شهدت مصر في هذا اليوم قبل 13 عاما، أول ثورة شعبية في تاريخها المعاصر تنجح في إسقاط رأس النظام، فتجارب التغيير التي شهدتها البلاد، كانت تتم من أعلى هرم الدولة، مثلما جرى مع تجربة محمد علي أو من قلب مؤسساتها، مثلما جرى مع عبد الناصر والضباط الأحرار في ثورة يوليو، أو ثورة شعبية في مواجهة المحتل، وليس نظام الحكم، وسعت من أجل التحرر، والاستقلال كما جرى مع ثورة 1919.
إن قوة يناير، وأهميتها أنها لأول مرة، منذ تأسيس الدولة الوطنية الحديثة على يد محمد علي (1805)، يتم تغيير رأس السلطة بإرادة الشعب، وليس من أعلى هرم الدولة، فمبارك تنحى عن السلطة بفعل إرادة شعبية دعمها الجيش، وهذا متغير جديد، لم يعتد عليه المصريون، ولم يعرفوه لأكثر من قرنين من الزمان، وهو يمثل طاقة إيجابية، يجب التمسك بها، لأنها هي التي يمكن أن تتغلب على أي تعثرات، أو انتكاسات في مسار يناير أو في رحلة البلاد التاريخية؛ من أجل الحفاظ على الاستقلال الوطني، وبناء دولة القانون.
ورغم أهمية حدث يناير في تاريخ مصر الحديث، إلا أنها لم تنجح في تحقيق أهدافها، لأنها لم تحكم، وربما لم تكن قادرة على الحكم، لأن من اعتبره البعض ميزة في وقتها، بأن يناير ليس لها قيادة، تحول في الواقع العملي إلى عيب، لأنه بدون التوافق على قيادة ومشروع سياسي انتقالي، تصبح أي ثورة أو بالأحرى أي تجربة تغيير في خطر كبير.
والسؤال المطروح، لماذا تعثرت ثورة يناير؟ ولماذا لم تحكم؟ ولماذا لم تحقق أهدافها في “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”؟
يقينا السبب الأول وراء تعثر يناير، يرجع لعدم قدرة نظام مبارك على تقديم بديل إصلاحي من داخله، وعجز الثورة عن تقديم بديل إصلاحي من خارجه، ورواج نظريات خاطئة مثل، أن أعظم شيء في يناير، أنها كانت بلا قيادة، والحقيقة إن ذلك كان من أكبر عيوبها، فقد استمرت في الاحتجاج والرفض، دون أن تمتلك أي قدرة على بناء بديل سياسي، وجرمت بعض تياراتها التفاوض مع النظام القديم، رغم إنه النهاية الطبيعية لحل أي صراع مجتمعي أو دولي.
لقد ترك كثير من قادة يناير أنفسهم أسرى شعارات ونظريات ثورية، استدعوها من متاحف التاريخ عن الثورة الدائمة تارة، أو إعلان الحرب على “الفلول”، بما فيهم نواب الخدمات والقيادات البيروقراطية للدولة، ولم يعملوا على بناء مؤسسات سياسية بديلة تضغط لتأسيس مسار إصلاحي قائم على دولة القانون، بل روج البعض لعكس، ما كان يجب عمله من خيارات إصلاحية للقول، إن تعثر يناير يرجع لكونها، لم تنتقم ثوريا من خصومها السياسيين، أو لم تُقِم محاكم ثورية، وتم استعداء تجارب الثورات الكلاسيكية الكبري مثل، الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية في روسيا والصين، حيث كانت المحاكم الثورية، تقتل الناس وفق معايير سياسية وأيديولوجية، وليست قانونية ورفعت شعارات الشرعية الثورية؛ لتبرير مقصلة الثورة الفرنسية، وإعدامات الثورة البلشفية في روسيا.
مدهش ألا يقر البعض، أن يناير تعثرت، لأنها لم تستفد من طاقة الناس في بناء مسار إصلاحي، وكان يجب أن تقارن نفسها بتجارب التغيير المعاصرة في أمريكا الجنوبية، وآسيا وإفريقيا وغيرها والتي كانت الجمل المفتاح فيها هي، الضغوط الشعبية والعدالة الانتقالية والتفاوض والحلول الوسط، وليس المحاكم الثورية والشرعية الثورية.
يناير تعثرت ثانيا بسبب؛ أجندة الإخوان السرية التي أرادت احتكار السلطة لتنظيمها ومشروعها العقائدي لا حكم الشعب. صحيح أنها وصلت للسلطة بآلية ديمقراطية، ولكن بشروطها كجماعة دينية عقائدية، وليس كحزب سياسي مدني، وهو يعني أن مشروعها في الحكم لن يكون بناء الديمقراطية، وتأسيس دولة قانون، إنما التمكين الأبدي من السلطة.
إن الثورة حدث استثنائي كبير تضطر إليه الشعوب حين تشعر بالقهر والتهميش، وبعدها تصبح مهمتها هي بناء الديمقراطية ودولة القانون، وليس دولة الثورة والقوانين الاستثنائية، وبداية الفيلم من أوله، حيث يلبس الثورة ثوبا دينيا، مثلما عاشت أفغانستان والسودان تجارب فاشلة تحت غطاء الدين، أو البحث عن نظام ثوري، يكرر تجارب فشل أخرى من حيث، بدأ صدام حسين والقذافي وبشار الأسد، وكل التجارب التي حصنت استبدادها تحت مسمى الشرعية الثورية.
من المهم القول، إن تجارب التغيير سواء جرت عبر ثورة أو انتفاضة أو إصلاحات من داخل النظام، تكون فيها قوى التغيير مطالبة أن تحكم، وتدير بلدا، لا فقط أن تحتج أو تتظاهر في الشوارع، وتلك في الحقيقة معضلة الثورة الأهم في تاريخ مصر المعاصر، وهي ثورة يناير، التي أخرجت طاقة إيجابية هائلة من الشعب المصري، دفعته للتظاهر بتحضر ورقي على مدار 18 يوما، أُسقِط بعدها رئيس دولة بقى في السلطة 30 عاما، معلنا انتهاء “المهمة الاحتجاجية”، وكان الناس على استعداد لقبول أي بديل إصلاحي من داخل النظام أو من خارجه، ويحافظوا بعدها على حضورهم الشعبي، وتأثيرهم في المعادلة السياسية؛ لكي يشكلوا عنصر ضغط حقيقي على أي نظام جديد؛ من أجل الدخول في مسار إصلاحي، يؤسس لدولة قانون وتحول ديمقراطي، لا أن يصل البعض بالاحتجاجات لحدودها القصوى، فيحتج على الرئيس السابق والقادم، ويتحول ضغط الناس من أجل الإصلاح ودولة القانون إلي ضغط؛ من أجل تأجيل الاثنين معا، واستدعاء رجل النظام العام؛ لمواجهة الفوضى والاحتجاجات اليومية.
مطلوب التعامل مع الثورة في تاريخ أي مجتمع من المجتمعات، على أنها حدث استثنائي، وهي ليست هدفا ولا غاية، إنما هي وسيلة اضطرارية؛ لتحقيق هدف آخر هو تقدم ونهضة المجتمع، وأن البديل للنظام القديم هو بديل إصلاحي ديمقراطي مدني مؤمن بقيم الثورة ومبادئها، وليس ثوريا يحصن سياساته وتسلطه باسم الثورة، أو يعطي لنفسه حقوقا استثنائية، لأنه “معارض ثوري”.
يناير تعثرت، لأنها لم تعرف بالضبط، أين قوتها وحدود طاقتها، كانت بالأساس في مشروع للإصلاح السياسي التدريجي، وهو تقريبا حال كل الانتفاضات الشعبية الكبرى، والثورات المعاصرة التي شهدها العالم في نهايات القرن الماضي، وغيرت النظم القائمة، وأصلحت مؤسسات الدولة، وفي أحيان كثيرة بتفاهمات داخلية، وضغوط مجتمعية وليس بالضرورة ثورة.