لا أجد معنى ممكنا، أن يعبر عن مدلول الأحكام القضائية أقل من كونها، تعبر عن معنى دولة القانون وقيمتها، ومفهوم تطبيقي لسيادة القانون، بما يعنيه خضوع الجميع لأحكام القانون، الحكام والمحكومين على حد السواء، بخلاف ما يعنيه احترام الأحكام القضائية من احترام للسلطة لقضائية نفسها، لكن أن يأتي قانون مؤداه، جعل تنفيذ الأحكام القضائية في يد السلطة المخاطبة بتنفيذه، إن شاءت نفذت، وإن شاءت امتنعت، على الرغم من كونها، هي الخصم في الدعوى المطالب تنفيذ الحكم الصادر فيها.
هذا فعليا، ما أتى النص عليه في تعديل قانون هيئة الشرطة، بتاريخ الرابع عشر من شهر فبراير الحالي لسنة 2024، نشرت الجريدة الرسمية في عددها رقم 6 مكرر ج القانون رقم 4 لسنة 2024، والصادر بتعديل قانون هيئة الشرطة رقم 109 لسنة 1971، وقد جاء هذا القانون المستحدث، بإضافة مادة جديدة لقانون هيئة الشرطة، تحمل رقم 102 مكررا 3، والتي تنص على، أن يسقط الحق في المطالبة بتنفيذ الأحكام الصادرة بإلغاء قرارات إنهاء الخدمة بمضي سنة من تاريخ صدور الحكم واجب النفاذ لصالح المدعي، ويجب عند التنفيذ استمرار توافر الشروط اللازمة لشغل الوظيفة، ولا تسري أحكام المواد (382 /1، 384 /1) من القانون المدني على الحالات المنصوص عليها في هذه المادة”.
وقد جاء في تبرير أحكام القانون، حسب ما ورد في المذكرة المقدمة من الحكومة، بما تعنيه، أنه فلسفة القانون، أنه يستهدف تحقيق التوازن بين حجية الأحكام القضائية، وموجبات العمل الأمني وشغل الوظائف القيادية والإشرافية، والذي يعتمد على العديد من العناصر، أهمها تراكم الخبرات الأمنية والتدرج الوظيفي وترسيخ قيم الانضباط.
وإن كنت لا أرى أية علاقة ما بين ما أوردته المذكرة التحضيرية لهذا القانون، وبين ما جاء في أحكامه، والتي تمثل عدواناً على السلطة القضائية بخلاف إهدار سيادة القانون، وعلى افتراض، أن ذلك يمثل علاقة ما بهذا القانون، لكنه في أفضل حالاته لا يمكن أن يكون ذات محل في تبرير العصف بالسلطة القضائية، والافتئات على أحكامها، وهو يشكل أكبر قيمة يمثل إهداراً أكبر لقيمة القانون، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، بخلاف عدوانه على ما أبرمته الدولة من اتفاقيات حقوقية ذات صلة بهذا الموضوع.
فكيف بنا، أن نقبل على قيمنا القانونية والاجتماعية والسياسية، أن يأتي هذا التشريع المستحدث حائلاً بين الأحكام القضائية، وبين تنفيذها، وذلك بحسب ما أورده القانون، فيما يصدر من أحكام متعلقة بقرارات إنهاء الخدمة، أو الفصل من الوظيفة، وبشكل أكثر تعسفاً، فقد كان من الأفضل أن تقوم الدولة بإلغاء الطعن على مثل هذه القرارات من الأصل، وتعتبرها قرارات نهائية غير خاضعة لرقابة القضاء، أفضل من أن تستهين بالأحكام القضائية إلى الدرجة التي تجعل أمر تنفيذ ما يصدر من أحكام معلقاً بمشيئة السلطة التنفيذية، والتي من المفترض أن تكون هي السلطة الحامية، والحارسة لتنفيذ الأحكام القضائية بشكل إجمالي، ومن زاوية هذا القانون، فإنها الجهة المختصمة في الدعوى محل الحكم ابتداء.
وإذ أن استقلال القضاء واحترام أحكامه وتنفيذها قد بات ركناً جوهرياً في أي نظام ديمقراطي، وبصورة مخالفة، فإن عدم تنفيذ الأحكام القضائية يطبع على النظام السياسي الطابع الاستبدادي، وهذا ما يوجب على أي نظام سياسي احترام الأحكام القضائية، وهو ما يمثل احتراماً للسلطة القضائية، إذ أن أي تنظيم لسلطة قضائية يفقد فاعليته، وقدرته حال عدم تنفيذ أحكامه، إذ أن القضاء يضع حداً لأي منازعة معروضة عليه بإصدار الحكم فيها، وعدا ما حاز ذلك الحكم قوة الشيء المقضي به، فإنه يتعين تنفيذه، وإلا فما كان هناك حاجة لوجود القضاء ذاته.
وليس هناك خطر أشد على البلاد من إهدار الأحكام القضائية أو الامتناع عن تنفيذ أحكامها، أو جعل أمر التنفيذ حسب الهوى أو رغبة السلطة، عدا أن ذلك يشكل امتهاناً وانتقاصاً من قيمة السلطة القضائية وفاعلية أحكامها، كما أنه يعصف بقيمة المبدأ الدستوري الذي أرسته المادة 74 من الدستور المصري من قولها، إن سيادة القانون أساس الحكم في الدولة، وأن استقلال القضاء وحصانة القضاة ضمانتان أساسيتان لحماية الحقوق والحريات.
وهذا هو الأصل العام في أمر تنفيذ الأحكام القضائية، ويبدو أن هيئة الشرطة بحسبها إحدى أذرع السلطة التنفيذية الأساسية، قد استعانت بالأغلبية البرلمانية التي تسيطر عليها الدولة من خلال حزبها في مجلس النواب، في تمرير قانون، يمثل خطورة، ليست بالقليلة على شأن سيادة القانون وضمانة استقلال القضاء، فكيف تضع قيدا زمنيا متمثلا في مدة عام، لا يحق لمن مر أكثر منه، أن يقوم بتنفيذ، ما تحصل عليه من حكم قضائي بإلغاء قرار إنهاء خدمته، وقد تستطيع الجهة المنفذ ضدها (جهاز الشرطة)، بما لها من قوة ونفاذ مجتمعي، أن تؤجل تنفيذ الحكم بطريقة أو بأخرى، أو تماطل في تنفيذه، حتى مرور مدة العام، وبالتالي يضيع معها حق صاحب الحكم، بل بالأحرى يضيع معها قيمة الحكم القضائي.
كما وأن الامتناع عن تنفيذ الأحكام القضائية يشكل إحدى جرائم الامتناع، والاعتداء على سيادة القانون وسير العدالة، كما أنها تعد سلبا لحقوق المحكوم له، والإضرار به، فلا يتصور وجود سيادة للقانون وتحقيق للعدالة، بدون تنفيذ الأحكام القضائية التي تصدرها المحاكم طبقاً لأحكام القانون. وما القيمة المفترضة للدستور، وبشكل أخص ما جاء في المادة رقم 100، منه على أن تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب، وتكفل الدولة وسائل تنفيذها على النحو الذي ينظمه القانون. ويكون الامتناع عن تنفيذها، أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين جريمة، يعاقب عليها القانون، وللمحكوم له في هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة. وعلى النيابة العامة بناءً على طلب المحكوم له، تحريك الدعوى الجنائية، ضد الموظف الممتنع عن تنفيذ الحكم أو المتسبب في تعطيله.
هذا بخلاف ما يهدره القانون المستحدث من قيمة للحق في العمل، وهي القيمة التي أقرها الدستور المصري، وسبقها لذلك الاتفاقيات الحقوقية المعنية بالحق في العمل، وحق تقلد الوظائف العمومية، دونما تمييز وعلى قدم المساواة.
لكن يبدو أن للأمر دلالات أخرى تبعد عن كافة القيم الحقوقية أو الدستورية، وتفوق ما لقيمة سيادة القانون، وخضوع الدولة للقانون، ويبدو أن كافة السلطات باتت تذوب في فقاعة السلطة التنفيذية، وبدأت هي من زاويا متعددة، تسيطر على كافة أركان الدولة ومفاصلها، ما يدخل في اختصاصها، وما يدخل ضمن صلاحيات سلطة مغايرة، سواء كانت تشريعية أو قضائية، وهو الأمر الذي يهدد أركان الدولة ونسقها العام وبنيانها القانوني.
لكن ما يزيد حيرتي ودهشتي هو تلك التبعية الرهيبة من السلطة التشريعية، لما تمليه السلطة التنفيذية في كل ما تمليه من قوانين، وليس هناك في مجلس النواب من مفر في تمرير هذه القوانين بشكل بسيط، وكأن شيئا لم يكن، حتى بات الملاحظ أن ما يفوق على نسبة تسعين في المائة من القوانين، تأتي من خلال السلطة التنفيذية.