“عامل زي التور في ساقية عشان أعيش”.. بهذه العبارة وصف “ملاك” الموظف بالتأمينات حاله في ظل مستويات الأسعار الحالية بالسوق، وعدم قدرته على تلبية احتياجات أسرته المكونة من خمسة أشخاص اعتمادًا على دخله فقط.
يُفترض أن يبدأ يوم عمل “ملاك” الطبيعي في الثامنة صباحًا، بالتوجه لمقر عمله، لكن الواقع أنه يبدأه في الواحدة صباحًا بالعمل “شيفت” على تاكسي مملوك لأحد جيرانه، حتى الثامنة صباًحا، وبعدها يتوجه لعمله، حتى الثانية ظهرًا؛ ليستريح في منزله، ويعاود الكرة مجددًا، حتى أنه يظل بالأيام، لا يرى كل أفراد أسرته، ولا يشاركهم وجبة واحدة.
يضيف الموظف الخمسيني: “المرتب بعد الزيادة الأخيرة، ما يكفيش.. إيجار الشقة، صاحب البيت رفعه لـ 2000 جنيه، ومعايا 3 بنات، بيدرسوا في سنوات تعليمية مختلفة.. وأقل بيت دلوقتي محتاج مش أقل من 300 جنيه، يعني 9 آلاف جنيه في الشهر”.
اتخذت الحكومة أخيرًا حزمة إجراءات اجتماعية عاجلة، تتضمن رفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 %، ليصل إلى 6 آلاف جنيه شهريًا، وزيادة أجور العاملين بالدولة والهيئات الاقتصادية، بحد أدنى يتراوح بين 1000 و1200 جنيه شهريًا، بحسب الدرجة الوظيفية، ورفع حد الإعفاء الضريبي لجميع العاملين بالدولة بالحكومة والقطاعين العام والخاص بنسبة 33 % من 45 ألف جنيه، إلى 60 ألف جنيه.
رغم الزيادات الكبيرة في الأجور بمصر التي وصلت إلى 6 مرات، خلال العامين الماضيين، إلا أن الشكوى لا تزال قائمة من تراجع مستوى المعيشة؛ بسبب ارتفاع الأسعار الذي أعقب تخفيض سعر صرف الجنيه، أمام الدولار الأمريكي أكثر من مرة، ورفعه معه مستوى التضخم.
التنافر الذي حدث بين زيادات الأجور ومستوى المعيشة، زاد من المطالب بإصدار قانون موحد بإعادة هيكلة أجور كل العاملين في مصر، بحيث تزيد أجورهم زيادات تتناسب، و ارتفاعات الأسعار على الأقل “مستوى التضخم”، ووضع حد أدنى للأجور، يكفي احتياجات العاملين وأسرهم، ومراجعته كل ستة أشهر.
لماذا تحديد الأجر العادل أولوية؟
يطالب باحثون متخصصون بالأجور بوضع آليات ملزمة؛ لتطبيق الحد الأدنى في القطاع الخاص، وإلزام أصحاب العمل غير الملتزمين، كل ما انتقصوه من أجور العمال، وتعويضهم بشكل مناسب عن الضرر؛ جراء تعرضهم وأسرهم للفاقة؛ بسبب حرمانهم جزءاً من أجورهم.
يقول إسلام شعبان، عامل بشركة خاصة للمقاولات، إن أي زيادة حكومية في المرتبات تضر العالمين بالقطاع الخاص الذين لا يحصلون على الزيادة، فلا يوجد إجبار لشركات القطاع الخاص على رفع المرتبات، والتجار في الوقت ذاته يرفعون الأسعار بحجة وجود دخل إضافي للمواطنين.
ورفع المجلس القومي للأجور الحد الأدنى لأجور العاملين بالقطاع الخاص إلى 3500 جنيه، بداية من عام 2024 الحالي مقابل، 3 آلاف جنيه في يوليو 2023، لكن المستشار عبد الحميد بلال، رئيس لجنة الاقتراحات والشكاوى بالمجلس، قال إن المجلس قد ينعقد قريبًا؛ لبحث مصير زيادة الحد الأدنى لأجور العاملين بعد القرارات الحكومية الأخيرة.
لا توجد آليات تمكن موظفي القطاع الخاص من الحصول على أجورهم حال عدم الالتزام بتطبيق قرارات الحد الأدنى للأجر، وقد يتعرض العامل للتضييق، أو القرارات الانتقامية من إداراته حال مطالبتهم بزيادة الرواتب.
الأجور.. ملف حساس
“ملف الأجور” يثير حساسيات كبيرة على المستوى الاقتصادي، في ظل وجود علاقة مباشرة بين الراتب والتضخم، فزيادة الأول يزيد الطلب على السلع؛ فترتفع أسعارها، كما أن زيادة رواتب القطاع الخاص ترفع أعباء تكاليف الإنتاج، ما يدفع أصحاب الأعمال لزيادة أسعارها.
لا توجد قواعد أساسية مباشرة؛ لتحديد الأجور بمصر، وغالبًا ما يخضع للقواعد المنظمة للإنفاق العام ولأوضاع الإيرادات العامة، وحالة الموازنة العامة، من حيث العجز والتوازن،. والقطاع الخاص غالبًا ما يسترشد في تحديد الأجور بالمستويات السائدة لنظائر فئات العمل بالحكومة، وتوفير زيادة محدودة نسبيًا، تقابلها زيادة في ساعات العمل بشكل نسبي.
يقول إسلام شعبان، إن مصاريف طعام أي أسرة حاليا مكونة من 4 أفراد، لا تقل عن 5 آلاف جنيه للطعام فقط، يضيف: “محال الفول بطلت تبيع بـ 5 جنيهات، بقى أقل كيس بـ 10.. وقرص الطعمية الصغير بـ 2 جنيه، والرغيف بجنيه ونصف، يعني الفطار بس عايز 50 جنيها، فول وطعمية وعيش بس، يعني في الشهر 1500 جنيه، على الفطار بس، ولو الغدا والعشا زيهم، يبقى أنت عايز حوالي 5 آلاف جنيه.. فول وطعمية وعيش”.
يضيف إسلام، أنه حال تناول وجبة بسيطة لا تزيد عن مكرونة وبطاطس وبيض، فإن نصف كيلو المكرونة بـ 18 جنيها و4 بيضات بـ 24 حنيها، والبطاطس الكيلو بـ 18 جنيها، والصلصة العبوة بـ 15جنيها، والزيت الزجاجة بـ 90 جنيها، يعني الوجبة ـ لو افترضنا أن كل شخص حصل على بيضة واحدة، تناهز 75 جنيها تعادل 2250 جنيها.
اختلالات كبيرة في ملف الأجور
بحسب عبد الفتاح الجبالي، الخبير الاقتصادي، فإن هناك العديد من الاختلالات بملف الأجور بمصر.. على رأسها أن إجمالي قيمة الأجور المدفوعة في الاقتصاد المصري، تشكّل نحو 30 % من الناتج المحلى الإجمالي، وهو ما يمثّل خللاً هيكليا في التوزيع الأولي للدخل لمصلحة أصحاب الأعمال، ولغير صالح العمال، فهذه النسبة تصل إلى نحو 60 % في البلدان المتقدمة.
يضيف أن القطاع الخاص يستوعب نحو 70 % من العمالة، إلا أن نصيبه من الأجور على المستوى القومي 55 % من الإجمالي، مما يعكس انخفاض متوسط الأجر لديه مقارنة بقطاعات الاقتصاد القومي الأخرى.
قبل الزيادة الأخيرة، تشير بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى أن المتوسط الأسبوعي للأجور النقدية لدى القطاع العام يصل إلى 1479 جنيها، أعلى من مثيله في القطاع الخاص الذي يصل إلى 1019 جنيهًا، وذلك رغم ارتفاع عدد ساعات العمل في الثاني إلى 57 ساعة، مقابل 49 ساعة لدى القطاع العام.
تفاوتات كبيرة للأجور في الوزارة الواحدة
تمثل اختلالات هيكل الأجور أهم العقبات التي تواجه العدالة الاجتماعية فمثلا، نجد تفاوتات في بند الأجور المتغيرة في الوزارة نفسها، فقد يصل الفرق بين متوسط أقل وأعلى أجر شهري لأكثر من ثلاثين ضعفا، وتصل الإضافات على الأجر الأساسي 80 % من إجمالي الراتب الشهري، ومعظمها بنود مكافآت ومزايا نقدية وتأمينية وبدلات ومزايا.
على سبيل المثال ـ يوجد تفاوت كبير ببند الأجور المتغيرة؛ فجملة المكافآت في وزارة المالية، تبلغ نحو 525 % من الأساسي، بينما تصل هذه النسبة إلى 1000 % في قطاع مكتب الوزير ومصلحة الضرائب، والمبيعات وتنخفض إلى 900 % في الجمارك، بينما تنخفض إلى 600 % في سك العملة، و650 % في هيئة الخدمات الحكومية والضرائب العقارية، أما وزارة التجارة الصناعية؛ فتصل فيها التفاوتات إلى 207 %، بينما في هيئة الكفاية الإنتاجية 168 % مقابل، 700 % لقطاع التجارة الخارجية، و600 % لنقطة التجارة، و575 % للتمثيل التجاري.
الحد الأدنى.. حماية مجتمعية
بحسب الأمم المتحدة، فإن الحد الأدنى للأجور يجب أن يكون جزءًا من سياسة الحماية الاجتماعية المتكاملة، ويساهم في التفاوتات الاجتماعية، وإعادة التوزيع بجانب توزيع القيمة المضافة المتحققة في العملية الإنتاجية بين أصحاب العمل والعاملين.
لكل دولة تجربة في تحديد الأجر العادل ففي الولايات المتحدة الحد الأدنى للأجور الفيدرالية عند 7.25 دولارا في الساعة، منذ 2009، لكن قدمت أكثر من 20 ولاية زيادات إضافية عام 2024، وتسير غالبية الولايات نحو الوصول إلى مستوى 15دولارا في الساعة، بينما سيادتل، تخطط لرفعه فوق مستوى 16 دولارًا للموظفين الكبار.
جاءت تلك التحركات، بعدما أكد الكثيرون، أن الحد الأدنى الحالي للأجور لا يكفي؛ لتغطية نفقات المعيشة الأساسية، مثل الإسكان والغذاء والرعاية الصحية. فإن العامل بدوام كامل يكسب الحد الأدنى للأجور الفيدرالية، لن يكسب سوى 15،080 دولاراً في السنة، وهو أقل من خط الفقر لعائلة مكونة من فردين اثنين.
هل التضخم معبر؟
أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تراجع التضخم على أساس سنوي إلى (31.2 %) عن شهر يناير 2024، مقابل (35.2 %) لشهر ديسمبر، ويعزى ذلك لانخفاض أسعار اللحوم والأسماك واللبن والجبن والخضروات والبن والشاي.
ووفقًا للبنك الدولي، فإن خط الفقر الدولي 2.15 دولارين للفرد في اليوم، بما يعادل 64.5 دولارا في الشهر، حوالي 3870 جنيهًا للفرد الواحد.
يقول الدكتور صلاح الدين فهمي، الخبير الاقتصادي، إن مستويات الأسعار بالسوق مرتفعة، حتى في مواقع البيع التي يفترض، أنها تدعم المواطنين كالمنافذ والشوادر.
وفي الفترة الأخيرة، تزايدت المطالبات الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تطالب، بأن يكون الراتب “عيني”، وليس نقدي، حتى طالب البعض، بأن يكون بقطع البانيه، في تعبير عن ارتفاع مستوى أسعاره التي وصلت إلى 250 جنيهًا للكيلو.
وأضاف فهمي، أن الحد الأدنى جيد، لكنه لا يكفي الأسرة في ظل الأوضاع الحالية، ومستوى الأسعار بالسوق، فالمشكلة في ارتفاع نسبة التضخم التي تأكل الزيادات، وهو في النهاية “نواية تسند الزير”، لكن يجب أن يزيد المرتب بنفس نسبة التضخم، بجانب تحقيق العدالة بين الأجور في العاملين بالجهات الواحدة.