يوم السبت الماضي، وتحديدا بعد ظهر 2 مارس 2024، قامت مظاهرة حاشدة في منطقة كفر كنا بالجليل السفلي بفلسطين المحتلة. كفر كنا قرية كبيرة غرب طبريا، تقع شمال شرق الناصرة، أي أنها ضمن القرى التي احتلتها إسرائيل بعد نكبة 1948. بعبارة أخرى، تلك القرية ليست ضمن حدود الأمم المتحدة؛ لتأسيس الكيان الصهيوني وفق قرار 181 في 28 نوفمبر 1947. المثير في الأمر، أن المظاهرة نظم ورخص لها من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني؛ لمناصرة أهل غزة، والمطالبة بوقف الحرب البربرية التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، بدعم أمريكي كامل. أي أن سلطات الاحتلال وافقت على تنظيمها، صحيح أن الأمر استغرق عدة أسابيع ومماطلة ورفض، لكن المحتل في النهاية وافق عليها.
هنا وفي إطار المقارنة بين العدو والصديق أو بين العدو والنفس، يصبح السؤال: لماذا لا ترخص عديد السلطات العربية لشعوبها التظاهر نصرة لأهل غزة؟ أليس من الغريب أن تنظم مظاهرات لذات الغرض في عواصم أوروبية والولايات المتحدة وآسيا وكل بقاع العالم، بل وداخل المناطق المحتلة بفلسطين، ولا يرخص للتظاهرة لنفس الغرض في بلدان عربية شتى؟
بالطبع رغم أن السؤال يبدو عاما، ومرتبطا بعديد البلدان العربية مثل، الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وبلدانا عربية أخرى، إلا أن العين تبدو على مصر أكثر من أية دولة أخرى. فمصر هي القلب النابض دوما للأمة العربية، وصاحبة الريادة في كافة المجالات الحيوية والحياتية عربيا، وهي الأكبر في عدد السكان قاطبة، وهي كذلك من خاض حروبا طويلة مع الكيان الصهيوني، وهي الدولة العربية الوحيدة التي لها حدود مع غزة، وفوق كل ذلك، فإن المصريين هم أكثر الشعوب العربية رفضا للتطبيع رغم توقيع عديد الاتفاقات، بل هم الأكثر حنقا وكرها لإسرائيل، حتى عن بعض الفلسطينيين، نظرا لما بدر منهم خلال حروب ومعارك طويلة بينهما، لم يعرفوا خلالها آداب حرب أو حسن معاملة محتل، أو أسير أو جريح، ناهيك عن الإمعان في تدنيس المقدسات ونهب الثروات وطرد أصحاب الأرض، وانتهاك كافة الاتفاقات الدولية على مسمع، بل وبتشجيع من الغرب وهم من يعتبرونهم أذناب لهم في المنطقة… إلخ.
واحد من أهم أسباب رفض السماح بالتظاهر، يرجع إلى غياب منظومة حقوق الإنسان والحريات العامة، فتلك المنظومة يحكمها عديد الحقوق والحريات، ومنها الحق في التظاهر السلمي، فهذا الحق في بلدان عربية كثيرة، هو وفقا للسلطة قرين بالفوضى، ومن ثم فإن السماح به يستحيل تحقيقه، لأنه يتماشى ويتواكب مع عديد القرائن الغائبة والمرتبطة بحق الانتخاب الحر، والتداول السلمي للسلطة، ووجود مؤسسات رقابية وآليات محاسبة، وقيام كيانات غير رسمية قوية بعضها يطمح في الحكم كالأحزاب السياسية، وبعضها يقوم بمهام جماعات المصالح والضغط كمؤسسات المجتمع المدني ذات القدرة على الفعل، كما أن بتلك النظم المتمدينة إعلاما مستقلا غير مرتبط بهياكل السلطة، وقضاء محايد ذو موازنات مستقلة وقادر على مواجهة التعديات على الحقوق والحريات، وبرلمان قوي يضارع السلطتين التنفيذية والقضائية.
بعض البلدان العربية وسعيا لسد ذرائع انتهاك حقوق الإنسان، سنت قوانين للتظاهر، فبدلا من القمع المعلن لها بحجة عدم توافقها مع الشريعة الإسلامية، كما تقول المملكة العربية السعودية، فإن بلدانا عربية أخرى سنت قوانين للتظاهر؛ أملا في الحصول على ملف جيد دوليا في حقوق الإنسان. ملف يمكنها من الحصول على مساعدات ومنح وقروض. هذه الدول قامت، بما هو أكثر وطأة من الدول التي منعت من المنبع، إذ أنها جعلت القانون مجرد شكل أو واجهة، فهو خاوي من أي إمكانية للتنفيذ أو السريان، فالتظاهر لا يكون إلا بتصريح من الجهات الأمنية، وتلك الجهات دوما، توصد الباب أمام منح أي تصريح، فقط ما يمكن أن يحدث، هو أن يدعو قادة تلك الدول شعوبهم للتظاهر لأغراض محددة وضيقة، وإن كان بعضها لا يخلو من جدية وأهمية.
لا شك أن منع التظاهر هو عمل يتصل وفق تبرير السلطة في البلدان التي تحجب المظاهرات، بالخشية المزعومة أو المفتعلة من اختراق الأغيار، فهؤلاء عادة ما يبررون منع التظاهر، بأن هناك طوابير خامسة وسادسة وسابعة أو قوى مندسة، أو أطراف ثالثة، وكل ذلك يجعل هناك ذرائع، تسعى السلطات للترويج لها، لتخويف الناس للنزول للشارع؛ لممارسة حق التظاهر السلمي، حتى أن بعض هؤلاء وربما أغلبهم يروجون للمقولات الرسمية بكون التظاهر قرينا للفوضى، ويقومون بالإبلاغ عن ذويهم، كما كان يحدث بشكل فج في النظم السياسية في الاتحاد السوفيتي وبلدان شرق أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وواقع الأمر أن خشية السلطة من اندساس الأغيار في المظاهرات، هو نوع من الاتهام للشعوب بعدم الوعي والحكمة.
ونظرا لأن للتظاهر أصناف، منه تظاهر لأسباب مطلبية سمتها الشعبوية كمواجهة الغلاء ورفع الأسعار، أو مظاهرات عرقية وثقافية كمظاهرات المضطهدين من الأقليات، إلا أن الأكثر رقيا دوما، هو المظاهرات المطالبة بالسلام ومواجهة الحروب، وهي عادة تتسم بها الدول الأكثر رقيا، وتقوم عادة في الدول الليبرالية ذات الثقافات الديمقراطية المترسخة، ومن ثم تبقى الدول، دون ذلك في حالة حرمان من التظاهر، خشية أن تتحول المظاهرات إلى النوعين الأول والثاني سالفي الذكر. بعبارة أخرى، تخشى الدول التي ترفض أو تمنع التظاهر، من أن تنقلب المظاهرات من التنديد بإسرائيل للتنديد بسياسة الحكام تجاه أوضاع بلادهم الاقتصادية والاجتماعية، وربما السياسية، وهذا الأمر في نظم وشعوب تحترم القانون أمر يستحيل حدوثه، لأن المظاهرات عندما يصرح بها تكون محددة الأهداف، والشعارات وخطوط السير أو التجمع.
إضافة إلى كل ما سبق، فإن التظاهر في بعض البلدان، في مثل الظروف المتصلة بحرب غزة، تمنع لكونها سوف تظهر، أن هناك عجزا للحكام عن مواجهة المواقف الإقليمية والدولية، أو لأنه يخشى حال التصريح بها من بطش الغير الخارجي، أو الخشية من ترك النظام القامع لشعبه حال تظاهره لقوى إقليمية أخرى، تنكل به (إيران مثلا). لقد حول العجز العربي في أحداث غزة عديد الحكام العرب إلى شعوب أو أناس عاديين، يطالبون بوقف الحرب والتنديد والشجب والإدانة، ويمنع عليهم ويقيدهم، ويغل أيديهم عن التصرف، رغم أن بأيديهم الكثير والكثير من الإمكانات. لقد كان بإمكان العديد من القادة العرب، أن يتخذوا من التظاهرات تكئة للتصرف، وحجة لوجود ضغوط عليهم للخروج عن صمتهم، وفعل الكثير، إلا أنهم أثروا قمع خروج الشعوب، وأصبح بعضهم في ذات الخندق مع العدو الصهيوني.
واحد من الأمور التي تأتي لتبرير منع التظاهر لصالح وقف الحرب مصريا، هو الإشارة الدائمة، إلى أن المساعدات تصل إلى الحدود أكثر من أي دولة أخرى، لكن تلك الحجة مردود عليها، في أن تلك المساعدات كان يجب أن تدخل بالفعل عنوة؛ لإنقاذ سكان غزة من الإبادة، حتى ولو بفتح الإنفاق مرة أخرى.
أن أكثر ما يسيء في منع التظاهر في عديد البلدان العربية، هو تركيز الإعلام العربي على نقد الغرب بحجة، أنه قام في وقت ما بمنع التظاهرات هو الآخر، وحجب مقالات في الصحف، وفصل أساتذة جامعات متعاطفين مع الطرف الفلسطيني، ضد البربرية الصهيونية، لكن كل ذلك على تقديره وأهميته، لا يمكن أن يكون حجة لمنع التظاهر نصرة للفلسطينيين، وحتى يرى العالم بأسره أن العرب هم أكثر إقداما من غيرهم، لأنهم هم أصحاب القضية. لكن الحادث هو العكس، بلدانا تجوب شوارعها المظاهرات، وحكاما أجانب غير عرب وغير مسلمين، يقطعون العلاقات مع إسرائيل، ويمنعون التعامل التجاري معها، مقابل حكام عرب خانعين يسبون المقاومة في إعلامهم وبإيعاز منهم، وآخرون على شاكلتهم، يرسلون أرتال الشاحنات من دول الاتفاق الإبراهيمي إلى الكيان الصهيوني، بعد أن أوقف الحوثي سفن التعامل التجاري مع الكيان الصهيوني من المرور في باب المندب… متى يذود الحكام العرب لكرامة شعوبهم، ويمثلونهم حق تمثيل؟