حسبما يفهم من تصريح المصدر المسئول المصري لقناة القاهرة الإخبارية ليلة الثلاثاء الماضي، فإن أيا من الأطراف المعنية بالحرب الدائرة في غزة لم يرفض المبادرة المصرية؛ لوقف إطلاق النار، وتبادل أسرى ورهائن كمرحلة أولى، تمهد لمراحل ثلاث تالية، وذلك على عكس ما تردد نهار الثلاثاء، من أن حركة حماس رفضت المقترح، وكذلك السلطة الوطنية الفلسطينية، بينما لم يصدر رد فعل رسمي من الجانب الإسرائيلي، حتى ساعة كتابة هذا المقال، وهو أيضًا ما يمكن أن يكون الوصف الملائم للموقف الأمريكي، أي إن واشنطن أيضا لم تعلن بعد موقفها.

المسئول المصري توقع في ذلك التصريح الحصول على موافقة جميع الأطراف، ليتم بعدها بلورة موقف أو مشروع متكامل.

مما نُشر حول الاقتراح المصري، فنحن بإزاء مبادرة شاملة، تبدأ بوقف لإطلاق النهار، أو هدنة لمدة أسبوعين، قابلة للتمديد لأسبوعين آخرين، يجري خلالهما تبادل  إطلاق أسرى، ورهائن بأعداد محدودة، ومتفق عليها بين الحكومة الاسرائيلية وبين حركة حماس، ومعها حركة الجهاد الإسلامي، على أن يكون المحررون من النساء والأطفال وكبار السن، بحيث تطلق حماس سراح ٤٠ محتجزا إسرائيليا، في حين تطلق إسرائيل سراح ١٢٠ فلسطينيا.

وطوال هذه الفترة، سيتم وقف الأعمال القتالية، وتتراجع الدبابات الإسرائيلية إلى مواقع محددة، ويتواصل تدفق المساعدات الغذائية، والطبية والوقود على قطاع غزة.

أما المرحلة الثانية، فتتضمن إطلاق حوار وطني فلسطيني- برعاية مصرية- لإنهاء الانقسام بين غزة والضفة الغربية، وتشكيل حكومة تكنوقراط تشرف على أعمال الإغاثة والإعمار، وتمهد لانتخابات برلمانية ورئاسية فلسطينية، وتشرف عليها. وتبدأ المرحلة الثالثة، بوقف كلي وشامل لإطلاق النار، وصفقة شاملة لتبادل الأسري من العسكريين الإسرائيليين، وأعداد يتفق عليها من الفلسطينيين ذوي المحكوميات المرتفعة في سجون إسرائيل، والمعتقلين بعد هجوم السابع من أكتوبر الماضي، وستكون المرحلة الرابعة، انسحابا إسرائيليا من قطاع غزة، وتمكين النازحين من العودة إلى مناطقهم في مدينة غزة، وفي شمال القطاع.

بعد هذا العرض لمقومات المشروع أو المبادرة المصرية، وبعد تلك المقدمة حول افتراض عدم رفض أي من الأطراف المعنية  لها صراحة ونهائيا، فمن المهم الاجتهاد؛ لفهم الخلفيات والمعطيات التي تستند إليها، أو تنطلق منها الدبلوماسية المصرية في طرحها لهذ التصور لوضع نهاية للمأساة الجارية في غزة إنسانيا وسياسيا، وتدارك آثارها المنذرة دائما بمخاطر التصعيد، والاتساع إقليميا وربما دوليا، وذلك على توقع أو افتراض، أن بناء الثقة خلال تلك المراحل الأربع سوف يحدث تغييرات إيجابية غير محدودة داخليا في كل طرف، وإقليميا على مستوى المنطقة، وسياسات القوى الكبرى فيها، بحيث تتاح بداية جديدة؛ لعملية التسوية النهائية للقضية الفلسطينية.

أولى تلك المعطيات، أنه من المؤكد حسب السوابق العالمية والتقاليد الدبلوماسية المرعية، أن هذه المبادرة المصرية ليست خيالا علميا، أو رص كلام؛ لتسديد خانات، ولكنها وضعت بناء على اتصالات ومشاورات موسعة مع أطراف الصراع، وكذلك بناء على تقدير موقف مدروس لكل طرف مباشر، أوغير مباشر، لكنه مؤثر كالولايات المتحدة مثلا.

يترتب على هذه الحقيقة أو هذا المعطى، أن كلا من الطرفين المتقاتلين قد بلغ نقطة الإجهاد والجمود، أو اقترب منها، ولا يلوح في الأفق احتمال تحقيق الأهداف المعلنة للحرب لكل منهما، بدون وساطات من أطراف ثالثة، وتنازلات متبادلة، وذلك دون أن ننسى القاعدة الأصلية في هذا النوع من الحروب بين الجيوش النظامية، وبين حركات المقاومة الشعبية، وهي أن المقاومة إذا لم تهزم فهي منتصرة، وأن الجيوش النظامية تعتبر مهزومة، إذا لم تنتصر.

إذن فبالنسبة لإسرائيل؛ فالمتفق عليه حتى في الداخل الإسرائيلي- باستثناء بنيامين نتنياهو وشركاه!- أنه ما لم يتم تهجير سكان غزة خارجها، فيستحيل القضاء على حركة حماس ومن ثم، يستحيل أيضا تحرير المختطفين الإسرائيليين، منذ يوم السابع من أكتوبر الماضي، كما يستحيل ترميم قاعدة الردع الاستراتيجي الإسرائيلي، التي تصدعت في ذلك اليوم ، وبالطبع فقد كان الرفض المصري؛ لاستقبال حركة نزوح جماعي فلسطينية حاسما، ومحبطا لأية مخططات إسرائيلية في هذا الاتجاه.

وحتى إذا اعتبرنا، أن قول الجنرال دان حالوتس رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، بأن إسرائيل خسرت الحرب بالفعل ينطوي على شيء من المبالغة؛ بسبب الصراع السياسي، فإن الأثمان السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتكبدها الإسرائيليون لهذه الحرب، دون نتيجة حاسمة، تشكل أو يجب أن تشكل ضغوطا هائلة على نتنياهو وشركاه، مهما تبلغ درجة مكابرته ومكابرتهم، وإنكاره وإنكارهم، هذه الأثمان تشمل أيضا التحولات الواضحة في موقف الرأي العام والشباب من إسرائيل في دول الغرب بشطريه الأوروبي والأمريكي، بما يشكل أيضا عبئا على الرئيس الأمريكي جو بايدن في عام الانتخابات.

أظنني لست في حاجة إلى استعراض وقائع وأرقام الأزمات الاقتصادية والمالية في إسرائيل؛ بسبب هذه الحرب، و تطاول مدتها، فهي متاحة بسهولة للقارئ المهتم، ولذلك أتحول الآن إلى تقدير موقف حركة حماس، كما يجب أن يكون وفقا لحسابات الرشادة السياسية، والذي يشكل المعطى الأساسي الذي تنبني عليه المبادرة المصرية من وجهة نظري، فمع كل الإعجاب والتقدير لصمود، وبراعة وشجاعة مقاتلي الحركة، بالإضافة إلى المعاناة الإنسانية، والقتل الجماعي والتشريد؛ بسبب جرائم الحرب الإسرائيلية، فإنه يسري عليها أيضا قاعدة الحاجة إلى وسطاء وتنازلات؛ لتحقيق أهم أهدافها، وهو هدم أسطورة الردع الإسرائيل ، وإحياء فكرة المقاومة، و كذلك إحياء القضية الفلسطينية بعد سنوات اطمئنان اليمين الإسرائيلي؛ لموتها، واستعداده لدفنها تحت أرض التطبيع مع المملكة السعودية، و التكامل الإقليمي الشامل مع الخليج، وهو ما توفره المبادرة المصرية، كما يظهر جليا من صياغتها.

فإذا قيل إنه لا يمكن الوثوق، بأن نتنياهو الذي يؤسس وجوده السياسي على النفي السياسي المطلق، لأي كيان فلسطيني الآن، أو في المستقبل، لن يوافق على المقترح المصري بإجراء انتخابات رئاسية، وبرلمانية فلسطينية، توحد الضفة وغزة، فالرد هو، أنه بمجرد وقف إطلاق النار في هدنة مطولة أو دائمة، فسوف تشتعل حرب سياسية ضارية ضد الرجل وحلفائه في إسرائيل، وبين اليهود الأمريكيين ليس فقط؛ بسبب التقصير الذي أدى إلى هجوم السابع من أكتوبر، ولكن أيضا؛ بسبب الأداء المتخبط في ميدان القتال، وبسبب الفجوة التي بلغت حد التناقض بين المستوى السياسي، ممثلا في قيادة نتنياهو، وبين المستوى العسكري، ممثلا في هيئة الأركان، والجنرالات المتقاعدين، كل ذلك إضافة إلى الانقسام الهائل في المجتمع والدولة السابق على هذه الحرب حول خطط الحكومة؛ لنزع اختصاصات القضاء في مراقبة ومحاكمة السلطة التنفيذية.

إن إسقاط نتنياهو وشركائه، سيكون في حد ذاته انتصارا سياسيا ضخما، بلا أدنى شك لمقاومة حركة حماس، خاصة إذا ترتب عليه، ما نتوقعه، وما تقترحه المبادرة من انتخابات عامة، توحد الضفة وغزة.

بقيت ملاحظة أخيرة، تشهد بالحنكة للدبلوماسية المصرية، وهي النص على حكومة تكنوقراط فلسطينية، تتولى الإشراف على الإغاثة والإعمار والانتخابات، فهي في ظاهرها تحقق لإسرائيل هدف منع حماس من العودة لحكم غزة، كما تحقق لها شرط عدم اعتبار سلطة رام الله هي البديل المقبول لحماس، ولكنها كما سبقت الاشارة تعيد القرار للشعب الفلسطيني في مجمله، وتعيد الوحدة السياسية بين الضفة الغربية وبين قطاع غزة في ظرف، يخلو غالبا من نتنياهو ونظرائه في اعتناق دوجما إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، تلك الدوجما التي تنفي أي وكل حق فلسطيني من الأصل.