الاستهداف وجودي بقوة الحقائق لا افتراضي بنظريات المؤامرة.
قد تفرض الحرب على مصر المنهكة باقتصادها والمأزومة في أحوالها.
لا أحد يطلب الحرب بذاتها، لكنها قد تكون خيارا إجباريا.
هناك أزمتان وجوديتان متفاقمتان، يستدعيان التنبه والحذر، وأخذ كافة الاحتمالات بالجدية اللازمة.
أولاهما، عند الحدود الشرقية، حيث تسعى إسرائيل إلى فرض مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء.. وهو مشروع ماثل بتحدياته التي تضرب السيادة المصرية على سيناء، وتنهي القضية الفلسطينية بنفس الوقت.
وثانيتهما، عند منابع نهر النيل، حيث وصلت جولات التفاوض الماراثونية في أزمة سد النهضة الأثيوبي إلى نقطة النهاية بإعلان الفشل النهائي.
كان ذلك اعترافا مصريا متأخرا، بأنه قد جرى استهلاك الوقت لعشر سنوات كاملة، حتى وصلنا إلى أعتاب الخطر الداهم على الأمن المائي، كما لم يحدث، منذ نشأة الحضارة الإنسانية على ضفاف النيل.
الحضور الإسرائيلي يعلن عن نفسه في الأزمة الأولى بكل وضوح أهدافه، ومراميه، ويكاد يفصح عن نفسه في الثانية.
لا يمكن الارتكان إلى أية وعود أمريكية، أو غربية في رفض التهجير القسري، فقد حاول وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” الترويج له في البداية، وإغواء مصر بتعويضات مالية، أو مقايضة السيادة على سيناء بديونها المالية الباهظة.
كان ذلك استثمارا خطرا؛ لأزمة الديون الأجنبية، التي تراكمت وتوحشت، ورهنت مستقبل البلد كله للمجهول.
إذا ما مضى بترهيب السلاح مشروع التهجير القسري إلى آخره، وهو سيناريو ما يزال قائما بأخطاره وتداعياته، فإن مصر ستكون مجبرة على الدخول في مواجهة عسكرية مع إسرائيل لا مع عشرات الآلاف من الفلسطينيين، الذين قد يضطرون إلى النزوح الاجباري، لا الاختياري، لداخل سيناء.
إذا قبلت مصر، بذريعة أو أخرى، تمرير التهجير القسري ضاعت السيادة على سيناء، وتقوضت القضية الفلسطينية معها.
وهذا ما لا يحتمله أي نظام حكم في مصر.
وإذا تصادمت مع النازحين، فإنه عار تاريخي لا يمحى، وعواقبه الوخيمة لا تزول.
بكل الاحتمالات لا يعقل، أن تتقوض السيادة على سيناء بلا طلقة رصاص واحدة، وهي التي استشهد في سبيل تحريرها آلاف الجنود المصريين، حتى يكون ممكننا، أن يرفع البلد رأسه.
هناك ثلاثة أهداف إسرائيلية معلنة للحرب على غزة: اجتثاث “حماس”، ومنع عودتها لحكم قطاع غزة، وإطلاق سراح الأسرى والرهائن بأقل تكاليف سياسية ممكنة.
هناك هدف آخر أكثر خطورة، وشبه معلن: إخلاء القطاع من سكانه الفلسطينيين.
كان ذلك مطروحا أثناء حرب فلسطين الأولى (1948)، لكن “ديفيد بن جوريون” مؤسس الدولة العبرية مانع فيه، قبل أن يعود وفق أرشيف مجلس الوزراء الإسرائيلي؛ ليقول إنه ربما يكون قد أخطأ!
عشرات الوثائق المتوافرة في الأرشيفيات الغربية والإسرائيلية، تثبت بيقين أن سيناء في عين الاستهداف كوطن بديل للفلسطينيين.
قد يتعطل ذلك الخيار، لكنه لا يغادر المخيلة الاستراتيجية الإسرائيلية لدى أول فرصة، أو عند أدنى تهاون.
في اللحظة الراهنة، تصرفت السياسة المصرية على نحو صحيح؛ بشأن قضية السيادة على سيناء، لكنها لم تتصرف على ذات الدرجة من الوضوح والحسم في قضية إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر رفح، ولا قدرت بما هو كاف الدور المحوري الذي لعبته المقاومة الفلسطينية في تعطيل مشروع التهجير القسري.
بعبارة قاطعة: “المقاومة الفلسطينية خط الدفاع الأول عن سيناء والسيادة المصرية عليها”.
هزيمة المقاومة هزيمة لمصر.
هكذا بكل الوضوح.
الذي يتمنى هزيمتها في غزة، كأنه يتمنى انتزاع سيناء من الجسد المصري.
مصر في قلب الاستهداف دورا وتاريخا ووجودا.
الحرب ليست خيارا مستبعدا، إن لم يكن اليوم فغدا.
بذات القدر، فإن مصر قد تكون مدعوة لرفع صوتها بالغضب، الحد الأقصى من الغضب، حتى لا يتعرض شعبها لشح مائي مدمر لأوجه الحياة فيها.
حرب المياه قد تكون محتمة بغض النظر عن نتائجها، وتعقيداتها وعدم الرغبة في الوصول إلى تلك النقطة الكارثية في العلاقات بين دول وادي النيل.
في البيان المصري الذي أعلن فشل المفاوضات، بدا مستلفتا بصياغته: “إن مصر تحتفظ بحقها في الدفاع عن أمنها المائي، والقومي في حال تعرضه للضرر”.
كان ذلك تحذيرا خشنا من العواقب المحتملة، بعد أن سدت وسائل العمل السياسي والدبلوماسي.
في ذلك التحذير تلميح إلى الخيار العسكري، بعد أن استنزف الوقت في مفاوضات عبثية، جولة بعد أخرى بلا حصاد أو طائل.
لسنوات طويلة، دأبت وزارة الخارجية المصرية على وصف السلوك التفاوضي الإثيوبي، بأنه يفتقد الإرادة السياسية.
كان ذلك توصيفا خاطئا بصورة شبه مطلقة.
الحقيقة أنها كانت حاضرة دوما على موائد التفاوض، كما يعترف البيان المصري الأخير، بعبارة لافتة أخرى، اتهمت الجانب الإثيوبي بالاستمرار “في استغلال الغطاء التفاوضي؛ لتكريس الأمر الواقع”.. “حتى تحكم السيطرة المنفردة على مياه النيل الأزرق، دون اعتبار لأي قانون دولي”.
كانت تلك الصياغة نوعا من الاعتراف المتأخر بالأخطاء الكبرى التي ارتكبت في إدارة أزمة السد الإثيوبي.
بنص ذلك الاعتراف، يثبت الآن بوثيقة رسمية، أنه لم يكن لدينا إدارة سياسية تعرف الحقائق، وتتعامل على أساسها، وأننا قد أضعنا وقتا طويلا، حتى أصبح السد أمرا واقعا.
لوحت مصر طويلا وكثيرا، بصور مباشرة وغير مباشرة: “أن كل الخيارات مفتوحة للحفاظ على حصتها المائية التاريخية من مياه النيل”، و”أن مياه النيل خط أحمر”، لكنها سرعان ما كانت تتراجع بضغط دولي أو آخر، حتى فقد ذلك التلويح جديته واحترامه وأثره.
في خريف (2020) صرح الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”، إثر تملص إثيوبيا من التوقيع على اتفاقية، جرى التوصل إليها في واشنطن برعاية أمريكية ومشاركة من البنك الدولي: “إن مصر قد تفجر سد النهضة”.
وفي اتصال هاتفي مع رئيس الوزراء السوداني السابق “عبد الله حمدوك” قال بما نصه حسب ما نشر وقتها: “إن الوضع خطير للغاية؛ لأن مصر لن تكون قادرة على العيش، وسينتهي بهم الأمر؛ لتفجير سد النهضة”.
ثم قال مؤكدا على رسالته آملا في نقلها إلى الإثيوبيين: “قلتها وأقولها مجددا بصوت عال واضح، سوف يفجروا ذلك السد عليهم، أن يفعلوا شيئا”.
خيمت الشكوك على حسابات “ترامب”، ودواعيه والغطاء الذي وفره لاستخدام القوة بين نظرتين.
إحداهما، ذهبت أن لديه معلومات عن قرار مصري قد اتخذ، وأنه موافق عليه بعد الإفشال الإثيوبي المتعمد؛ لمخرجات مفاوضات واشنطن.
والأخرى، أنه أراد توريط القاهرة في حرب على بعد آلاف الكيلو مترات من حدودها، لا تتوافر كامل القدرة عليها لصالح إسرائيل وبتحريض منها.
فيما قيل وقتها، صحيحا ودقيقا، أن مصر لن تحارب إثيوبيا وحدها، وإنما إسرائيل أيضا.
الظروف اختلفت الآن.
مشروع السد في مراحله الأخيرة، وبحيرته امتلأت بالمياه.
العمل العسكري قد يفضي إلى إغراق مناطق واسعة من السودان، كأن قنبلة مائية انفجرت في أرجاء المكان.
مع ذلك يظل ممكنا نظريا باحتلال جسم السد نفسه، الذي يبعد عشرة كيلو مترات عن الحدود السودانية، لكن ذلك يستدعي سودانا موحدا، يمتلك قراره والعلاقات معه راسخة، وهو ما لا يتوافر الآن.
من المرجح أن هناك أدوارا إسرائيلية، وإقليمية أخرى في تأجيج الوضع الداخلي السوداني.
تفكيك السودان إضعاف لمصر.
هذه حقيقية جيوسياسية.
الأخطار تداهمنا على جبهتين متباعدتين، دون أن يكون هناك تنبها حقيقيا، أن مصيرنا لعقود طويلة مقبلة على المحك.
التنبه مسألة تأهب ضروري، لما هو مقبل من تحديات ومخاطر.