عقوبات عدة تقضيها السيدات المحبوسات على ذمة قضايا مختلفة، تتنوع بين سياسية وأخرى جنائية، لكن في النهاية السجن واحد، وله وجه واحد، يبعد السيدة عن أسرتها وخاصة الأطفال، فبعيدًا عن أرقام القضايا والمحاضر والاتهامات، هناك أطفال يدفعون ثمن وجود أمهاتهم وراء القضبان، ما بين ثمن مادي أو معنوي.
مفوضية الأطفال في إنجلترا، تؤكد ضرورة إخبار المدارس والبلديات إذا كان الأب أو الأم في السجن، لأن وصمة العار في ذلك تعني عدم القدرة على الحديث بشأن الأمر لطلب الحصول على مساعدات مثل الصحة النفسية، بحسب “بي بي سي”، لكن على أرض الواقع يصبح الأمر صعبًا، وفقًا لحديث سيدة محمد، البالغة من العمر 48 عامًا، والتي قضت في الحبس 6 أشهر بسبب إيصال أمانة.
وصم الأطفال
تقول “سيدة”، إنها سُجنت بسبب عدم قدرتها على دفع مبلغ مالي استدانته من أحد الأشخاص، ووقعت على إيصال أمانة، ولم تستطع رده، فوضعت في السجن لمدة 6 أشهر، وكان نجلها الأصغر حينها في الصف الخامس الابتدائي.
تقول: “في الزيارات الولد مكانش بيرضى ييجي مع اخواته، وكانوا بيقولوا لي إن زمايله بيعايروه في المدرسة، وطبعا ده كان مأثر عليا جدًا، ومأثر على نفسيتي وحاسة إني ظلمت ابني بس أنا كمان اتظلمت”.
الوصم الذي تتحدث عنه “سيدة”، لم يكن من نصيب نجلها الأصغر فقط، ولكنه امتد أيضًا ليصل لابنتها الكبرى،: “حتى بنتي الكبيرة اللي على وش جواز، مبقاش بييجي لها عرسان، بالرغم إن الحته كلها عارفة إننا عايشين بشرفنا من وقت ما جوزي ما مات، بس كلمة السجن بتخوف أي حد يقرب من البت، وكأنه اتكتب عليها تفضل تدفع التمن باقي العمر”.
ربما يكون الأبناء الأكبر سنًا أكثر وعيًا، ولكن الأطفال يصابون بتغيرات نفسية تصيبهم بسبب بعد الأم عنهم، فوفقًا للعديد من الدراسات، يتعلق الطفل في سنواته الأولى بالأم أكثر من الأب، وغياب الأم يؤدي إلى إصابة الأطفال بأمراض نفسية قد تصبح خطيرة في مرحلة ما على حياتهم، أو أمراض قد يحملونها معهم إلى سن الرشد قد تؤثر على حياتهم بكل مراحلها، منها على سبيل المثال التبول اللا إرادي، أو الانطوائية والانعزالية وعدم الثقة بالمحيطين والخوف الدائم.
ويتسبب ابتعاد الأم عن أطفالها أيضًا في أن يصبحوا أكثر عدوانية، ويصابون بالتأخر الدراسي، وهو ما حدث مع نعمة علي، البالغة من العمر 33 عامًا، والتي قضت عامًأ ونصف في الحبس الاحتياطي في إحدى القضايا السياسية: “دخلت السجن وابني سنة ونصف كان لسة يا دوب مفطوم، ولسة مش بيتكلم طبعًا، وبعدت عنه سنة ونص وطلبت من جوزي واخواتي محدش يجيبه السجن أبدًا، مكنتش عاوزاه يتحط في الموقف ده، ولا يفضل في ذاكرته أبدًا، وطبعًا كان صعب عليا أفضل سنة ونص من غير ما أشوفه كنت بموت، بس قررت أبدي مصلحته عني”.
خرجت “نعمة”، من الحبس لتجد طفلها أتم عامه الثالث، وقضى نصف عمره حينها بدونها: “لاحظت إنه عصبي جدًا، وبيقول لخالته يا ماما باعتبارها هي اللي ربته طول فترة غيابي وقتها حسيت إن الموت أرحم وأهون عليا إزاي ابني مش عارفني، وفضلت معاه بحاول أنه يفتكرني وإنه يرضى يقعد معايا، وكان بيصوت لما أشيله، وكنت كل لحظة بموت أكتر وأنا مش عارفة أعمل أيه”.
مجهود ومحاولات بدأتها الأم، حتى يتذكرها نجلها، أو التعرف عليها من جديد، وبدأت في استشارة طبيب نفسي أكد لها أن ما يمر به الطفل طبيعي بسبب ابتعادها كل هذه المدة عنه، وأخبرها بأن عليها بذل محاولات عدة حتى يثق بها الطفل، ويبدأ التعرف عليها مجددا: “طبعا المجهود فظيع بس بعد سنة من إخلاء سبيلي الولد فعلا عرفني وبقي يقولي يا ماما، ونجحت إني أكسب ثقته من جديد، وبدأت أعلمه علشان يطلع طفل سوي ومحسش إن الحبسة دي أثرت عليه في حاجة”.
حياة جديدة
مؤسسة أطفال السجينات، المعنية بأمور أطفال الأمهات الغارمات، تحاول صنع جسر من التواصل بين هؤلاء الأطفال والمجتمع، كما تعمل الجمعية على تدريب الأمهات الغارمات عقب خروجهن من الحبس، للانخراط والاندماج مجددًا في المجتمع، كما أن المؤسسة تقوم بتنفيذ ورش ودورات تدريبية للسجينات بسجن القناطر، لاستثمار مواهبهن، وبداية حياة جديدة عقب الخروج من السجن.
وتعمل المؤسسة حاليا على مشروع بعنوان “حياة جديدة”، والذي يهدف إلى تحسين الوضع الاقتصادي لـ220 سجينة وأسرهن في سجن القناطر الخيرية، والذي يعد أكبر سجن للنساء في مصر، عن طريق تدريبهن على حرف مختلفة تناسب قدراتهن واستعدادهن ثم تشغيلهن في مصانع أو شركات قطاع خاص أو عمل مشروعات صغيرة مدروسة تضمن لهن حياة كريمة.
كما سيتبنى المشروع رفع قدرات العاملات بسجن القناطر للنساء لتحسين الأحوال النفسية والاجتماعية داخله، كما يهدف المشروع إلى إعادة دمج 80 طفلًا من أبناء السجينات في المجتمع، وتغيير نظرة المجتمع إلى السجينة عن طريق استخدام وسائل إعلامية متعددة أهمها مجلة تحررها السجينات، وموقع إلكتروني يتابع يومياً خطوات المشروع ويرصد خطوات التغيير وقصص هؤلاء النساء وأطفالهن.
المصارحة هي الحل
هند بدوي، أخصائية طب نفس اﻷطفال والمراهقين، والمعالجة المعتمدة باللعب من الجمعية البريطانية للعلاج باللعب، تقول إن غياب الأم أو أحد الوالدين يؤثر تأثيرًا واضحا على نفسية الطفل.
وتشرح “أن غياب الأم في السجن أمر أصعب من الموت أو السفر، لأنه في حالة الموت علينا إخبار الطفل بالأمر بالتدريج بأن الأب أو الأم لن يعودان مجددًا، وفي السفر يمكن التواصل هاتفيًا، أما في حالة السجن فيكون أحد الأبوين موجودًا لكنه غير متاح، وهنا يصبح الأمر مركبًا ومعقدًا، فكيف يمكن إخبار الطفل أن والدته في السجن، وهل يجب إخباره بحقيقة الأمر، أو التحايل بعبارات مثل ماما مسافرة، أو ماما في الشغل”؟.
وتضيف “بدوي”، أن مصارحة الأطفال بالحقيقة، مع اختيار عبارات مبسطة، تناسب سنهم أفضل طريقة للحوار معهم، وأفضل طريقة أيضًا حتى لا يدخلون في مشاكل نفسية أو عضوية، منها الاكتئاب أو التبول اللا إرادي وغيرها من الأعراض، فكما ترى الطبيبة أن الأطفال سيعرفون في المستقبل ما حدث، وهنا لن يفيد إخفاء الأمر عنهم.
عدم اصطحاب الأطفال الأصغر سنًا في الزيارات، أمر تفضله سيدات عدة، بسبب تفاصيل الزيارة المرهقة للطفل، والمراحل التي يتعرض خلالها لرؤية أسوار السجن والسجانين.
وهنا تتفق “بدوي”، مع أن الزيارة مرهقة، لكن عند وجود أطفال لديهم القدرة على التحمل، يصبح التواصل مع الأم ورؤيتها أمرًا هامًا، يؤثر إيجابيًا على نفسيتهم، وعلى نفسية الأم أيضًا.
التعاطف مع الطفل
ويتفق معها خبير العلاقات الزوجية والتواصل الدكتور ماهر العربي، حيث يرى ضرورة التعاطف مع الطفل، حتى لا يؤثر سجن والدته عليه سلبيًا، موضحًا أنه من الضروري خلال السنوات العشر الأولى من عمر الطفل غرس فكرة أننا جميعا بشر فيه، وأن الإنسان قد يتعرض لاستفزاز أو غضب أو ضعف فيخطئ وقد يكون خطأه كبيرًا مثل القتل أو الاعتداء على الغير مثلا، ليحاول الطفل فهم الأمور بشكل مبسط له.
ويشدد على ضرورة زيارة الطفل لوالدته المحبوسة بشكل دوري في سجنها، ليتعاطف معها ويرتبط بها وجدانيًا، وغرس أن سلوك والدته الماضي قد انتهى فعليًا ونحن نهتم بالحاضر حاليا.