“أنا لا أعتقد أن فلسطين ستتحول إلى دولة يهودية، فالعالم المسيحي والإسلامي، لن يكونا يومًا مستعدين؛ لتسليم الأماكن المقدسة بالنسبة لهم؛ لتكون تحت إشراف اليهود. أنا أعتقد أن الفطنة تقتضي تأسيس الوطن اليهودي في بلاد، لا يثقلها التاريخ، ولكن أعلم أن وجهة نظر عقلانية كهذه، ليس بإمكانها إثارة الحماسة في صفوف الجماهير، ولن تحظى بدعم مالي من الأغنياء. إن تطرف رجالنا الذي لا يستند إلى أي أساس، هو مسئول إلى حدٍ ما عن غياب الثقة التي استيقظت في صفوف العرب. ليس في قلبي أي تعاطف تجاه التمسك الخطأ ببقايا جزءٍ من الحائط- سور البراق- واعتباره أمرًا مقدسًا قوميًا على نحو، يمس بشكل سلبي بمشاعر أبناء المكان. إن الضائقة التي يُعاني منها المستوطنون في فلسطين، لا تُثير في نفسي أي تعاطف. ليس بإمكاني الاستجابة لطلبك، ومن يريد التأثير على الجماهير، يتوجب عليه منحهم أمرًا، ما يحفزهم، وموقفي من الصهيونية، لا يسمح لي بذلك”. هكذا تحدث عالم النفس النمساوي سيجموند شلومو فرويد في رسالة وجهها في إبريل عام 1930، للدكتور حاييم كوفلر، الرئيس المقيم لبعثة صندوق جمع التبرعات؛ لتمويل المشروع الصهيوني في مدينة فيينا، ردًا على طلب من إدارة الصندوق التي قررت حينذاك مخاطبة مشاهير اليهود المؤثرين حول العالم؛ كي يدعموا المشروع.
يروي العلامة المرحوم الدكتور حسن ظاظا في بحثٍ بالغ الأهمية عن تاريخ العبريين، أن فرويد كان يرى، أن النبي موسى كان أميرًا مصريًا، وقد أراد الخروج، بمن آمن به من المصريين وبكل الغرباء والأجانب، والعبيد الذين لا يملكون شيئًا، من أرض مصر إلى أرض فلسطين بهدف؛ أن يقوم بتجنيد جيش، يعود به لفتح مصر ونشر الوحدانية، بعدما انهارت بوفاة الفرعون إخناتون. كان فرويد، يرى أن السبعين رجلًا الوارد ذكرهم في الروايات المقدسة، والذين اختارهم النبي موسى لقيادة الجموع التي نزحت معه من مصر، كانوا أيضًا من أعيان المصريين. كانت رؤية فرويد، في تفسير ظاهرة النبي موسى في ظل غياب أية وثيقة تاريخية مُعاصرة له، أو أي أثرٍ ملموس، مبنية على امتزاج منبَعَيّن من البطولة مُختَلِفَيّن: المنبع المصري الذي يقتضي أن يكون البطل الأسطوري قويًا ربيب قصور، يُجبر اتباعه على احترامه، ويُرهِب أعداءه، والمنبع البدوي الذي يشترط في البطل، أن يكون سليل أسرة متواضعة، نشأ في ظروفٍ عصيبة محفوفةٍ بالأخطار، يرعى الأغنام، وينفرد مُتأمِلًا في الطبيعة. تلك هي حالة النبي موسى كما فهمها فرويد، فقد وُلِد من قوم ضعفاء مُضطَهَدين، لكن تبنته ابنة الفرعون، ثم حَظيَ بتربية ملكية. في بحثه الهام، أبحر بنا المرحوم الدكتور حسن ظاظا، في رحلةٍ عبر التاريخ، ليصل إلى مجموعة من الاستنتاجات كان أهمها ما يلي:
1. أن الشعب الفلسطيني الأصيل الذي نزحت قبائله الأولى من الجزيرة العربية، كان مقيمًا في أرض فلسطين التاريخية قبل أن يعرف العالم شيئًا، عمن عبروا مع النبي موسى، وهو ما يدحض الزعم، بأن الفتح الإسلامي هو الذي أدخل العرب إلى فلسطين. فهذا الفتح لم يُدخِل العرب، ولكنه أدخل الإسلام إلى تلك البلاد. في تأكيد لما استنتجه المرحوم الدكتور حسن ظاظا، فإن الإشارة تجدر إلى ما هو ثابت تاريخيًا، من أن ذلك الفتح كان قد ترتب عليه إنهاء سيطرة الروم “السياسية” على أرض فلسطين، لتبدأ الحروب الصليبية بعد ذلك التاريخ بستة قرون، لم يكن فيها للعبريين أي وجود، أو مشاركة تُذكَر.
2. أن بداية اتصال العبريين بفلسطين لا تعتمد على أية شهادات تاريخية صحيحة، من حفائر أو وثائق أو آثار، وأن كل اعتمادها كان قد بُني على قصص، وأساطير فولكلورية بعضها مُقتَبَسٌ من تراث أمم أخرى، وقد اكتفوا في تبرير اغتصابهم لأرض فلسطين، على ما ورد بالإصحاح 26 من سِفر التثنية الذي جاء به: ” ثُمَّ تُصَرِّحُ، وَتَقُولُ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ: أَرَامِيًّا تَائِهًا كَانَ أَبِي، فَانْحَدَرَ إِلَى مِصْرَ، وَتَغَرَّبَ هُنَاكَ فِي نَفَرٍ قَلِيل، فَصَارَ هُنَاكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَعَظِيمَةً وَكَثِيرَةً، فَأَسَاءَ إِلَيْنَا الْمِصْرِيُّونَ، وَثَقَّلُوا عَلَيْنَا، وَجَعَلُوا عَلَيْنَا عُبُودِيَّةً قَاسِيَةً.، فَلَمَّا صَرَخْنَا إِلَى الرَّبِّ إِلهِ آبَائِنَا، سَمِعَ الرَّبُّ صَوْتَنَا، وَرَأَى مَشَقَّتَنَا وَتَعَبَنَا وَضِيقَنَا. فَأَخْرَجَنَا الرَّبُّ مِنْ مِصْرَ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ رَفِيعَةٍ، وَمَخَاوِفَ عَظِيمَةٍ وَآيَاتٍ وَعَجَائِبَ، وَأَدْخَلَنَا هذَا الْمَكَانَ، وَأَعْطَانَا هذِهِ الأَرْضَ، أَرْضًا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا”. وحتى ما ساقوه؛ لتبرير اغتصابهم لأرض فلسطين، هو في جوهره يُدينهم، إذ يؤكِد أن تلك الأرض لم تُكن لهم قبل النزوح من مصر.
3. أن النبي موسى قد توُفّي، ولم تطأ قدماه، ولا من عَبَر معه، أرض فلسطين قط. الثابت تاريخيًا، أن دخول العبريين لم يتحقق إلا في عهد يوشع خليفة النبي موسى وتلميذه، إذ توقف عند مدينة أريحا، فلم يتسن للعبريين دخول مدينة أورسالِم الكنعانية (القدس بالعربية وأورشاليم بالعبرية)، إلا في عهد داود. يَخلُص المرحوم الدكتور حسن ظاظا، إلى أن الوجود التاريخي- لا الخرافي- للعبريين في أرض فلسطين، لا يتعدى القرن خلال ستة آلاف سنة من الوجود الفلسطيني الأصيل في هذه البلاد. وهذه الفترة القصيرة من عمر الزمن، لم تسمح لهم بإقامة حضارة، تضيف شيئًا إلى التراث الإنساني في جوهره الروحي، أو في وجوده الملموس، فلا آثارا أو عمارة أو نحتًا خَلَفَت، ولا فنونًا أو أدبًا تركت. يهدر هذا الاستنتاج، ما يعتمد عليه الصهاينة من حق عقائدي في أرض فلسطين، فهو يؤكد على أن تلك الأرض كانت مأهولة بقومٍ غيرهم، وأنهم قد تسربوا إليها في عهد خالٍ من النبوة ومن الوحي، فيما شبَهَهُ المرحوم الدكتور حسن ظاظا، بالتسرب الصهيوني الحديث، منذ سنة 1897 عقب المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا، وما لحقه من هجرات، أدت إلى إنشاء الدولة الصهيونية بزعامة حاييم وايزمان في 1948.
لتسويغ جرائمه ضد الإنسانية في غزة، ذهب السفاح نتنياهو موغِلًا في التاريخ إلى الإصحاح 15 من سفر صموئيل الأول، كي يضفي على جرائمه العنصرية مَلمَحًا عقائديًا: “هكَذَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ، مَا عَمِلَ عَمَالِيقُ بِإِسْرَائِيلَ، حِينَ وَقَفَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ. فَالآنَ اذْهَبْ، وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ، وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ، بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا”. لم يُكمل السفاح الحكاية، كما وردت في الكُتب المُقدسة، وهي حكاية، إن تَمَعن فيها؛ لأدرك عِبرة التاريخ اللئيم-على حد وصف هيجل- ولأدرك، وفقًا لمعتقدات شعبه، مصيره المحتوم. فقد قال صموئيل: ما ورد بالإصحاح لشَاول عند تسميته ملكًا، وقد كان شاول حينها يتصف بالشهامة والمرؤة، والشفقة مع أعدائه، إلى أن تملك قبح الاجتراء، وغرور القوة والحسد مِن نفسه، فمارس من العدوان والطغيان والكِبر، ما ذهب بعقله، فمات مُنتحرًا، بأن ألقى بنفسه على سيفه.
للتاريخ كلمة أخرى، لا يدركها السفاح نتنياهو وأمثاله من الغارقين في جنون فوضى الدم، وأوهام الأساطير والخرافة، فالتاريخ عند هيجل، يستخدم هؤلاء السفاحين؛ لتحقيق أهدافه الأرقى عبر صراعاتٍ تخرج بالبشرية من الظلام إلى النور، ومن الاستعباد إلى الحرية والمساواة. للتاريخ اللئيم كلمة أخرى، يكتبها أهل غزة الآن، بالأحمر القاني وبأرواح الأطفال.