لنتفق أولا، على أنه لا يوجد فلسطيني أو عربي أو مسلم، يكره أو يرفض، أن تصبح غزة مثل دبي أو سنغافورة في التقدم والرخاء والحياة بسلام مع جيرانها.
بعد الاتفاق على هذه الحقيقة، دعونا نتساءل، هل كان هذا النموذج متاحا، في أية لحظة أمام سكان غزة وقيادتهم، سواء تمثلت هذه القيادة في السلطة الوطنية الفلسطينية، أو تمثلت في حركة حماس؟!
قد تكون الإجابة الفورية والسطحية، هي أن أغلب الفلسطينيين- بمختلف فصائلهم- لم يكونوا مخلصين قط لهذا البديل السلمي؛ بسبب شعبوية زعمائهم، ومزايداتهم البينية، مما دفع حركة فتح مثلا، إلى تأسيس جناح عسكري جديد، للقيام بعمليات ضد إسرائيل بقيادة مروان البرغوثي، حتى لا تسحب حركة حماس البساط كاملا، من تحت أقدام الحركة ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن السلطة المنبثقة عنها في رام الله، فما بالنا بحركة حماس المنتمية للإسلام السياسي (العنيف!)، هي وشركائها، والتي ترفض هي، وهؤلاء الشركاء الحل السلمي للقضية الفلسطينية على مبدأ حل الدولتين.
لكن هذا الرأي يبدأ الرواية من فصلها الأخير، وذلك اتساقا مع منهج لوم الفلسطينيين، وتحميلهم وحدهم مسئولية، فشل أو تعثر عملية السلام، وهو منهج متفق عليه مبكرا بين إسرائيل والولايات المتحدة، وكان أوضح تطبيق له هو اشتراط إيهود باراك- عندما كان رئيسا لوزراء إسرائيل- مسبقا على الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون، عدم تحميله شخصيا، وعدم تحميل إسرائيل مسئولية فشل مفاوضات قمة كامب ديفيد الثانية مع الزعيم الفلسطيني عرفات، وذلك في حالة فشل تلك القمة، وهو ما فعله الرئيس الأمريكي، واستغله أخطبوط الدعاية الإسرائيلية، لتذهب مع الريح أقوال، وكتابات روبرت مالي، أحد كبار مستشاري كلينتون في تلك القمة، والذي قال، إن شيئا جادا ومكتوبا لم يعرض على عرفات؛ ليرفضه، وأن ما جرى كان أغرب مفاوضات، رآها أو شارك فيها، إذا كان الحديث يدور كله في شكل أسئلة افتراضية من باراك، والوفد الإسرائيلي.
لا يستحسن الاستطراد في سرد وقائع و حيثيات عدم جدية إسرائيل- بكل تياراتها السياسية الرئيسية- في الالتزام بحل الدولتين، ووقف الاستيطان في الأراضي المخصصة للدولة الفلسطينية في ذلك الحل المتفق عليه دوليا للقضية، يستوي في ذلك أحزاب اليمين والوسط واليسار الرئيسية، وليس الجماعات الهامشية من أنصار السلام، واليسار الراديكالي، وما قصة باراك مع عرفات في كامب ديفيد التي ذكرناها توا، إلا أحد الأدلة الدامغة على الإجماع الإسرائيلي الداخلي على رفض حل الدولتين، إذ بينما يرفضه اليمين بشقيه القومي والديني بالقول والفعل، فإن الوسط ويسار الوسط يرفضانه بالفعل من خلال تأييد الاستيطان، ومن خلال تأكيد استمرار السيطرة، والوصاية الأمنية على سكان الضفة وغزة.
في وضع كهذا، كيف كان يمكن أن تتحول غزة إلى نموذج دبي، أو سنغافورة في السلمية والرخاء والتقدم؟!
هناك استقلال وسيادة وأبواب مفتوحة على الجيران، وعلى العالم، وهنا احتلال وقمع وحصار أبدي من كل صوب وحدب.
سيقول هؤلاء، إن انقلاب حركة حماس على السلطة الوطنية هو الذي جلب الحصار، لأنه أخل بالترتيبات الأمنية بين إسرائيل، ومصر والاتحاد الأوروبي والسلطة الفلسطينية؛ لمراقبة المعابر والسواحل بين القطاع، وبين الضفة وإسرائيل، والعالم الخارجي، ولكن هنا أيضا يبدأ القائلون بهذا الاتهام لحماس، الرواية من فصلها الثاني، فقد كان انقلاب حماس استباقا لانقلاب مؤكد على سلطتها في القطاع، يقوده رجل السلطة الوطنية، وقتها محمد دحلان، وذلك بعد تجميد المجلس النيابي الفلسطيني في رام الله، و الذي كانت حماس تتمتع بأغلبية منتخبة ساحقة فيه.
بالطبع لست من المؤيدين أيديولوجيا ولا سياسيا لحركة حماس وشركائها، ولكن أستطيع التمييز بين مبدأ، وحق الشعوب في المقاومة المسلحة، ضد الاحتلال الأجنبي، وبين الأيديولوجيات والبرامج السياسية، فما بالنا إذا كان هذا الاحتلال استيطانيا عنصريا، ورغم هذا فلا أحد يستطيع الجزم، بأن فرص إقناع حماس بحل الدولتين من خلال انضمامها لمنظمة التحرير، كانت قد استُنفدت، خاصة أن اغلب أصدقاء الحركة من الدول العربية والإسلامية- وقتها- كانوا يتحركون في هذا الاتجاه، ولكن دحلان وشركاءه كانوا متعجلين، ليس فقط لإقصاء حماس، ولكن أيضا لإبعاد محمود عباس (أبومازن)، وفريقه بالكامل للحلول محلهم، في صفقة لم تكن إسرائيل بعيدة عنها، بالتعاون مع أطراف اقليمية، بتنا نعرفها الآن جيدا.
ليست هذه كل حيثياتي في الدفاع عن غزة، ضد نموذج سنغافورة ودبي، ليس كراهية في ذلك النموذج، ولكن لاستحالة تكراره في الحالة الفلسطينية عموما، وفي حالة قطاع غزة، خصوصا، لأسباب لا علاقة لها بالفلسطينيين ولا بقياداتهم، وقد أوضحنا بعضها فيما سبق، ونستعرض الآن بقيتها. فهناك جانب دولي وإقليمي بالغ الأهمية في بناء وإدارة، وحماية كل من سنغافورة ودبي، وهو جانب لا ينفصل عن بنية النظام الرأسمالي الدولي، ومدخلاته ومخرجاته السياسية والاقتصادية.
نشأت ظاهرة سنغافورة قبل دبي بحوالي عقد من الزمان، وكانت مقدمة لظاهرة النمور الآسيوية، وذلك في سياق مواجهة المد الشيوعي الصيني، الذي كان يعصف بالإقليم من فيتنام إلي إندونيسيا، وغيرهما من الجبهات الملتهبة في جنوب شرق آسيا، ودون تفاصيل كثيرة فقد نجح النموذج وانتشر، بعد الانسحاب الأمريكي (المهزوم )من فيتنام، وبعد التغيرات الضخمة التي حدثت في الصين بوفاة زعيمها المؤسس ماو تسي تونج، والماوية، وانخراط الصين نفسها بقوة في نموذج النمو الرأسمالي.
وأما دبي فلا يمكن فصل نموذجها عن حرص الغرب الرأسمالي على إيجاد طريقة؛ لملء الفراغ الاستراتيجي في منطقة الخليج،(بعد تصفية الوجود البريطاني شرق السويس في أوائل سبعينيات القرن الماضي)، وذلك في مواجهة قوى إقليمية مُتلمظة، هي تحديدا إيران الشاهانية، أو إيران الإسلامية، والعراق والسعودية وصولا إلى الهند نفسها، وقد كانت استراتيجية ملء الفراغ هذه، تقتضي إيجاد مصالح لأغلب دول العالم في إعمار وتنمية الدول الخليجية، وخلق قنوات للتداول والمضاربة، لإعادة توجيه وتدوير البترودولارات المكدسة.
لا شيء من هذه المدخلات الدولية والإقليمية متوافر في الحالة الفلسطينية، بل إن العكس هو الصحيح، فالقرار الدولي في القضية الفلسطينية، هو في الأيدي الإسرائيلية بنسبة ٩٠%، أما القرار الإقليمي في هذه القضية، فيوشك أيضا أن يسلم لإسرائيل، بكل أسف. ومع ذلك فلن يكف المغالطون عندنا عن الصياح بلوم الفلسطينيين؛ لأنهم لم يصبحوا مثل دبي، وسنغافورة، وهذا فقط لإبراء الذمة حول نظرياتهم القديمة، والتي طبقوها من قبل؛ رفضا وإدانة لحزب الله أمام إسرائيل، وقبلها تأييدا للغزو الأمريكي للعراق ،إلخ.
أخيرا، ألم يكن الأولى بقاء وتطوير نموذج لبنان، لاستنساخ دبي أو سنغافورة في الإقليم، وقد كان مؤهلا لذلك، لولا اندلاع الحرب الأهلية فيه، واستمرار مضاعفاتها حتى اليوم؟ أليس ضياع هذا النموذج اللبناني هو إحدى النتائج المشئومة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟! وفي الوقت نفسه، أليس هذا دليلا على خطأ لوم الفلسطينيين، على أنهم لم يحولوا غزة إلى دبي أخرى، أو سنغافورة ثانية؟!