الفشل الإسرائيلي في تحقيق أي من أهدافه المعلنة لعدوانه على قطاع غزة، واستمرار المعركة لأسابيع ــ ثم أشهر ــ أدى كما كان متوقعاً؛ لاتساع نطاقها الجغرافي، ففضلا عن الجبهتين اللبنانية والعراقية، أعلنت جماعة “أنصار الله” الحوثيين استهداف السفن الإسرائيلية، أو المتوجهة لمواني إسرائيل عبر باب المندب الأمر الذي أثر سلباً على حركة التجارة العالمية.

وبعد أقل من شهر، بدأت الأنباء تترى حول طريق بري بديل يربط بين الإمارات وإسرائيل؛ للحفاظ على استمرار مرور الحاويات والبضائع، في سلاسل الإمداد العالمية بشكل سلس.

الطريق الذي عرف بـ “الجسر العربي”  له أهمية استراتيجية وسياسية واقتصادية كبرى، فضلا عن كونه، يكشف كيف ترتبط “اتفاقات إبراهام” بتكنولوجيات جديدة، ستغير جغرافيا المنطقة من خلال طرق تجارة بديلة، تختصر الوقت والمسافات بشكل غير مسبوق.

يمثل الطريق أيضا حبل نجاة لسلال الإمداد العالمية من تهديدات الحوثيين، كما أنه يوفر عوائد اقتصادية للدول التي يمر بها الطريق، بداية من الإمارات والبحرين مرورا بالسعودية وعمان، وانتهاء بمصر وإسرائيل.

وبقدر ما هو ابتكار مثير للانبهار، إلا أن تشغيل الطريق/ الجسر أثار الكثير من الجدل؛ بسبب توقيت الإعلان عنه، ثم إطلاقه، فبالتزامن مع نفخ الروح في سلاسل الإمداد، والمحافظة على تدفق أرباح التجارة العالمية والإقليمية، يتم إنهاء أرواح أطفال غزة، وتسيل الدماء من عروقهم على حطام منازلهم، وجثث عائلاتهم.

مع تصاعد الأزمة في غزة، دخلت حركة الحوثيين للمعركة من خلال  تهديد أحد أهم طرق التجارة العالمية، فأصدرت حركة الحوثيين تحذيرا للسفن العابرة بالقرب من اليمن من التوجه نحو إسرائيل. و شنت مجموعة من الهجمات على سفن تجارية منها، ناقلة نفط نرويجية.

كما أعلنت واشنطن عن رصد، واعتراض عشرات من المسيرات، والقذائف القادمة من اتجاه الحوثي. وفي واقعة هي الثانية من نوعها خلال هذا الشهر، اعترضت مصر قذيفة موجهة بالقرب من مدينة دهب، لم يتم الإعلان عن مصدر الهجمات بشكل رسمي، ولكن الأصابع تشير للحوثيين.

باب المندب في قبضة الحوثيين

تتركز هجمات الحوثيين في منطقة استراتيجية للتجارة العالمية، وهي مضيق باب المندب الذي يمثل المدخل الجنوبي لقناة السويس، وهو حلقة وصل هامة في طرق التجارة الرابطة بين أوروبا وآسيا.

يستحوذ هذا الطريق على نسبة تتراوح من 12 % الى 15 % من حجم التجارة العالمية، وتمر من خلاله من 7 % الى 10 % من شحنات النفط العالمية، و8 % من الغاز الطبيعي المسيل، ولهذا قد تتسبب هجمات الحوثيين المتكررة على الممر في  تضخم الأسعار العالمية؛ نتيجة ارتفاع تكاليف الشحن، وأسعار النفط والغاز.

بالفعل بدأت حركة التجارة العالمية، تتأثر سلبا، أعلنت شركة بي بي البريطانية للنفط تعليق شحناتها المارة خلال البحر الأحمر، وغير عدد من شركات الشحن مسارات سفنها، وناقلاتها إلى طريق رأس الرجاء الصالح الأطول؛ لتفادي المرور من البحر الأحمر، مما أربك المواني الإفريقية؛ بسبب عدد السفن المهول وضعف إمكانيات تلك المواني.

إضافة الى هذا، هناك عدة موانٍ على البحر الأحمر، ستنخفض عائداتها؛ بسبب هجمات الحوثيين مثل، جدة وجيبوتي وعدن، ولكن مصر بشكل خاص ستكون من أكبر المتضررين اقتصاديا؛ بسبب تراجع أعداد السفن العابرة خلال قناة السويس، فضلا عن انخفاض عوائد ميناء سفاجة المصري.

حتى اللحظة أكثر من 100 سفينة شحن، حتى الآن غيرت مسارها نحو  رأس الرجاء الصالح؛ لتفادي المرور بقناة السويس.

دبي– حيفا: حل إسرائيلي– خليجي بمشاركة مصرية

منذ عدة أيام نقلت تايمز أوف إسرائيل خبرا عن توقيع شركة تراكنت الإسرائيلية- المتخصصة بمجال تكنولوجيا اللوجستيات- اتفاق مع شركتي بيورترانس، ومواني دبي العالمية، الإماراتيين، لتشييد جسر بري.

الجسر سيمد طريق شحن– في الاتجاهين- بين مواني الإمارات أو البحرين، ويمر خلال السعودية والأردن؛ ليصل إلى المواني الإسرائيلية أو المواني المصرية، ومن ثم تنقل الحاويات إلى أوروبا.

وخلال الأسابيع القليلة الماضية، مرت بالفعل شحنات تجريبية؛ لاختبار الطريق الجديد، وأعلن مؤسس الشركة “حنان فريدمان” الانتهاء تماماً من بناء الجسر هذا الاسبوع.

و شدد مؤسس تراكنت، على أن الطريق الجديد لن يهدد قناة السويس، لأنه سيكون مكملا، وليس بديلا للطريق البحري من أجل تخطي تهديدات الحوثيين.

هناك نوع من الغموض، والتناقض في تصريحات فريدمان للمنصات الإعلامية المختلفة حول توقيت التوصل للاتفاق، ففي حواره مع تايمز أوف إسرائيل، يشير إلى أن توقيع الاتفاق تم في ديسمبر الحالي، بينما سبق له التصريح  لجويش نيوز سنديكيت، أن الاتفاق تم توقيعه مع الإمارات والبحرين في المنامة قبل السابع من أكتوبر بشهر كامل، وأنه حصل على موافقة من وزارة الدفاع الإسرائيلية؛ لتشغيل الطريق، ولكن هجمات الحوثيين جعلت الطريق أكثر أهمية.

لم يعلن فريدمان حتى الآن عن عدد الشاحنات التي عبرت خلال الفترة التجريبية، ولكنه قال إن السعة القصوى للطريق هي 300 شاحنة في اليوم الواحد، ولم يحدد هو أو أي من مسئولي الشركة موعد بدء تشغيل الطريق تجاريا بشكل رسمي.

منذ عدة أيام أيضا، أعلن مؤسس تراكنت، لإسرائيل ناشونال نيوز عن توقيع اتفاق مع شركة WWCS المصرية التابعة لرجل الأعمال المصري هشام حلمي، والذي يشغل منصب القنصل الشرفي لإيرلندا في الإسكندرية، وشغل سابقا رئيس مجلس إدارة شركة ميرسك سيلاند في مصر.

ظهرت للعلن نية إنشاء الجسر في يوليو الماضي، عندما سرب موقع واي نت (التابع لجريدة يديعوت أحرونوت) وثيقة لوزارة الخارجية الاسرائيلية تحوي على دراسة، تمت بالتعاون مع الحكومة الأمريكية؛ بشأن إنشاء الطريق البري.

توصلت الدراسة المشتركة، إلى انه رغم وجود بنية تحتية، وطرق برية موجودة بالفعل، تربط الإمارات بإسرائيل، لكن الشاحنات واجهت العديد من العوائق البيروقراطية التي تجعل نقل الشحنات مهمة شاقة، ولهذا أوصت دراسة المشروع بتطوير الطرق الحالية، وتسهيل الإجراءات البيروقراطية، وتوحيد الشاحنات، وإصدار رخص قيادة خاصة؛ لضمان سلاسة الحركة، كما أشارت الوثيقة، أن استغلال الجسر للأغراض التجارية يعد خطوة أولى، تليها خطوات تشغيله؛ لأغراض السياحة والسفر في المستقبل.

هناك بالفعل طريق بري يمر بين الإمارات وإسرائيل، وكانت الحاويات تنقل من خلاله حتى قبل إبرام اتفاقات إبراهام، ولكن تعدد الشاحنات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية، جعل الطريق غير جاذب لشركات الشحن.

مكسب سياسي إسرائيلي ومنافع أخرى

الطريق البري يعود بالعديد من المنافع دوليا وإقليميا، فهو سينقذ حركة التجارة من هجمات الحوثيين، مما يقلل من خطر ارتفاع أسعار البضائع والطاقة حول العالم، كما يضمن استمرار حركة تجارة النفط والغاز، حتى في ظل الأزمات، ما يعد مكسبا هاما للدول المصدرة للنفط، والغاز المرتبطين بالمشروع مثل، السعودية والإمارات والبحرين ومصر وإسرائيل.

بحسب تصريحات مؤسس تراكنت الإسرائيلية، فإن ما يميز الطريق البري ليس فقط تفادي المخاطر الأمنية المرتبطة بالبحر، بل كونه أسرع بكثير، حيث يستغرق الطريق البحري 14يوما، بينما الطريق البري الجديد، يستغرق 4 أيام فقط.

كما أن الجسر الجديد يستخدم منصة تراكنت الإلكترونية التي تيسر عمليات الشحن، والنقل خلال تطبيق على التلفونات المحمولة. تسهل تراكنت أيضا عملية الشحن عن طريق تبسيط العملية بنقل الحاويات عن طريق شركة شحن واحدة طوال الطريق، بدلا من عدة شاحنات وشركات مختلفة، وتأمل الشركة الإسرائيلية، أن تؤجر الشاحنات خلال رحلة العودة، مما يخفض التكاليف.

بالنسبة لإسرائيل، بجانب الاستفادة الاقتصادية من سريان خطوط الطاقة، والحصول على أرباح من مواني حيفا وأسدود، هناك أيضا مكسب سياسي هام، فلسنوات عديدة رغبت إسرائيل في إنهاء عزلتها عن العالم العربي والإسلامي، والعلاقات المستترة مع الدول العربية، لم تكن كافية لتل أبيب.

إنشاء هذا الطريق بالتعاون مع الدول الخليجية ومصر- بما فيها السعودية التي لم توقع اتفاقا للتطبيع بعد- يمثل انتصارا سياسيا لتل أبيب، حيث أن هذا التعاون يرسل رسائل للعالم تحوي على دلالات، تشير إلى قبول الدول العربية لإسرائيل كشريك اقتصادي، واستراتيجي شرعي.

مصر والجسر.. تنافس أم تكامل

يبقى السؤال، ماذا عن مصر؟ وما دورها ومصالحها من هذا الاتفاق؟ من الواضح أن المسار البري الجديد له بعض المزايا التي تفوق الطريق البحري، فالجسر البري قصير المسافة، وقليل المخاطر مقارنة بالطريق التقليدي المؤدي لقناة السويس، مما يوفر وقت الشحن. فهنا قد يتساءل البعض، لماذا تتعاون القاهرة في ممر ينافس قناة السويس؟ وإجابة هذا السؤال، تكمن في السؤال نفسه.

افتتاح الجسر البديل، أصبح أمرا واقعا، وإقصاء القاهرة من المشروع، لن يعود بالنفع على الاقتصاد المصري، ولهذا انضمام القاهرة للمشروع، يحافظ على تشغيل المواني المصرية، واستمرار دخول العوائد منها، بدلا من عزل مصر بشكل كامل.

كما أنه في ظل ارتفاع المخاطر البحرية، مثلما هو الحال الآن مع هجمات الحوثيين، تختار السفن الابتعاد عن قناة السويس بغض النظر عن التكاليف المضاعفة للطريق الأطول؛ لتفادي الهجمات، لهذا في مثل تلك الأزمات، مصر ستكون متضررة بأية حال، ووجودها على مسار الطريق البري البديل، يضمن بأنها ستحقق بعض الأرباح من الشحن حتى في ظل اشتداد الأزمات.

كما أن الجسر البري لن يشكل تهديدا على قناة السويس- في نهاية المطاف- رغم مزاياه، لأن النقل من خلاله يظل مكلفا، برغم قصر المسافة، فنقل شحنة من الصين لحيفا خلال الطريق الجديد، سيكلف 5800 دولار، إذا جاء من خلال الإمارات أو 4800 دولار من خلال البحرين، وهذه التكلفة المرتفعة، تعود لكثرة مصاريف العبور خلال الدول والمواني المختلفة التي يمر بها الطريق، إضافة الى الوقود، بينما نقل شحنة من شنجهاي لحيفا خلال الطريق البحري الذي يمر من قناة السويس، يكلف بين 1200 و1500 دولار فقط. ولكن بسبب هجمات الحوثيين نقل نفس الشحنة خلال البحر في الوقت الراهن يكلف 7000 دولار، ولكنه ظرف مؤقت.

غموض وسرية

الأنباء التي رشحت خلال الشهور الماضية حول الجسر، أحاطتها هالة من الغموض والسرية، وحتى عندما تم إطلاق الجسر، تم الأمر بشكل سري، وبدون دعاية رغم أهميته.

من أوائل ما نشر حول الجسر، كان تقرير منصة واي نت، الذي كان مصدره وثيقة وزارة الخارجية الإسرائيلية المسربة، ووقتها كان المشروع مجرد خطة ودراسة مبدئية.

أما الإعلان عن إبرام الاتفاقات مع الخليج ومصر والتشغيل التجريبي للطريق، كان مصدره مؤسس الشركة في تصريحات لمنصات إعلاميةإسرائيلية صغيرة.

فعلى سبيل المثال، موقع إسرائيل ناشونال نيوز- الذي أعلن فيه مؤسس الشركة لأول مرة عن إبرام اتفاق مع شركة مصرية- يصنف، بأنه موقع ذي مصداقية متوسطة؛ بسبب استخدامه خطاب يميني متحيز في لغته الصحفية، وسبق ونشر معلومات كاذبة وغير مدققة. ولكن في الآونة الأخيرة، بدأت الأنباء بالظهور حول الجسر في وسائل إعلامية ذات مهنية، وسمعة عالمية جيدة مثل، تصريحات مؤسس تراكنت الأخيرة لتايمز أوف إسرائيل، وقبلها تقرير لصحيفة معاريف.

ليس من الواضح إن كان إفصاح فريدمان للصحافة الإسرائيلية عن إطلاق الجسر هي مبادرة منفردة منه أم لا، ولكن الإعلان عن إطلاق الجسر بالتعاون مع الدول الخليجية، ومصر يعزز صورة إسرائيل، ويساهم في إنهاء عزلتها التاريخية عن دول المنطقة أمام العالم.

على المستوى الرسمي، لم تعلن إسرائيل عن المشروع. وأغلب الدول العربية، لم تعلق باستثناء عمان بشكل مباشر، والسعودية بشكل غير مباشر. خلال ديسمبر الجاري، نفت مصادر رسمية عمانية مرور الطريق بأراضيها ، كما أن وسائل إعلامية تابعة للسعودية، نفت وجود جسر، يربطها بإسرائيل. ولكن تأكيدات وتصريحات مؤسس ترانت؛ بشأن إطلاق الجسر، تنفي نفيهم، وتؤكد أن الجسر البري تم افتتاحه، وتشغيله بشكل تجريبي بالفعل.

على الأرجح، أن الصمت والنفي من جانب الدول المشاركة في المشروع يرجع بشكل أساسي، للأزمة في غزة. فالإعلان عن إطلاق جسر بالتعاون مع إسرائيل، سيثير استياء وغضبا شعبيا كبيرا في المنطقة في ظل تلك الأحداث الجارية في القطاع.

الأرباح تتدفق.. وكذا الدماء

الجسر الرابط بين الإمارات وإسرائيل سيغير خريطة المنطقة، وهذا الطريق يمثل جزءا من سلسلة طرق، ومسارات جديدة ستنتجها اتفاقات إبراهام ستغير وجه المنطقة والتجارة العالمية للأبد، فهناك أيضا نوايا إنشاء سكة حديد تربط إسرائيل بالسعودية.

لا يمكن إنكار، أن الجسر البري سيكون له جوانب إيجابية وفوائد عديدة، تعود بالنفع على المستهلكين والمستثمرين، والدول في المنطقة وفي العالم بأسره، ولكن يظل من المؤسف، أن اهتمام الجميع باستمرار سريان الدماء في خطوط التجارة، يفوق الاهتمام بالحفاظ على استمرار تدفق الدماء داخل عروق أطفال غزة، فبينما تتسارع وتتكاتف الدول والشركات في المنطقة، وحول العالم؛ للتوصل لحلول؛ لاستمرار تدفق أرباحهم، يتجاهلون سيلان دماء أهالي غزة على حطام وأنقاض منازلهم.

لقد كثفت العديد من الدول جهودها؛ للانتهاء من تخطيط وتشييد وتشغيل الجسر بسرعة مثيرة للدهشة، بينما حرب غزة تدخل شهرها الثالث، بلا حل في الأفق لوقف نزيف الدماء وإنهاء الأزمة الإنسانية.