بعد نحو ثلاثة أعوام من بدء المحادثات “الاستكشافية” بين مصر وتركيا، والتي مهدت لحدوث اختراق في العلاقات المأزومة بين الطرفين، منذ أحد عشر عاماً، طوت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لمصر، صفحة الخلافات أو بالأحرى، كشفت عن تهدئة، وبحث عن انعطافات سياسية وإقليمية مشتركة. هناك محاور ونطاقات جيواستراتيجية عديدة، تجمع القاهرة وأنقرة، وتشكل نقاط تماس عديدة، وجميعها بالنسبة لمصر امتدادات استراتيجية، ومرتبطة بالمجال الحيوي والاستراتيجي، بداية من سوريا مروراً بليبيا، والغاز في شرق المتوسط، وحتى ملف الإخوان بارتباطاته الإقليمية، كما هو الحال لدى حركة حماس في غزة.
وكان لقاء الرئيسين المصري، والتركي الأول في النصف الثاني من عام 2022. وذلك على هامش افتتاح المونديال بقطر. وبعدها في أيلول/ سبتمبر العام الماضي، بقمة العشرين في العاصمة الهندية نيودلهي. وقد اتفق كل منهما على دعم العلاقات، ورفع مستوى العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء.
تعدد الملفات
زيارة أردوغان للقاهرة، ولقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، كانت متخمة بالملفات، الأمر الذي يؤشر إليه حضور عدد من الوزراء الأتراك، بما يكشف عن طبيعة الزيارة التي يتقاطع فيها الاقتصادي والتجاري بالأمني والإقليمي. فالزيارة بعد سنوات قطيعة ممتدة لأكثر من عقد، وفي ظل السياق الإقليمي والدولي الراهن، تدشن لمسار جديد من التعاون الممكن، وفق ما ذكر السيسي في خطابه، بأن” مصر حاليا الشريك التجاري الأول لتركيا في إفريقيا وتركيا، تعد من أهم مقاصد الصادرات المصرية”.
وقال الرئيس السيسي: “سنسعى معا إلى رفع التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار خلال السنوات القادمة”. وفي ما يخص الملف الفلسطيني والصراع في غزة، كشف عن الاصطفاف بشأن “ضرورة وقف إطلاق النار، وتحقيق التهدئة في الضفة الغربية، حتى يتسنى استئناف عملية السلام في أقرب فرصة؛ وصولا لإعلان دولة فلسطين على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية”.
أما بشأن الملف الليبي، والذي شهد تصعيداً بين القاهرة وأنقرة على خلفية التهديد بهجوم تركي على مدينتي سرت، والجفرة الساحليتين، فتم التوافق على “عقد الانتخابات وتوحيد المؤسسة العسكرية”. وقال الرئيس السيسي: “نقدر أنا نجاحنا في تحقيق الاستقرار في ليبيا، سيكون نموذجا يحتذى به”.
وفي ملف آخر، كان محل خلاف وتنافس شديدين، قال: “يهمنا كذلك الترحيب بالتهدئة الحالية في منطقة شرق المتوسط، ونتطلع للبناء عليها وصولا؛ لتسوية الخلافات القائمة بين دول المنطقة؛ ليتسنى لنا التعاون؛ لتحقيق الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة”.
إلى ذلك، قال الرئيس التركي، إن بلاده تتقاسم تاريخا مشتركا مع مصر، يمتد لنحو ألف عام، مشيراً إلى أن بلاده ترفض الحديث عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، ومشدداً على رفض أي مساع لتهجير سكان غزة من أراضيهم، والتي وصفها “في حكم العدم”، وأن إخلاء القطاع من سكانه “أمر، لا يمكن قبوله على الإطلاق”.
وأردف: “سنواصل التعاون والتضامن مع أشقائنا المصريين؛ لوقف إراقة الدماء في غزة”، مضيفًا أن” أولويتنا هي التوصل إلى وقف إطلاق نار في أقرب وقت، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، دون معوقات”. وأكد على مواصلة “التعاون والتضامن مع الأشقاء المصريين؛ لوقف إراقة الدماء في قطاع غزة”، وقال إنه تم وضع هدف مع السيسي للوصول إلى التبادل التجاري بين البلدين إلى 15 مليار دولار في أقرب وقت، وكذلك زيادة حجم الاستثمارات التركية في مصر. فـ “مصر تقوم باستثمارات مهمة في قطاع الدفاع، وأنا واثق، بأننا سنتعاون معها لتطوير مشاريع مشتركة”.
تندرج زيارة أردوغان إلى القاهرة ضمن جملة من التحولات الحادة التي شهدتها الساحة الشرق أوسطية، حيث ضغطت الأحداث المتصاعدة في قطاع غزة على الفرقاء؛ من أجل حسم ملف التسوية، وهو ما تتضح معه مسارات مرحبة، ما بعد طوفان الأقصى. فتركيا الساعية إلى التخلص من مشكلاتها الاقتصادية الضاغطة، التقت مع مصر أخيرا على نفس الهدف، حيث يبدأ كلا الرئيسين السيسي، وأردوغان دورته الرئاسية الجديدة بتوجهات، ربما تكون مغايرة عن جملة الأولويات التي احتلت مساحة الصراع بين البلدين على مدار عقد كامل.
الحذر مطلوب
غير أن الباحث المصري المختص في فلسفة التاريخ، الدكتور سامح إسماعيل، يقول لـ “مصر 360”: “لا بد ألا يجرفنا التفاؤل؛ بشأن تسوية شاملة في كافة الملفات، لكننا بصدد عملية تبريد لأكبر صراع إقليمي، ربما يكون ملف الإخوان على رأس أولويات المرحلة، فالجماعة فشلت بامتياز في أداء الأدوار الوظيفية التي اعتمدت عليها تركيا فيها، فلا هي نجحت في حلحلة نظام ٣٠ يونيو/ حزيران، في القاهرة، ولا حتى نجحت في توحيد صفوفها من أجل الظهور كمعطى مركزي في معادلة الصراع، وعلى العكس، تحولت الجماعة إلى عبء على أردوغان، بل ومارست أدورا مزعجة في الداخل التركي، وقد أفضى الانقسام الكبير “داخل الإخوان” إلى جبهتين، إلى تأكد أنقرة من عدم جدوى الرهان على جواد هزيل بلا لجام”.
ويعد الملف الليبي، هو أكثر العقبات التي تعترض عملية التسوية الشاملة بين القاهرة وأنقرة، فالوجود العسكري التركي يمثل عامل ضغط على الحدود الغربية لمصر، وفق إسماعيل. كما أن شبكة التعقيدات السياسية والتحالفات المتغيرة في الداخل الليبي، تفرض على أنقرة الدخول في تفاهمات مع القاهرة، للحفاظ على ما حققته من مكتسبات، والأخيرة بدورها تحاول إعادة قراءة الراهن الليبي من جديد، في المتغيرات، لكنها بأي حال لن تقبل بوجود عسكري تركي دائم في ليبيا، ولن تمرر الاتفاقات التي عقدتها حكومة فايز السراج مع تركيا، لكنها ربما تتعاون مع أنقرة في الإسراع بعقد تسوية سياسية، يضطلع بعدها الليبيون بشؤونهم.
وفي شرق المتوسط، يطرح عالم ما بعد “طوفان الأقصى” مقاربات جديدة للعبة في الشرق الأوسط، فالصراع على غاز شرق المتوسط، لم يعد هو “رمانة الميزان”، وإنما تبدو التحالفات السياسية بين الفرقاء في الإقليم ضرورة؛ لكبح جماح الصعود الإسرائيلي المحتمل، والتوسع البحري على حساب لبنان. يقول إسماعيل.
كما أن تركيا الرامية إلى البحث عن دور في ترتيبات، ما بعد الحرب في غزة، لن تستطيع فعل ذلك “بغير تمرير من القاهرة، ما يعنى، أن ثمة إعادة نظر حتمية في ملف ترسيم الحدود البحرية الذي قامت به كل دولة منفردة، والدخول في تسوية باتت ضرورية مع دول الإقليم، بما في ذلك اليونان وقبرص وإيطاليا”.
إذاً، ارتبطت أهمية زيارة الرئيس التركي إلى القاهرة بجملة من الاعتبارات الرئيسية، وعلى رأسها كونها الزيارة الأولى لأردوغان، منذ ١١ عاماً إلى القاهرة، ما جعلها تتويجاً لمسار التقارب بين الجانبين، وهو المسار الذي بدأ، منذ مارس ٢٠٢١، ومايو ٢٠٢١، وهو تاريخ جلسة المباحثات الاستكشافية الأولى بين مصر وتركيا.
اختبار المصالحة
أيضاً فقد ارتبطت أهمية الزيارة باللحظة الإقليمية الراهنة، في خضم ما يشهده الإقليم من حالة، يمكن وصفها، بأنها تشهد “مؤشرات تهدئة” متمثلة في مسار التقارب الذي تبنته العديد من القوى الإقليمية في تفاعلاتها على غرار مصر وتركيا، ومصر وإيران، ودول الخليج وتركيا وإيران، على اختلاف نسب هذا المسار في كل حالة، جنباً إلى جنب مع “مؤشرات الاشتعال” متمثلةً في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والحروب التي تشهدها العديد من دول المنطقة، واستمرار أزمات التدخلات الخارجية في تفاعلات بعض الدول، وغيرها من الأزمات التي عادت إلى نقطة الضوء، وهو السياق الإقليمي الذي أكسب مسار التقارب المصري التركي المزيد من الأهمية، في ضوء انعكاساته وتداعياته المحتملة، ولو نسبياً على بعض هذه الملفات، حسبما يوضح الباحث المصري في قضايا الأمن الإقليمي محمد فوزي.
وفي تقدير فوزي، فإن مسار التقارب المصري التركي في السنوات الثلاثة الأخيرة، كان قد خضع لما يمكن وصفه بـ “اختبار المصالحة”، والمقصود هنا هو استكشاف البلدين في هذه السنوات مدى التفاهمات والمصالح المشتركة التي يمكن البناء عليها وتوظيفها، ومدى الاستجابة الثنائية لهذا المسار، على قاعدة خدمة مصالح الطرفين الاستراتيجية.
وفي إطار “اختبار المصالحة”، يبدو أن الحسابات التركية قد اختلفت، بمعنى أن دوائر صنع القرار التركية قد أدركت، أن العلاقات مع مصر يجب أن تُدار بمنطق الحسابات الاستراتيجية التي تضعها مؤسسات الأمن القومي والسياسة الخارجية، وليس بمنطق الشخصنة أو الاعتبارات الأيديولوجية أو الشعبوية، وقد تم ترجمة هذا التغير في بعض الإجراءات- التي تتفاوت نسبتها من ملف لآخر- سواءً على مستوى ملف التعامل مع تنظيمات الإسلام السياسي، أو على مستوى المقاربة المتبعة في بعض الملفات الإقليمية على غرار الملف الليبي، فوجدنا في الفترات الأخيرة انفتاحاً تركياً ملحوظاً على محور الشرق الليبي. يقول فوزي لـ “مصر 360”.
تقارب وتفاهم
وهذا التقارب بين البلدين، قد يفرز بعض التفاهمات بخصوص بعض الملفات المهمة، سواء في إطار العلاقات الثنائية، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي والعسكري، أو على المستوى الإقليمي، خصوصاً في الملف الفلسطيني، في ظل علاقات الدولتين بأطراف الملف الرئيسية. وفي الملف الليبي، قد يدفع باتجاه تشكيل حكومة ليبية موحدة، وإجراء الانتخابات. أما ملف شرق المتوسط، فسيتم العمل “على قاعدة احترام التوازنات الجيوطاقوية والجيوسياسية الراسخة في السنوات الأخيرة، مع السعي؛ لتهدئة التوترات في هذه المنطقة الحيوية”.