لم يحدث في تاريخ مصر، أن وجد الناس كل هذه الأعداد من أجهزة الرادار منتشرة في الشوارع والأحياء، وكثيرا ما وضعت حدا أقصى للسرعة أقل من المتعارف عليه بصورة، أدت لوقوع كثير من الملتزمين في المحظور؛ نتيجة السهو أو عدم التوقع، فيدفعون المخالفات، بعد أن “يلقطهم الرادار”.
لا أحد يعترض على وجود الرادار، إذا كان الهدف هو تحسين حالة المرور، ومواجهة الفوضى والتقليل من عدد الحوادث التي تمثل السرعة الزائدة أحد أسبابها، إلا أن ذلك لا يجب أن يتحول من وسيلة لتنظيم المرور؛ إلى هدف لجمع المال بالاعتماد على طريقة سهلة؛ لتحصيل المخالفات التي يصطادها الرادار.
والواضح أنه في الوقت الذي شهدت فيه مصر تزايدا هائلا في أعداد الرادارات، فأنها عرفت أيضا صورا من الفوضى غير مسبوقة، رغم أنها لم تكن في أي مرحلة من تاريخها المعاصر بلدا منظما، فقد تراجعت أعداد إشارات المرور، وإذا لم يكن هناك شرطي أو كاميرا فنادرا، ما يتم احترامها، كما لا توجد محطات للباصات إلا موقف البداية والنهاية، حتى باتت مصر من البلدان النادرة في الكوكب التي لا توجد فيها محطات محددة لطريق الباصات الداخلية، رغم إنه حتى عقدين من الزمان كانت موجودة.
أما “الميكروباص” فحدث ولا حرج، فلا توجد محطات أصلا، إنما الوقوف والسير فجائي، وحسب مزاج السائق ودون أي قواعد، حتى أصبح “السلوك الميكروباصي” من غشم ومخاطر مميتة، وعشوائية في القيادة واستهانة بأرواح الركاب مهيمنا على الشارع، وهو أمر لم يواجه بأي ردع قانوني حقيقي؛ لأن الرادار لا يرصد هذا النوع من المخالفات، كما أن كثيرا من رجال إنفاذ القانون المنتشرين في الشوارع، يتواطأون مع هؤلاء السائقين، فتحولت الشوارع والميادين إلى مرتع حقيقي لسائقي الميكروباص، دون حسيب أو رقيب.
فوضى الميكروباص تكاثرت؛ لتنجب “التكاتك”، وهي وسيلة مواصلات، يمكن قبولها لو قنن وضعها ورخصتها الحكومة، وهو يمثل فرصة؛ لجلب بعض المال لخزينة الدولة، ولكن المدهش أن الحكومة التي تحركت، وفننت في فرض ضرائب مختلفة الأشكال والأنواع، تركت “التوك توك” بدون ترخيص، رغم إن عددهم اقترب من ٦ ملايين عربة، وصارت مصدرا للفوضى والعشوائية والشجار اليومي، وبالطبع الرادار، لا يرصدها، لأنها غير مرخصة، ولا تسير أصلا بسرعة كبيرة، رغم أنها مصدر حقيقي؛ لنشر الفوضى والعشوائية.
لا أحد يحاسب من يسير عكس الاتجاه، حتى لو هدد أرواح الناس، ولا أحد يهتم بمواجهة مظاهر الفوضى في الشارع، فالأقوى يمكن أن يسحق الأضعف بكل سهولة، كما تفعل سيارة نقل مع دراجة نارية أو سيارة فارهة، يمتلكها أهل الحصانة في مواجهة سيارة صغيرة لمواطن على باب الله.
الرادار لا يهتم بتفاصيل الصورة، ولا يواجه التسيب الحقيقي في نظامنا المروي، إنما هو يحسن “على الوش” جانبا محدودا من معادلة الفوضى المرورية، وهي السرعة، وتركت الجوانب الأخرى على حالها، ولذا لم يشعر الناس بأي تحسن، إنما على العكس زادت مظاهر الفوضى والعشوائية، والبلطجة وغياب القانون في مختلف المدن والشوارع.
والحقيقة ان الفوضى لم تقتصر فقط على المرور إنما امتدت لتشمل جوانب أخرى مثل “فوضي البناء” والمباني المخالفة التي وصلت لبناء أبراج في شوارع لا تحتمل رخصتها أكثر من 4 طوابق.
وحين قررت الدولة مؤخرا؛ مواجهه هذه الفوضى، قامت بهدم بعض البيوت المخالفة أو قبول التصالح بعد دفع غرامات مالية، دون أن يتواكب مع ذلك أي إصلاح لمؤسسات الدولة الشريكة في المخالفات، سواء كانت أجهزة إدارية أو محليات، وبقيت فوضى البناء ومخالفات الأحياء تقريبا على حالها، لأن الحل ظل في دفع الغرامات، وليس تنظيم عملية البناء، تماما مثلما يجري مع رادارات المرور؛ فالهدف هو دفع المخالفات، وليس ضبط قواعد السير.
فوضى المرور والبناء موجودة أيضا في فوضى مواعيد المحلات، فمصر تكاد تكون البلد الوحيدة في العالم التي لا تغلق فيها المتاجر في مواعيد محددة، وكل المحاولات التي تحدثت فيها الحكومة عن ضرورة وجود مواعيد لإغلاقها، كانت مجرد نوايا طيبة أو أحاديث صحفية، لم ترق إلى محاولات جادة للتطبيق في الواقع.
فهل يعقل في بلد، باتت تقطع فيه الكهرباء بشكل يومي، أن نجد متاجر تبيع الملابس والأحذية وورش للصيانة والتصليح، تستمر في العمل إلى الفجر، وتستهلك كهرباء مضاعفة، وتفتح بعد الظهر؟
إن التواطؤ الحكومي مع التسيب، والفوضى المجتمعية ملحوظ، والتشدد والصرامة مع أي مبادرة لنفس المجتمع في المجال السياسي، والنقابي أو الخدمي أيضا ملحوظ في مفارقة صارخة.
قد تكون هناك مجموعة من الأسباب وراء هذا التناقض أهمها، عدم وجود قناعة حكومية كاملة، بأن الخروج من أزماتنا سيكون بدولة قانون عادلة، تطبق قواعدها في كل المجالات السياسية وغير السياسية، أما السبب الثاني، فلكي تواجه الدولة الفوضى المجتمعية والتسيب والاستباحة وغياب المحاسبة، فإن الأمر يتطلب شرعية سياسية راسخة وتنمية، وإنجاز اقتصادي حقيقي وفي حال غياب كثير من هذه الشروط، فإنه يكون هناك، ما يشبه التعمد أو على الأقل عدم الاهتمام بتطبيق القانون، ومواجهة الفوضى المجتمعية، لأنها تمثل نوعا من التنفيس عند الناس، ولا تُغضب من اعتادوا الفوضى والتسيب.
إن محاسبة كل المخالفين الذين اعتادوا، ألا يحاسبوا، سيعني بالقطع غضب بعضهم، كما أن تنظيم الشوارع ومواجهه المخالفين يتطلب قانونا عادلا، يطبق على الجميع، وهو ما سيعني غضب، من تعود على المخالفة من “الحرافيش” أو من أهل الحظوة.
إن الفوضى التي نراها في مختلف مناحي الحياة: المرور، البناء، نظام الشوارع، عمل المتاجر، تزايدت حتى أصبحت نمط حياة يضطر أن يتعايش معه الناس، وهو بلا شك ينهكهم، ويدخلهم في تفاصيل يومية، تجعلهم غير قادرين على العمل الجاد والمبادرة والابتكار، وتستنزف طاقتهم من أجل السير في شارع بلا رصيف وعبور آخر، دون وجود مكان آمن للمشاة، وتفادي تهور سائقي الميكروباص والتوتكتوك والسيارات المحصنة، والعيش في أحياء مليئة بالصخب والضجيج والعشوائية، كل ذلك جعل انتشار الرادار، لم يعن تراجع الفوضى.