تأسست الدولة الحديثة، وعاشت من مطلع القرن التاسع عشر، حتى يومنا هذا على أكذوبتين كبيرتين كل منهما أكبر من أختها . الأكذوبة الأولى: أن الحاكم هو وليُ النِعم، بمعنى أنه فوق الشعب، فعلى الشعب أن يقدر ذلك ويحمد له ذلك.
الأكذوبة الثانية: أن مصر قبله لم تكن شيئاً، بمعنى أنه أفضل من كل من سبقوه من الحكام، ومن ثم فهو فوق مصر ذاتها، وصاحب يد عليا عليها، فلولاه لم تكن، فهو القيمة المضافة العليا التي أحيت مصر من العدم، وأضفت على وجودها معنى. الأكذوبتان هما مصدر عدة شرور في وقت واحد، فهما تبرير لشرعية الحاكم بغض النظر عن مشروعية الوسائل التي وصل بها إلى السلطة، ثم هما تبرير للحكم الفردي المطلق، وما ينزله بالشعب من عسف وخسف ومن قهر وفقر، ثم هما تبريرا لأخطاء وخطايا الحاكم، وتسويغها وتحويلها في نظر الناس إلى حسنات، ثم هما تأسيس لفكرة تقديس الحاكم، ورفعه فوق مستوى البشر وفوق مستوى الخطأ ، وفي نهاية المطاف هما تأسيس لتنزيه الحاكم عن النقد أو المساءلة أو المحاسبة ، والعكس صحيح، فهو له الحق في أن يحاسب الشعب ويعاقب الشعب، وليس للشعب الحق في مساءلته أو محاسبته أو مراجعته. كل حاكم، من الباشا، حتى يومنا هذا، هو مؤسس الدولة الحديثة، تأسيس الدولة الحديثة رواية مفتوحة، وفيلم سينمائي بلا نهاية، الكل يعتبر نفسه مؤسساً لها أو لشيء أساسي فيها، أو أنه أعاد تأسيسها من جديد، والمطلوب من الشعب هو تصديق هذه الأكذوبة التي هي من وجهة نظر الحكام حجر الأساس، وركن الزاوية في بناء الوطن وإعلاء قيم الوطنية الحديثة. تاريخ المظالم موصول ومستمر قبل الدولة الحديثة، وبعدها وقبل الجمهورية وبعدها، الفارق بين المظالم القديمة والمظالم الحديثة، هو أن المظالم الحديثة تبرر نفسها، عبر ما تمتلكه الدولة الحديثة من منظومات التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية، بحيث صار تقبل الظلم والتسليم به والاستسلام له نوعاً من التربية الوطنية.
لتدرك الفوارق بين الظلم القديم الذي هو ظلم، والظلم الحديث الذي هو تربية وطنية، يكفي أن تقف على نتاج مثقفين عظيمين، عبد الرحمن الجبرتي 1753- 1825م، ثم رفاعة الطهطاوي 1801- 1873م، الأول هو ابن القرن الثامن عشر، أي تكوينه الفكري والروحي والعلمي والوطني سابق على ظهور محمد علي باشا، ومن ثم فهو سابق على تأسيس، ما يسمى الدولة الحديثة، أما الثاني فهو ابن القرن التاسع عشر، ابن مشروع الدولة الحديثة، ومشروع الدولة الحديثة، كان وما يزال مزاوجة، وتبادل منافع بين الاستبداد المحلي والاستعمار الأوروبي.
1 – الجبرتي كان متحرراً من التبعية للحاكم، كذلك كان متحرراً من الانبهار بالأجنبي، لم يكن مديناً للحاكم بإرساله إلى أوروبا، ولم يكن مديناً لأوروبا بتلقي العلم في معاهد باريس. هذا التحرر جعل منه أول مثقف حديث بالفعل، حديث بمعنى الاستقلال العقلي و الروحي والذهني والضميري، عن أن تكون مهنة الكتابة لديه تبريراً للسلطة وتحويراً للواقع و ممالأة للحكام، أرخ الجبرتي- حتى مات- للنصف الأول من حكم الباشا، كان الجبرتي أول صوت مصري مثقف واع ناقد لمشروع الباشا ودولته، وقد علم الباشا بما يكتبه الجبرتي، فلم يجرؤ على المساس به لعلو مكانته الفكرية والاجتماعية، التي كانت تفوق مكانة الباشا نفسه، وكل ما فعله الباشا، هو أن طلب من بعض علماء الأزهر، أن يكتبوا له تاريخاً يرد على الجبرتي، وبالفعل كتبوا مدائح سقيمة، ماتت في مهدها وبقي ما كتبه الجبرتي. يكتب الجبرتي بقلم عزيز شريف، ورأسه مرفوعة معزز مكرمة في استقلال كامل عن كل سلطة أو إغراء أو منفعة، يقول في تقديم تاريخه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”: “ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير، أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولةً بنفاق، أو مدح، أو ذم مباين للأخلاق، لميل نفساني أو غرض جسماني، وأنا أستغفر الله من وصفي طريقاً، لم أسلكه وتجارتي برأس مال لم أملكه”.
ثم في مطلع المجلد الرابع الذي خصصه للحديث عن حكم محمد علي باشا، لم يتردد الجبرتي أن يقول- في صراحة وشجاعة وأمانة- أن حكم الباشا لمصر سوف يطول، ولن يكون عاماً أو عامين مثل عدة حكام سبقوه على الكرسي الصعب، فاجأ الجبرتي المصريين بأنه- على عكس ما يتوقعون- فإن حكم الوالي الجديد سوف يطول، ثم حكمه سوف يكون فترة إرهاق واستنزاف للشعب، يقول: “ثبات دولة القائم، وتعب الرعية، والحكم لله العلي الكبير”. الجبرتي مثقف غير مدين في تكوينه الفكري، ولا في مصادر رزقه ولا في مكانته الاجتماعية للحاكم، هو ابن مجتمع القرن الثامن عشر، حيث لم تكن سطوة الدولة فد ظهرت، ولا سطوة أوروبا قد تجلت. ولم يكن الجبرتي- وحده- كذلك، بل كانت القاهرة تزدهر بنخب ثقافية وفكرية وتجارية، واجتماعية صاعدة. وثمة جدل غير محسوم في التاريخ، حول أن الباشا له يد في اغتيال نجل الجبرتي انتقاماً منه وعقاباً له، وعقب هذا الاغتيال، ساءت نفسية الجبرتي، وتوقف عن الكتابة عدة سنوات حتى مات.
2 – الطهطاوي أول مثقف نموذجي، يمثل سيطرة الدولة الحديثة وسطوتها على الثقافة والمثقفين، أول نموذج لنجاح السلطة في التأميم الناعم للثقافة والمثقفين، هو باكورة إدماج المثقف الحديث في دولاب الدولة، وربط دولاب الدولة بحاكم فرد مركزي مطلق مسيطر مهيمن على السياسة، والدين والفكر والقضاء والعسكرية والاقتصاد إلى آخره.
الطهطاوي هو الوجه الآخر المتمم والمكمل للباشا، الباشا كمشروع سياسي، والطهطاوي كمشروع فكري، الباشا وسيط بين الشعب وأوروبا بالقدر الذي يفتح أبواب مصر للمصالح الأوروبية، كما يستفيد من أوروبا في إعادة بناء المؤسسات في مصر، والطهطاوي وسيط بين الثقافتين المصرية والأوروبية بالقدر الذي يزود الثقافة المصرية بعناصر تلقيح، وتخصيب مستجدة كما- في الوقت ذاته- يسمح للثقافة الأوروبية ومؤثراتها بغزو الثقافة المصرية، وإزاحتها عن بعض مراكزها الهامة والإحلال التدريجي مكانها. الباشا والطهطاوي، الحاكم والمثقف، كان هذا وذاك باكورة النخب المصرية الحديثة، وهي نخب وسيطة بين الداخل والخارج، بين مصر وأوروبا، تبيع الداخل للخارج وتبيع الخارج للداخل، مع فارق أن الباشا والطهطاوي كانا من الوزن الثقيل، لا الخفيف، كان كلاهما على وعي بضرورة التوازن بين ما هو وطني وما هو أجنبي، ومنذ ذاك التاريخ، والنخب تدور حول محورين: محور التوازن اللازم بين الداخل والخارج، أو محور الاختلال لصالح الخارج على الداخل، حيث التغريب والأوربة والتحديث غير العقلاني، أو الاختلال لصالح الداخل إلى حدود الانغلاق الثقافي والتعصب الفكري. النخب السياسية على مدى القرن التاسع عشر، حتى منتصف القرن العشرين، كانوا وسطاء تجاريين وماليين بين مصر وأوروبا، وباستثناء الباشا فقد كانوا- بقصد أو بغير قصد- يخدمون أوروبا، أكثر مما يخدمون الداخل، وباستثناء عبد الناصر، عادت المعادلة ذاتها للعمل في العهد الجمهوري، حيث الحكام وسطاء بين الشعب والخارج، وحيث مراعاة مصالح الخارج شرط أساسي في بقاء الحاكم وتعزيز مركزه في حكم مصر، ولهذا السبب- أي الوساطة- ماتت نهضة محمد علي باشا الصناعية، كما لحق المصير ذاته بنهضة عبد الناصر الصناعية، فثمة مصالح متبادلة بين طبقات الحكم هنا في مصر، وقوى الصناعة في الخارج في عدم تصنيع مصر، واستمرارها مجرد سوق واسعة للاستيراد دون التصدير.
تقريباً، عشر سنوات تفصل بين وفاة الجبرتي 1825م بعد عشرين عاماً، من حكم محمد علي باشا، وصدور أول مؤلفات الطهطاوي، وهو كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز ” في طبعته الأولى عام 1834م، أي بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من حكم الباشا لمصر، بل في ذروته، حيث كان في حقبة تكوين إمبراطورية 1831- 1841م، ثم صدر الكتاب في طبعة ثانية 1849م، ثم طبعة ثالثة 1905م، بمرور مائة عام على حكم الباشا لمصر.
وعلى عكس الجبرتي، يسير الطهطاوي، حيث يخلق الباشا خلقاً جديداً، ويصوره في أرفع مكانة. الجبرتي كانت لغته تتراوح في وصف الباشا بين التغافل والتجاهل والإدانة الصريحة أو الضمنية، ثم جاء الطهطاوي، فإذا الباشا هو “إشراق طالع التدبير العجيب، والتشييد الغريب، هو الوزير الأعظم، والدستور المكرم المفخم، نادرة وزراء الزمان، وشاردة أمراء الأوان، من أحيا العلوم باجتهاده، ونصب رسوم الإسلام بغزوه وجهاده، صاحب العلم المنيف، وفاتح الحرم الشريف، حضرة أفندينا ولي النعم، عظيم الشيم، الحاج محمد علي باشا، بلغه الله تعالى ما يشاء، وما شاء، آمين”.
الجبرتي قرر- بوضوح- أن كتابه ليس لنوال الرضا من أحد، وكان المقصود هو الباشا، وكان الجبرتي يزدري الباشا في قرارة نفسه، لكن الطهطاوي يختتم خطبة أول مؤلفاته بالقول: “نسأل الله، سبحانه وتعالى، أن يجعل هذا الكتاب مقبولاً لدى صاحب السعادة، ولي النعم، معدن الفضل والكرم، وأن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم، إنه سميع مجيب، وقاصده لا يخيب”.