هي بالطبع ليست أصوات الساسة، ولا نخب الإعلام، ولا ضجيج السوشيال ميديا- رغم أهميته في الكشف عن بعض هذه الأصوات بعد غياب المجال العام الحر…؛ وإنما أقصد أصوات الناس العادية من المصريين- كما تظهرها استطلاعات الرأي العام.
ماذا يقول المصريون إذن؟
- هناك إجماع على اعتبار قضية فلسطين قضية جميع العرب، وليس قضية الفلسطينيين وحدهم.
- حماس ليست إرهابية مثل داعش.
- تفهم كامل لبواعث عملية طوفان الأقصى؛ فهي مقاومة مشروعة، وإن شابتها بعض الأخطاء.
- أغلبية كاسحة تعتقد أن الحكومة الأمريكية غير جادة في العمل على إقامة دولة فلسطينية، في الأراضي المحتلّة منذ عام 1967.
هذه بعض النتائج التي أعلن عنها المؤشر العربي مطلع هذا الشهر (يناير ٢٠٢٤)، وبالمناسبة هي لا تعكس صوت المصريين فقط، بل هي نفس التوجهات في الرأي العام العربي- وإن اختلفت النسب قليلا من بلد لآخر. تظل قضية فلسطين- برغم تصاعد الهويات القطرية- أحد الموضوعات القليلة التي تُظهر وجود رأي عام عربي مشترك بين شعوب المنطقة.
ملاحظة ثانية: استطاع الطوفان أن يبني جسورا أولية، لما جرى من تقطيع لأواصره على مدار العقد الماضي. توافق سنة وشيعة البحرين والعراق على نصرة الفلسطينيين، كما ساندت قطاعات القوميين والإسلاميين على السواء الفلسطينيين في حربهم المشروعة؛ لاسترداد أرضهم وحقوقهم. كثير من النخب العربية لم تعلق في الموقف من إسلامية المقاومة؛ فأشادت بها، ونظرت إلى حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل بعين الرفض الشديد.
ملاحظة أخرى وهي: وجود وحدة في ساحات المعاناة، لا ساحات المقاومة بين ما يعانيه الفلسطينيون، وبين هموم الناس العادية في بلدانهم. تستشعر كثير من شعوب المنطقة مسئولية الحكام الواحدة عن خذلان فلسطين، وعن معاناتهم اليومية وحرمانهم من الحياة الكريمة في أوطانهم، وفقدانهم للحرية.
في عالمنا العربي، تزداد الفجوة بين الحكام وبين شعوبهم؛ إذ يسود اعتقاد باستقلال الأولين بتقرير الأمر، وتدبير الشأن العام بعيدا عن ضغوط الأخيرين. حكامنا أعلم بأمور دنيانا، وأخرانا على السواء. يحاول الحكام وإعلامهم فرض الأجندة التي يجب أن نتناقش فيها، ويصوغون إدراكنا المستقبلي وفقا لما يفرضوه من مواقف، لكن مع تطورات أدوات الاتصال صار “صراخ الجماهير” في وجوههم أمرا ضروريا، وضرورة أخلاقية لإحداث التوازن المطلوب. مثلت استطلاعات الرأي- برغم ما يشوبها من قصور- أحد القنوات المهمة للإنصات للناس العادية، ومنها وفيها يظهر الخلف البين، بين ما يقوله الساسة، وبين ما يريده الناس.
أغلبية كاسحة من المصريين، تشعر بالضغط النفسي، لما يجري في فلسطين (٨٨٪ يشعرون بالضغط إلى درجة كبيرة، ٧٪ إلى درجة متوسطة)، وهكذا يضاف إلى الضغوط الاقتصادية التي يعانيها المصريون؛ عامل جديد، وهي عوامل تتراكم، وتتضافر دون أن تجد قنوات لتصريفها. خلقت الأدوات والمؤسسات السياسية؛ للتعبير عن مصالح الناس، وأيضا لتصريف مواقفهم في قنوات سلمية تدفع البلد قدما.
يتابع ٨٥٪ من المصريين أخبار الحرب يوميا، ويشاهدون الفظائع التي ترتكبها إسرائيل على الهواء مباشرة، وفي الأيام القليلة القادمة، سيشهدون موت الفلسطينيين من المجاعة في غزة- كما تحذر كثير من التقارير الدولية. يستشعر قطاع من المصريين، أن الحرب على غزة ليست في الجوار؛ بل هي في داخل حدودهم؛ لاعتبارات عديدة تاريخيّة وسكانية، ووطنية أيضا. هناك محافظات في الدلتا- وليس في سيناء فقط- تشهد تداخل أسري وعائلي وقبائلي. تشكل الوعي الشعبي المصري، بأن ما يجري في غزة له تأثير مباشر على الأمن القومي المصري؛ فهي أحد بوابات مصر، ولا يتحقق أمننا إلا في جبال طوروس في الشام، وليس على أبواب رفح.
حماس ليست مثل داعش- هكذا يميز المصريون ثلثاهم تقريبا (٦١٪)، يرونها تختلف كليا عن داعش، وحوالي الخمس (١٧٪)، يرونها تختلف عنها بقدر كبير؛ في حين يعتقدون، أن الولايات المتحدة وإسرائيل أهم مصدرين؛ لتهديد أمن المنطقة واستقرارها (٥٢٪ للولايات المتحدة، و٢٦٪ لإسرائيل).، وللمفارقة فإن كلا من إيران وتركيا لا يمثلان إلا نسبة ضئيلة في مصادر تهديد أمن المنطقة، (٦٪ لإيران، و٣٪ لتركيا).
في الموقف من حماس- كما يبرز في استطلاعات رأي آخر- تمييز بين كونها حركة مقاومة، وبين أيدلوجيتها الفكرية، وبين اعتبارها سلطة حكم في غزة. لا يعني تأييد فعلها المقاوم القبول بانتمائها الفكري لحركة الإخوان في المنطقة، ولا يعني أيضا لدى الغزويين الرضا عن أدائهم في حكم غزة. لا نجد هذا التمييز لدى أغلب الحكام العرب الذين يرفضون المقاومة، وإسلامية حماس معا.
تكشف نتائج استطلاع الباروميتر العربي الذي أجري قبل الطوفان، أن سكان غزة ليس لديهم ثقة كبيرة في حكومتهم التي تقودها حماس. وعندما طُلب منهم تحديد مدى الثقة التي لديهم في سلطاتها، قال عدد كبير من المشاركين (44%)، إنهم لا يثقون على الإطلاق؛ وكانت عبارة “ليس هناك الكثير من الثقة” ثاني أكثر الإجابات شيوعًا بنسبة 23%. وأعرب 29% فقط من سكان غزة عن ثقتهم “بقدر كبير” أو “كثير جدًا” في حكومتهم. قال 72%، إن هناك قدرًا كبيرًا (34%) أو متوسطًا (38%) من الفساد في المؤسسات الحكومية التي تقودها حماس، واعتقدت أقلية، أن الحكومة تتخذ خطوات هادفة؛ لمعالجة المشكلة. وقال 24% فقط من المشاركين في الاستطلاع، إنهم سيصوتون لهنية. وحصل البرغوثي على الحصة الأكبر من التأييد بنسبة 32%، وعباس على 12%-هذا قبل الطوفان.
أما بعد أكتوبر والطوفان، فقد اختلفت الاتجاهات، كانت نسبة الرضا-وفق بيانات المركز الفلسطيني للدراسات السياسية والمسحية- عن دور حماس، تصل إلى ثلاثة الأرباع (72%؛ 85% في الضفة الغربية، و52% في قطاع غزة) هي الأعلى يليها الدور الذي لعبه يحيى السنوار (69%؛ 81% في الضفة الغربية). و52% في قطاع غزة)، إسماعيل هنية (51%؛ 57% في الضفة الغربية و43% في قطاع غزة)، فتح (22%؛ 23% في الضفة الغربية و21% في قطاع غزة). السلطة الفلسطينية (14%؛ 10% في الضفة الغربية و21% في قطاع غزة)، محمود عباس (11%؛ 7% في الضفة الغربية و17% في قطاع غزة)، ومحمد أشتية (10%؛ 6). % في الضفة الغربية، و16% في قطاع غزة).
عدم الربط بين حماس، وبين خطاب الإرهاب الذي تصاعد بعد ٢٠١٣ في مصر، يمتد لتقييم الموقف من مشروعية عملية الطوفان ذاتها، بالإضافة إلي البواعث التي تقف خلفها. ٦٪ فقط من المصريين، يرونها عملية غير مشروعة، في حين يرى قرابة الثلث (٣٤٪)، أنها مقاومة مشروعة، أما نصف المصريين تقريبا (٥٤٪)، فيرون فيها عملية مقاومة مشروعة- وإن شابتها بعض الأخطاء.
وحول أهم الاسباب التي دفعت حماس للقيام بالعملية؛ جاء “استمرار الاحتلال الفلسطيني للأراضي الفلسطينية” في المرتبة الأولي بنسبة ٣١٪، يليه الدفاع عن المسجد الأقصى ٢٦٪، وأخيرا وليس آخرا؛ استمرار حصار غزة بنسبة ٦٪. لم يتأثر الرأي العام المصري بالدعايات التي تشكك في أهداف العملية؛ إذ لم ير غير ٢٪ فقط، أن وراءها أجندة خارجية لإيران.
الموقف من الولايات المتحدة وإسرائيل
يحمل الرأي العام المصري الولايات المتحدة المسئولية عن استمرار الحرب، كما يؤكدون على موقفهم الثابت من رفض التطبيع مع إسرائيل. يعارض ٩٨٪ من المصريين الاعتراف بإسرائيل، ويعتقد ٨٤٪ منهم، أن الحكومة الأمريكية غير جادة في العمل على إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلّة، منذ عام 1967 (٧١٪ غير جادة على الإطلاق، ١٢٪ غير جادة إلى حد ما). تقييم المستجيبين لموقف الولايات المتحدة تجاه الحرب على غزة؛ يرى ٨٣٪، أنه سيئ جدا، في حين يرى ١٧٪، أنه سيئ. أما اتّجاهات المستجيبين نحو سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه المنطقة العربية؛ فقد رأى ثلاثة أرباع المصريين، أنها صارت أكثر سلبية (٧٧٪)، في حين أن قرابة الخمس (١٧٪) لم يتغير موقفهم.
يمتد هذه التوجه إلى الاعتقاد بعدم إمكانية إقامة سلام بين الفلسطينيين وبين إسرائيل. ٥٧٪ أصبح متأكدا بعدم إمكانية ذلك، و١١٪ لديه شك كبير، في حين أن ٩٪- حتى قبل الحرب- لم يكن هناك إمكانية لإقامة سلام.
توزعت مقترحات الشعب المصري حول ما الذي يمكن أن تقوم به الحكومات العربية؛ من أجل وقف الحرب على غزة. رأى قرابة النصف تقريبا ضرورة مقاطعة إسرائيل (٣٣٪ إلغاء كل العلاقات، أو عمليات التطبيع مع إسرائيل، ١٠٪ إنشاء تحالف عالمي لمقاطعة إسرائيل)، ورأى ١٣٪ ضرورة إدخال المساعدات، في حين يرى ١١٪ استخدام سلاح النفط، لكن الملفت أن الرأي العام المصري يرى قرابة العشر منه (١١٪) منه، أن على الحكومات العربية تقديم مساعدات عسكرية لغزة.
تمتلئ استطلاعات الرأي- التي أتابعها باستمرار- بالدلالات المهمة لصانع السياسة في المنطقة، والنخب المثقفة فيها. القراءة المتأنية للبيانات التي توفرها، تسمح بصياغة المبادرات المختلفة، كما أن الفروق بين المستطلعين- كما تظهر بين أهل الضفة وغزة- تساعد على بناء تصورات اليوم التالي، بما يضمن توفر حاضنة شعبية كبيرة للمقترحات، وأخيرا فإنها تسمح بتقييم الأهداف السياسية التي يطرحها كل طرف، ومدى واقعيتها، والأهم أنها تحررنا من كثير من أمراض، وعيوب الخطابات السياسية والثقافية من قبيل: شيوع التضخيم الخطابي، وغياب النظرة النقدية، وانتفاء العلاقة بين السبب والنتيجة، وشيوع الافتراضات غير المستندة إلى معطيات واقعية، ومعلومات مدققة.. إلخ-وهو ما يستدعي مقالا مستقلا.