؛ المساهمة ماليا في إعادة إعمار غزة عقب الحرب. ولكن الجزء الثاني من تصريحات نتنياهو يتعارض مع الشروط التي شدد عليها الخليج كشرط؛ للمساهمة في عملية إعادة الإعمار.
بالإضافة الى ان مصادر قالت لشركة البث الاسرائيلي، أن دول الخليج رحبت بمقترح أمريكي دعا دول الخليج؛ لتمويل إعادة الإعمار، ولكن الدول الخليجية اشترطت إصلاح السلطة الفلسطينية، وموافقة إسرائيل على خارطة طريق سياسية؛ بشأن فلسطين. كما نقلت وول ستريت جورنال عن المبعوثة الإماراتية في الامم المتحدة، أن بلادها ستساهم بشكل جاد في إعادة إعمار غزة عقب الحرب بشرط التوصل لخارطة طريق بشأن حل الدولتين، كما طلبت من دول في المنطقة مثل، مصر والأردن المساهمة في جهود الإعمار بعد الحرب.
إسرائيل أبلغت مصر والسعودية والإمارات والأردن رغبتها بإنشاء منطقة عازلة على الجانب الفلسطيني عقب انتهاء الحرب؛ لحماية حدود الدولة العبرية، ولم ترد أي من الدول بشأن المقترح فيما عدا الإمارات التي ردت ردا دبلوماسيا وقالت، إنها توافق على أي حل تتفق عليه الأطراف المعنية؛ لتحقيق الاستقرار وإقامة دولة فلسطينية.
تلك التقارير تشير، إلى أن الخليج يرغب في حل القضية بشكل مستدام هذه المرة عن طريق حل الدولتين؛ لمنع انفجار قنبلة فلسطين مجددا.
هدف الدول الخليجية الأساسي هو استقرار الوضع في فلسطين بشكل دائم؛ كيلا يشكل خطرا على استقرار المنطقة مجددا، ويرون أن حل الدولتين هو الوسيلة الأمثل، ولكن إن نجحت اسرائيل في تحقيق نفس الهدف باستخدام وسائل أخرى، لا تتضمن إقامة دولة فلسطينية، فقد يرحب الخليج بذلك، وسيكون على استعداد للمساهمة في إعادة الإعمار بالشراكة مع الولايات المتحدة وإسرائيل.
مؤخرا نقل تقرير لوول ستريت جورنال، أن مدير الاستخبارات الأمريكية عرض على رئيس الجمهورية، ورئيس الاستخبارات المصريين مقترحا، يتعلق بإدارة مصر أمن غزة عقب الحرب، ولكن القاهرة رفضت المقترح الأمريكي، وسجلت اعتراضها على تدمير حركة حماس معللة هذا بوجود حاجة أمنية لمصر؛ لاستمرار تواجد الحركة في غزة.
رغم الاختلاف الطفيف بين موقف القاهرة والموقف الخليجي تجاه مستقبل غزة، ولكن هناك أسبابا تجعل كلاهما، يرتابان وينظران بشك نحو هدف إسرائيل على عدة أصعدة، ما يفسر عدم اتساق موقف مصر، والخليج مع موقف تل أبيب على الرغم، أن جميعهم ليسوا أصدقاء لحماس، وينظرون للحركة نظرة سلبية بدرجات مختلفة.
اولا هناك شكوك حول مدى واقعية الهدف الاسرائيلي المعلن بالقضاء على حماس، لأنه حتى إذا دمرت إسرائيل البنية التحتية لحماس وقضت على قياداتها في غزة، ستستمر أيدلوجية حماس بالنمو وسط الفلسطينيين وسيتبقى بعض أعضاء الحركة الذين قد يعيدون إحياء الحركة مجددا بشكل أو بآخر.
عدم اليقين حول مستقبل غزة ما بعد حماس يثير المخاوف من تصاعد الاضطرابات والعنف في القطاع.
ثانيا هناك مخاوف أن هدف إسرائيل الحقيقي هو احتلال غزة وإخلائها من الفلسطينيين، وهذا ظهر على سبيل المثال في تصريحات وزير التراث الإسرائيلي الذي دعا لاحتلال غزة بشكل كامل.
في ظل هذا السيناريو قد تتحول سيناء لمخيم دائم للفلسطينيين. هذا ما قد يترجم إلى تهجير أعداد هائلة من الفلسطينيين إلى سيناء مما يمثل عبئا اقتصاديا وأمنيا على مصر، إضافة إلى احتمالية تواجد أعضاء لحماس وسط اللاجئين ربما يحاولون تنفيذ عمليات من داخل الحدود المصرية وربما بالتعاون مع جماعات إسلامية في سيناء وما تبقى من شبكات جماعة الإخوان في مصر.
بالنسبة لمصر والخليج، كلما طال الصراع ازدادت خطورة خروجه عن حدود غزة، وبالتالي ازدياد احتمالات الإخلال بالأمن والاستقرار المصري وتهديد استقرار المنطقة بأكملها.
وأخيرا، قدرات القاهرة على الوساطة بين حركة حماس وإسرائيل، أعطتها ثقلا سياسيا في الصراع، والقضاء على حماس، قد يؤثر سلبا على مستقبل هذا الدور التاريخي.
التعاون الآن
خلال بدايات أزمة غزة، صعدت الى السطح بوادر، دلت على التنافس الدائر بين الخليج ومصر على قيادة الساحة الإقليمية، ولكن مع تصاعد واستمرار الحرب، سرعان ما أصبح جليا، بأن هناك أولويات أمنية وسياسية مشتركة في الوقت الحالي تتجاوز هذا التنافس، على الرغم من الاختلافات الطفيفة بين الموقفين المصري والخليجي حول حماس ومستقبل غزة، ولكن هناك رؤية مشتركة أكبر تجعل التعاون ضرورة لاحتواء الازمة.
إطالة الحرب ستكون عواقبها وخيمة على استقرار المنطقة بأكملها، مما يقلق مصر والخليج. كما أن الأخطار الأمنية والاقتصادية والسياسية على مصر المترتبة على حرب غزة تقلق حكام الخليج، كما تقلق المسئولين في القاهرة، فالقوى الخليجية على دراية، أن استقرار المنطقة يرتكز على استقرار مصر، ولهذا فإن منع امتداد آثار الحرب من داخل حدود غزة إلى الجانب المصري من الضرورات الاستراتيجية لدول الخليج.
لكن الضعف القاسم المشترك
عموما وأيا كانت الأطوار والمراحل التي تجلت فيها يوميات إدارة أزمة غزة بين مصر والخليج سواء طور التنافس أو مرحلة الاحتواء والآن إطار التعاون والتنسيق، فإن الضعف الشديد -إن لم يكن العجز- هو القاسم المشترك الأعظم على كلا الجانبين.
فلا مصر بما كان يفترض لها من وزن بالمنطقة وتأثير بحكم تاريخها والقرب الجغرافي الملاصق لحدودها وأمنها القومي، ظهر أن تأثيرها الفعلي على مجريات الأزمة، وعلى مسألة إيقاف أو استمرار الحرب، هامشيا.ش
أما الخليج فكان تأثيره أكثر ضعفا وهامشية، فكل الطنطنة والثرثرة حول “قوة تأثير المال” وقيادة العالم الإسلامي فيما يخص السعودية تبين لحظة الحقيقة أنها هباء منثور. وأما الإمارات فكل الأحاديث التي رافقت توقيعها على “اتفاقات إبراهام”، من أنها سيجري استثمارها لخدمة الفلسطينيين وللتخفيف من العدوانية الإسرائيلية تجاههم، ثبت بشكل نهائي وتام أن هذه الأحاديث كانت مجرد لغو وكلام فارغ من أي نية حقيقية، فعند المواقف، توقف الموقف الإماراتي عند إدانة هجوم حماس فقط، ولكنه تجاهل الإشارة أيضا لتاريخ طويل ومديد من الظلم والبطش الشديد الذي ألحقته دولة الاحتلال بالشعب الفلسطيني.