تبنت وثيقة التوجهاتِ الاستراتيجيةِ للاقتصادِ المصري للفترةِ الرئاسيةِ الجديدة (2024-2030)، التي مركز دعم واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، العديد من المستهدفات “الطموحة” للاقتصاد المصري، التي أثارت معها أيضًا تساؤلات حول مدى القدرة على تطبيقها، والآليات اللازمة لذلك في ظل أزمة اقتصادية خانقة حاليًا.
رغم سيطرة الجانب البحثي عليها، فضل مجلس الوزراء منحها لفظ “وثيقة” بدلاً من دراسة، على اعتبار أن التسمية تشير إلى الدراسة المكتوبة، أو المطبوعة أو المرقمنة التي تقدم معلومات، أو أدلة وتتميز بمحتواها أو شكلها أو وظيفتها.
استهدفت الوثيقة، التي يقول للمجلس، إنها اعتمدت على آراء وتوجهات 400 خبير، في 19 مجالا أساسيًا للاقتصاد المصري، تحقيق نمو اقتصادي مستدام، يتراوح ما بين 6% و8% في المتوسط بالأسعار الثابتة بحلول 2030، رغم أن توقعات نمو الاقتصاد العالمي للفترة ذاتها، لا تتجاوز 3.1%.
يشير الناتج المحلي، للقيمة الإجمالية للسلع والخدمات التي يتم إنتاجها في عام، وتوجد له العديد من القياسات أشهرها الناتج المحلي الاسمي “الأسعار الجارية”، وهو الذي يتم تقييمه بأسعار السوق الحالية، ويلعب فيه التضخم دورًا. أما الناتج المحلي الحقيقي “الأسعار الثابتة”، فهو الذي يقيس الكميات الفعلية من السلع والخدمات المنتجة بالأسعار الثابتة لعام محدد، وهو ما تستهدفه الوثيقة.
يقول هاني سري الدين، رئيس معهد الشرق الأوسط للقانون والتنمية، ورئيس هيئة سوق المال المصري الأسبق، إن الوثيقة تتضمن مستهدفات طموحة جدًا، فيما يخص مختلف مجالات الاقتصاد، وتفاؤل حقيقي تجاه المستقبل، غير أن ذلك وحده غير كافٍ، وقد سبق أن طرحت الحكومة تصورات متقدمة للاستثمار، والتصدير ولم تتحقق.
تضع الوثيقة هدفًا عريضًا بتعزيز مكانة الاقتصاد المصري عالميًا؛ ليصنف كأسرع اقتصاديات العالم نموًا، ويحتل مكانة بين أكبر عشرين اقتصاد في العالم بحلول عام 2030، وفقًا لتقديرات الناتج بتعادل القوى الشرائية.
استثمارات ضخمة في القطاعات الأساسية
بحسب الوثيقة، فإن النمو المستهدف يتطلب زيادة نصيب قطاعات الزراعة والصناعة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، (وهي قطاعات كثيفة العمالة) في الناتج المحلي إلى 50% بحلول 2030.
كما تتضمن الوثيقة، من بين 873 توصية داعمة لصنع القرار في الأجلين القصير، والطويل للدفع قدماً بآفاق الاقتصاد المصري، تدشين استراتيجية وطنية للاستثمار؛ لحشد 23 تريليون جنيه، ورفع معدل الاستثمار؛ ليتراوح بين 25 و30% سنويا من الناتج المحلي الاجمالي،
تشمل، أيضًا، تحقيق نمو مطرد لحجم الاستثمارات العامة، بما لا يقل عن 10% سنويًاــ وفق نهج انتقائيــ يركز على رفع مستويات الناتج الممكن الوصول إليه، وضمان كفاءة الإنفاق الرأسمالي خلال الفترة المذكورة، مع زيادة الاستثمارات العامة الخضراء من 50% من جملة الاستثمارات في 2024؛ لتتجاوز 75% عام 2030.
يضيف سري الدين، أن مصر تحتاج استعادة القطاع الخاص للعمل بقوة في مجال الإنتاج والصناعة التصدير، ما يستلزم حوارًا فعالاً وعمليًا بشأن الإجراءات الإصلاحية العاجلة؛ لتحفيز القطاع الخاص للتشغيل، والعمل بقوة بما يكفل تحقيق المرجو من استقرار، وانتعاش وتنمية مستدامة.
وتراهن الوثيقة على القطاع الخاص سواء المحلي أو الأجنبي، عبر رفع نسبة مساهمة الاستثمارات الخاصة لإجمالي الاستثمارات المنفذة لنحو 65%، مع مضاعفة نسبة مساهمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة بجذب 100 مليار دولار خلال الفترة المذكورة.
من المتوقع ـ وفقا للوثيقةـ إنهاء الحكومة من تخارجها من 35 شركة، وأصل مملوكة للدولة، والتي تم البدء في إجراءاتها من الربع الأول لعام 2023، ويُفترض انتهاؤها بنهاية الربع الأول من عام 2024.
كيف يمكن جذب الاستثمار؟
وضعت الوثيقة العديد من الاقتراحات الخاصة بتحقيق مستهدفات الاستثمار، أولها تفعيل الشراكات الاستثمارية الدولية؛ لتأسيس 50 مشروعًا استثماريًا كبيرًا بمصر بقيمة تقديرية تبلغ 29.1 مليار دولار.
وشدد سري الدين على ضرورة تقديم تيسيرات حقيقية وحوافز إيجابية وحلول غير تقليدية لجذب استثمارات واسعة ومتنوعة لمختلف المجالات، بما يوفر فرص العمل الضرورية للمجتمع.
واقترحت الوثيقة أيضًا، مراجعة شاملة لبيئة الأعمال لضمان مناخ تشريعي وتنظيمي، ومؤسسي داعم لدور مصر كمركز إقليمي رائد جاذب للاستثمارات بنهاية عام 2024.
ونادت أيضا بتبسيط بيئة الأعمال، وخفض التكلفة والوقت اللازم؛ لتأسيس المشروعات بالتوسع في منح الرخصة الذهبية، وإنشاء الشركات عبر المنصة الإلكترونية، وحل مشكلات المستثمرين في وقت، لا يتجاوز 5 أيام عمل.
ويؤيد سري الدين، ذلك التوجه، فالقطاع الخاص أفضل مستثمر ومُصنع ومُسوق، كما أن نتائج الأداء، حينما يكون للقطاع الخاص النسبة الأكبر في التشغيل أفضل كثيرًا، من نتائج الأداء التي كانت تغلب على التشغيل فيها المؤسسات الحكومية..
تقترح الوثيقة تأسيس خمس مناطق اقتصادية إقليمية كبرى جاذبة للاستثمارات المالية والأجنبية المباشرة هي: منطقة حرة لتجارة الترانزيت، وأخرى للخدمات البحرية، وثالثة لخدمات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ورابعة لخدمة اللوجستيات، وخامسة للخدمات المالية، خاصة التكنولوجي المالية، ما يعزز دور مصر في سلاسل الإمداد.
من بين الاقتراحات: إطلاق خريطة استثمارية شاملة، تتضمن كافة الفرص الاستثمارية على مستوى الجمهورية، ووكالة قومية للترويج للاستثمار بمصر، والتعاون مع شركات وبنوك الاستثمار الدولية، لجذبها لمصر مقابل عمولة.
تشمل أيضًا: تسريع وتيرة برنامج الطروحات بالاستعانة ببنوك استثمار، وبيوت خبرة دولية، وتأسيس صندوق صانع سوق مال بالبورصة بقيمة، تتراوح بين 20 و30 مليار جنيه، يشارك فيه عدد من المؤسسات العامة مثل: الأوقاف والبريد والتأمينات الاجتماعية، والبنوك، وشركات التأمين الحكومية.
حشد 300 مليار دولار موارد أجنبية
تبنى البرنامج حشدًا للموارد الأجنبية ضخمة؛ لتعزيز صلابة الاقتصاد في مواجهة الأزمات باستهداف 300 مليار دولار، بما يمثل قرابة ثلاثة أضعاف المستويات الحالية.
لتحقيق تلك الأرقام، افُترض زيادة الصادات بنسبة 20% سنويا؛ لتصل إلى 145 مليار دولار، وعائدات السياحة بنسبة 20%؛ لتصل إلى 45 مليارًا، وتحويلات العاملين بالخارج بنسبة 10%؛ لتبلغ 53 مليار ًا مع توفير ملايين فرصة عمل للمصريين بالخارج خلال الفترة المذكورة.
افترضت الوثيقة، أيضًا، زيادة معدل نمو الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ما يتضمن الاستثمار في العقار بنسبة 10% سنويًا؛ لتصل إلى 19 مليار عام 2030، ورفع معدل نمو عائدات قناة السوس متضمنة عائدات تنشيط قطاع الخدمات البحرية؛ ليبلغ 26 مليار دولار، وكذلك رفع معدل نمو صادرات خدمات التعهيد بنسبة 10%؛ لتبلغ 13 مليار دولار.
تسعى الحكومة وفقا للمخطط، للاعتماد على الصناعات الكبيرة، وجذب شركة صناعية واحدة سنويًا من المدرجة في “فورتشن 500 ” بقيمة مليار دولار من خلال التعاقد مع استشاري دولي..
“فورتشن 500” هي قائمة سنوية، تنشر من قبل مجلة فورتشن، وتُعنى بتصنيف أكبر 500 شركة بالولايات المتحدة، من حيث إجمالي الإيرادات، واعتبارًا من عام 2020، تمثل فورتشن 500، ما يقرب من ثلثي الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بإيرادات، تقارب 14.2 تريليون دولار، و1.2 تريليون دولار في الأرباح، و 20.4 تريليون دولار من إجمالي القيمة السوقية.
خفض الدين العام لـ 75%
تستهدف خفض دين أجهزة الموازنة العامة للدولة من 96% عام 2022 /2023 إلى 75% في عام 2029/2030، وخفض عجز الموازنة للناتج المحلي، لما لا يزيد عن 5% خلال الفترة ذاتها كمعيار عالمي لاستقرار الاقتصاد الكلي.
أكد الدكتور زياد بهاء الدين، الخبير الاقتصادي ونائب رئيس الوزراء الأسبق، أن الديون زادت بوتيرة كبيرة، وأثرت على نمو الاقتصاد المستقبلي، وهذا أمر واقع، يجب تقبله، وتخفيضها يحتاج وقت ومجهود، وزيادة الإنتاج والنمو.
وتعتمد الوثيقة على إصدار سندات دين طويلة الأجل، تتراوح بين 20 و30 سنة، وتخصيص عائداتها لسداد مدفوعات خدمة الدين الخارجي للعامين الماليين 2023 /2024، بما يسمح بمبادلة إصدارات الدين قصيرة الأجل بأخرى طويلة.
يقول بهاء الدين، إن سوء الإدارة المحلية بمصر كان العامل الأهم في التأثير على المناخ الاقتصادي، بالإضافة إلى تكبيل الاستثمار، وكلها عوامل أثرت بالسلب على معدلات النمو.
يؤكد وجود حاجة ماسة للتغيير في المسار الاقتصادي، وموائمة تطورات الاقتصاد وفق معطيات العصر الراهن، عبر تعظيم دور الدولة في العديد من المجالات، ولكن بضوابط تحول دون خسارة القطاع الخاص، والمساواة في التعامل بين القطاعين الحكومي والخاص، وثبوت سعر الصرف.
وتسعى الوثيقة إلى زيادة قيمة الإيرادات العامة بنحو 1.3 تريليون جنيه؛ لتصل إلى 10.1 تريليون جنيه، مقابل 8.8 تريليونات جنيه، من خلال توسيع القاعدة الضريبية ورفع كفاءة الإدارة.
وتشمل أيضا تطبيق شمولية الموازنة العامة للدولة، ومواصلة النحو الكامل نحو تبني موازنة البرامج، والأداء لزيادة مستويات الإنفاق الحكومي، وإصلاح الهيئات الاقتصادية لضمان حوكمتها، وتشجيعها على التمويل الذي يستهدف تخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة.
وأوضح بهاء الدين، أن عودة الثقة للقطاع الخاص من خلال حزمة من التسهيلات المختلفة، فالرخص الذهبية، لا تقيم مناخا استثماريا، لأن الأخير يحتاج المنافسة العادلة، علاوة على القوانين الثابتة.
حلم الوصول بالصادرات لـ 145 مليارًا
على مستوى التصدير، تستهدف الوثيقة زيادة معدل نمو قيمة الصادرات، لما لا يقل عن 20% سنويًا؛ ليبلغ 145 مليار دولار عام 2030.
تستهدف التركيز على إقامة 10 مناطق تصديرية متخصصة بعدد من المحافظات المصرية المستهدفة، وتطوير 10 عناقيد صناعية تصديرية، تتسم بقوة الروابط الأمامية والخلفية، واستهداف 10 أسواق تصديرية واعدة؛ لزيادة مستويات نفاذ السلع المصرية.
تشمل تكثيف توجيه المساندة التصديرية للقطاعات ذات الأولوية، وإنشاء أكاديمية وطنية للتدريب التقني وفقا للتخصصات المناطق الاقتصادية المستهدفة، والتدريب الفني، لما لا يقل عن 500 ألف متدرب سنويًا، وتخطيط المجمعات الصناعية التي يتم بناؤها، بما يتماشى مع المزايا لنسبية لكل محافظة، بما يزيد الإنتاج والتصدير.
لكن الدكتور حسن الصادي، أستاذ اقتصاديات التمويل، يقول إنه لا توجد آلية تنفيذ واضحة بوثيقة التوجهات، فهي عبارة عن أمنيات، خاصة في ملف نمو الصادرات 20%، وهو أمر مستحيل مع معدل النمو السكاني، واستيعاب للمهاجرين الذين يبلغ عددهم 9 ملايين.
تتوقع الوثيقة، أن تكون نسبة النمو الاقتصادي ثلاثة أضعاف النمو السكاني المتوقع، مع حصر معدل نمو السكان ما بين 1.7% و2% لضمان تحقيق زيادة مطردة في معدلات نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي، وإحداث تحسين بمستويات معيشة المصريين.
تستهدف أيضًا تحقيق 77 تريليون جنيه خلال ست سنوات، مع رفع مستويات الناتج المحلي من 8.3 تريليونات جنيه في 2022، إلى 11.84 تريليون جنيه خلال العام 2023/2024، مع تركيز أكبر على نوعية النمو الاقتصادي.
تشمل أيضًا، زيادة الأهمية النسبية لمحافظات الصعيد في الناتج المحلي من 13% عام 2020 /2021، إلى 20% عام 2030، وتوفير 7 و8 ملايين فرص عمل خلال ست سنوات، بينها 5 ملايين فرصة عمل في مشروعات البنية الأساسية وقناة السويس.
المكون الأجنبي عبء على الصناعة
يشير الصادي، إلى أن 70% من المنتج المحلي مكون أجنبي، وبالتالي التصدير في هذه الحالة، يتحول إلى عبء، والأفضل البحث عن المكون المحلي، وبناء صناعة على أساسه، على ألا يتجاوز المكون المستورد المعدات والتقنية، ووقف السلع الاستفزازية الموجودة في السوق، والتي تم الاكتفاء زيادة الرسوم عليها فقط .
فيما يتعلق بالاستثمارات، يقول الصادي، إنه يجب “التوقف عن النزف”، فلا بد من الحفاظ على الاستثمارات بالداخل، فالعديد من رجال الأعمال، توجهوا إلى السعودية بينهم شركتين بحوالي مليار دولار؛ بسبب عجزهم عن توفيره احتياجاتهم من المواد الخام، ووجود مجموعة كبيرة من الرسوم والضرائب.
اقترحت الوثيقة تشكيل لجنة عليا؛ لتتفاوض مع عدد من الدول والتحالفات البنكية الدائنة؛ لمبادلة الديون المستحقة لها بحصص ملكية في بعض الشركات المملوكة للدولة بالأسعار العادلة في سياق تنفيذ سياسة الملكية، ما يساهم في تحويل 38% من الديون الخارجية لاستثمارات.
يجمع الخبراء على غياب الآليات الواضحة؛ لتنفيذ الوثيقة وعدم اختيار التوقيت الجيد لها، ففي حين يقول بهاء الدين، إنها غير موفقة سياسيا، لأن توقيت طرحها غير جيد، كان الصادي أكثر وضوحا، حينما قال، إنها تثير تساؤلا حول مصير المجموعة الاقتصادية التي طالبت مؤسسات دولية، وإقليمية ومحلية بتغييرها لعدم الكفاءة.