يرجع تاريخ الطائفية السياسية، في لبنان، إلى فترة الإمبراطورية العثمانية، مع إنشاء إمارة جبل لبنان، اللبنة الأولى للبنان الحديث، من خلال ارتباط الجماعتين الرئيستين في جبل لبنان “الدرزية/المسلمة، والمارونية/المسيحية”، بالمواقع السياسية والاقتصادية، قبيل انهيار النظام “المقاطعجي”، والذي كان يعطي الحق في جمع الضرائب لـ”ملتزمين”، مقابل أن يدفعوا للسلطان العثماني مبلغًا من المال مقدمًا.
جذور الطائفية السياسية
عقب الحرب الأهلية اللبنانية عام 1860، بين الدروز والموارنة، اُعتبرت الطوائف الدينية أطرافًا فاعلة في السياسة اللبنانية تحت سلطة “المُتصرف” الوالي العثماني “المسيحي”، وتم إنشاء مجلس إداري يضم الطوائف الدينية الست الأساسية في جبل لبنان.
وفي 1920، أُعلن الانتداب الفرنسي على لبنان، والذي تحول من إمارة الجبل إلى “لبنان الكبير” بحدوده الحالية، واستمر توزيع المجالس التمثيلية بين الطوائف.
الاستقلال واستمرار النظام الطائفي
بعد استقلال لبنان في عام 1943، تم إقرار الميثاق الوطني كأول اتفاق بين اللبنانيين بكافة طوائفهم، ورغم أن الميثاق لم ينص آنذاك على تحديد هوية الرئاسات الثلاث “الجمهورية، الوزراء، البرلمان” إلا أنه تم الاصطلاح على أن يكون: رئيس الجمهورية مسيحي/ماروني، ورئيس الوزراء مسلم/سني، ورئيس البرلمان شيعي، رغم كونه اتفاقًا عرفيًا غير مكتوب، إلا أنه لم يتم خرقه، حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، رغم الحروب الطائفية عام 1956، كما تم تقسيم الوظائف بنسبة 5 للمسلمين مقابل 6 للمسيحيين.
الحرب الأهلية واتفاق الطائف
مثلت الحرب الأهلية عام 1975، والتي ساعد على إشعالها وجود الكتائب الفلسطينية المسلحة في لبنان، تحول هام في المسألة الطائفية، فالقضية الفلسطينية كانت مجرد واجهة للحرب، بينما كان الاشتعال الطائفي جوهرها الأساسي، وبدلًا من تبلور مشروع التغيير الجذري والذي بدأت إرهاصاته قبل سنوات من حرب 1975، قضت الحرب على أي مشروع للتغيير، وانتهت إلى تأبيد السياسة الطائفية.
في عام 1989توصلت الأطراف اللبنانية برعاية دولية بعد عدة جلسات في مدينة “الطائف” بالمملكة العربية السعودية، إلى اتفاق تقاسم طائفي للسلطات في لبنان، “رئيس مسيحي/ماروني، رئيس وزراء مسلم/سني، ورئيس برلمان شيعي”، وهو نفس العرف الذي اتبع منذ ميثاق 1943، ولكن هذه المرة كان اتفاقًا مكتوبًا، أُضيف بعدها للدستور على شكل تعديلات.
التقاسم الطائفي امتد إلى المناصب الهامة فقائد الجيش ماروني، ورئيس الأركان درزي، ووزير الداخلية سني ومدير قوى الأمن الداخلي سني، ومدير المخابرات العسكرية شيعي، إضافة إلى حصص الطوائف والأقليات الأصغر.
ترسيخ الثقافة الطائفية
من خلال تجذير هذا النظام السياسي الطائفي، تحولت لبنان بحسب المفكر والمؤرخ اليساري اللبناني فواز طرابلسي، من مجتمع متعدد الطوائف إلى نظام سياسي طائفي، واستغل الساسة اللبنانيون ورجال السلطة، الواقع الاجتماعي، ليصبح أساس النظام السياسي، فترسّخت الثقافة الطائفية السياسية في الوعي الجمعي وصُبغت بها كامل الحياة في لبنان، فأصبح اللبنانيون يلجئون إلى ممثليهم الطائفيين في أي أزمة وليس إلى القانون اللبناني.
الوجود السوري في لبنان
عزز اتفاق “الطائف” الوجود السوري في لبنان، وزادت الوصاية السورية على الطوائف اللبنانية، من خلال استراتيجيات اتبعها حافظ الأسد، مكنته من السيطرة على لبنان، لكن مع سعي الأسد الأب إلى توريث السلطة لابنه بشار، وتوليته ملف لبنان كتدريب له على الحكم، نشأت خلافات مستترة بين بشار ورفيق الحريري، وفي عام 1998 اُنتخب قائد الجيش، العماد إميل لحود، رئيسًا للبلاد، واستُبعد الحريري من رئاسة الوزراء، وهم الأمرين اللذين رأى محللون أن بشار كان يقف ورائهما، لتصوره أن الحريري، يشكل تحالفات تسعى لإنهاء الوجود السوري في لبنان.
خروج القوات السورية
بعد وفاة حافظ الأسد في عام 2000، وتولي بشار، أصبح الوجود السوري في لبنان مهددًا، وفي عام 2004 أصدر مجلس الأمن قرارًا دعا إلى: “انسحاب القوات السورية من لبنان، واستعادة الحياة السياسية الطبيعية في البلاد، ونزع سلاح حزب الله”، لتخرج القوات السورية بالكامل عام 2005 عقب مظاهرات سادت لبنان، وتزعمها اليمين، فيما عُرف بانتفاضة “الأرز” بعد اتهامات طالت النظام السوري بتورطه في اغتيال رفيق الحريري.
التركيبة الاجتماعية
تغيرت تركيبة الصراع السياسي بعد اتفاق الطائف، واختفى التفوق المسيحي الماروني، ليحل مكانه التنافس بين الطائفتين الإسلاميتين، السنة والشيعة، فمن جهة أدت أعمال المقاومة إلى زيادة نفوذ حزب الله الشيعي، الموالي لسورية، والذي مثل مشروع المقاومة ضد إسرائيل، ومن جهة أخرى أدت عمليات إعادة الإعمار، إلى زيادة سطوة الطائفة السنّية ـ رفيق الحريري وشركائه، والذين تولوا مهمة إعادة البناء الاقتصادي والمالي، لكن الوجود المسيحي ظل حاضرًا وبقوة.
ويرى “طرابلسي” أنَّ: “البنية الطائفية تخترق كل مناحي الحياة المجتمعية وتتدخل في الاقتصاد والاجتماع والثقافة، قدر تدخلها في السياسة، وأن الطوائف لا تَختزل المجال السياسي، فهذا المجال هو أيضًا مجال السلطة الطبقية، فالطوائف والطبقات في المجتمع اللبناني جماعتان تتنازعان على الاستحواذ على الفائض الاجتماعي وتخوضان نزاعاتهما على صعيدي المجتمع والسلطة معًا” أي أن النظام السياسي في لبنان هو نظامًا طائفيًا طبقيًا، وهي ازدواجية تدعم منظومة السيطرة في المجتمع اللبناني.
ومع اعتراف المفكر الاشتراكي، مهدي عامل، بهذه الازدواجية، فقد رفض اعتبار المسألة الطائفية مسألة اقتصادية، وحصرها في الإطار السياسي، مؤكدًا أنه لا أهمية للتركيب الطائفي لأشخاص ينتمون للبرجوازية وآخرون للطبقة العاملة، حتى لو كانوا ينتمون لطائفة واحدة، فالمصالح المتضاربة تجعلهم على عداء، بينما يتوحد مع هؤلاء أو تُلكم، أشخاص من نفس طبقتهم الاجتماعية لا الطائفة.
علمانية لا طائفية
لطالما تفاخر الساسة اللبنانيون بالنظام السياسي الذي يضم كل الطوائف الدينية في البلاد، لكن هذا النظام لم يُنتج سوى مزيد من الفرقة، والفشل الاقتصادي، فمقارنة بدولة مثل الهند فقد استطاعت الأخيرة رغم التعدد الهائل في الديانات، أن تخلق نظامًا مستقرًا، وتقدم اقتصادي هائل، بتأسيسها نظامًا علمانيًا فيدراليًا نص عليه الدستور الهندي، هذا النظام الذي أنهى ميراث الدم الطائفي خلال أحداث راح ضحيتها الملايين ما بين التشريد والقتل، عقب الاستقلال عام 1947، فرغم أن الهندوس يمثلون 80 في المائة من سكانها، كان الرئيس الأسبق عبد الكلام مسلمًا، ورئيس وزرائه مانموهان سينغ من طائفة السيخ، ولعبت زعيمة المعارضة، سونيا غاندي المهاجرة المسيحية الكاثوليكية ذات الأصول الإيطالية، دورًا ملهمًا في الهند.
ورغم الاشتباكات الطائفية التي اندلعت مؤخرًا بين الهندوس والمسلمين والذين يأتون في الترتيب الثاني من حيث السكان، “أكثر من 14%” بسبب قانون الجنسية، فإن الحراك ضد القانون اتخذ شكلًا أشبه بالحركة الوطنية، رغم رفع شعارات دينية، واصطف مع المسلمين الآلاف من معتنقي ديانات أخرى رافضين للقانون.
سلطة الإفقار واندلاع الانتفاضة
عانى الشعب اللبناني لسنوات طويلة، من السياسات الاقتصادية والاجتماعية للطغمة الحاكمة، المسيطرة على الاقتصاد من مصرفيين ومستوردين وعقاريين، واستغلال النفوذ السياسي والتربُّح الشخصي، ما أدى إلى زيادة التضخم، وزيادة الاستيراد بنسبة 10: 1 بالنسبة للتصدير، وارتفاع الدين العام، وسرقة تمويلات مشروعات الإعمار، واحتكار الأسواق، فارتفع عدد العاطلين وانهارت الليرة، وتدنت الدخول، وزادت أسعار المواد الغذائية والدوائية، والمحروقات، وتم خصخصة التعليم الجامعي وتقلصت الخدمات الصحية.
وهي أسباب أدت إلى اندلاع انتفاضة 17 أكتوبر 2019، هذه الانتفاضة التي تخطت ولو مؤقتًا الحدود الطائفية ووحدت الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة، ضد قيادات الطوائف، ورفع المتظاهرون شعار ” كلّن يعني كلّن” كتعبير عن رفضهم للنخب السياسية الحاكمة بكافة أشكالها وطوائفها.
انفجار المرفأ واستمرار الحراك
في الرابع من أغسطس الحالي، وقبل شهرين من مرور عام على انتفاضة 17 أكتوبر، وقع انفجار هائل في مرفأ بيروت، تبعه عدة انفجارات أدت إلى تدمير البنايات القريبة من المرفأ وتسببت في دمار وأضرار في الكثير من أحياء العاصمة مخلفة نحو مائتي قتيل وآلاف الجرحى، كما دمرت الانفجارات منطقة رصيف الميناء.
قالت السلطات اللبنانية إن الحادث وقع نتيجة لانفجار 2750 طنًا من مادة نترات الأمونيوم، خُزنت بطريقة غير آمنة في مستودع داخل الميناء.
وكانت كمية مماثلة من مادة نترات الأمونيوم وصلت على متن سفينة شحن تحمل علم “مولدوفا” رست في مرفأ بيروت عام 2013 بسبب مشكلات تقنية، أثناء رحلتها من جورجيا إلى موزمبيق، وقد فتشت السلطات اللبنانية السفينة وصادرتها.
تعددت السيناريوهات التي طُرحت حول الانفجار، وأشارت أصابع الاتهام إلى جهات في الداخل والخارج، منها إمكانية تورط عناصر داخلية لإجهاض الانتفاضة، ومهما كانت صحة هذه الرواية أو تلك، فإن المؤكد أن الانفجار، وقع في الداخل اللبناني المُلغم بالطائفية منذ سنوات طويلة، وخرجت الجماهير المشتعلة بنار الأسعار والفساد والفقر لتُعبر عن هذا الانفجار، قبل 10 أشهر من انفجار المرفأ.
وأيًا كانت أسباب الانفجار أو أهدافه، إذا كان مدبرًا، فقد استمرت الانتفاضة، فبعد أيام من الانفجار أسقطت المظاهرات حكومة حسان دياب، في مواصلة للنضال ضد الطائفية السياسية/الطبقية، تلك التي أفقرت اللبنانيين، وأحرقت نيرانها حياتهم، والتي كانت أشد فتكًا من نيران “الأمونيوم”.