بتاريخ 24 فبراير الماضي، نشرت الجريدة الرسمية في عددها رقم 8 مكرر ( أ ) القانون رقم 11 لسنة 2024، والصادر بتعديل أحكام القانون رقم 143 لسنة 1981 في شأن الأراضي الصحراوية، وقد صدر ذلك القانون من مادتين، وذلك باستبدال نص المادة رقم 11 فقرة ثانية، واستبدال نص المادة 12 فقرة ثانية، وقد جاءت هذه التعديلات التي وافق عليها مجلس النواب بطلب حكومي، تُعيد صياغة هاتين المادتين السابقتين، بما يسمح بتملك المستثمرين الأجانب للأراضي الصحراوية اللازمة؛ لمزاولة نشاطهم أو التوسع فيه، وفقًا لأحكام هذا القانون أو قانون الاستثمار.
وقد واجه هذا القانون بعض الاعتراضات البرلمانية، حيث ذكر النائب/ محمد عبد العليم داود، أنه يرفض هذا المشروع بقانون، حيث لا يمكن تشجيع الاستثمار، بما يبيح ملكية الأجانب للأراضي المصرية، وذلك ما أيده النائب ضياء الدين داود، والذي ذكر، بأن الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، وأن صدور مثل هذا التشريع قد يسمح باختراق البلاد في ظل ظروف، تقتضي عدم السماح بذلك، ومن ناحية مغايرة، فقد أكد النائب/ محمد عطية الفيومي خلال عرضه لتقرير اللجنة المشتركة أمام الجلسة العامة، أن هذا القانون يهدف لمنح المستثمر الأجنبي الحق في الحصول على الأراضي اللازمة؛ لمزاولة نشاطه أو التوسع فيه وفقا لأحكام قانون الاستثمار.
وكان قد سبق على هذا المنحى الرئيس مبارك بإصداره تعديلا تشريعيا سنة 1988، يسمح لحاملي جنسية الدول العربية بتملك الأراضي الصحراوية، على أن يكون ذلك مشروطا بصدور قرار جمهوري بمعاملته معاملة المصريين، وبعد موافقة مجلس الوزراء، وهذا ما اتبعه قرارات لصالح مواطنين خليجيين بمعاملتهم معاملة المصريين، بما يضمن لهم تملك الأراضي الصحراوية، وكان القرار الأهم هو ما أصدره الرئيس الراحل بمعاملة الأمير السعودي ممدوح بن عبد العزيز آل سعود معاملة المصريين، وهو ما تمكن بموجبه من تملك 102 فدان بمنطقة الحزام الأخضر بوادي النطرون. كما أصدر الرئيس الحالي السيسي عام 2017 قرارًا بمعاملة أمير الكويت الراحل صباح الأحمد الجابر الصباح معاملة المصريين، لتمكينه من توثيق تملكه لقطعتي أرض مساحتهما 134 فدانًا وأربعة قراريط و16 سهمًا بمنطقة تابعة لمحافظة الشرقية.
وإذ لا شك في كون النظم القانونية المحترمة، يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ إن عملية الضبط الاجتماعي، وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام، هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا لا يتواجد القانون، إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية، إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور، لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون إلى الميل، أو التجاوز عن الهدف الرئيس للقواعد القانونية. وذلك ما يضمن أن يكون القانون المستحدث موجها إلى حماية مصلحة عامة بشكل مهم، ولا يحتمل التأويل أو اشتباك التفسير.
وإذ أن سوء الأحوال الاقتصادية التي تمر بها البلاد، لا يمكن بحال من الأحوال، يجعلها في معرض العصف بمعدلات الأمن القومي أو الأمن العام لجموع المصريين، بأن تبيح لأي أجنبي حق تملك ملكية الأراضي تحت أي مسمى استثماري، فهذا القول على علته، قد يُدخل الجميع على نفق مظلم لا فكاك منه، كما أنه بشكل أو بآخر يتعارض مع أوجه عديدة من النواحي الدستورية، والتي يجب أن تمثل الإطار الحاكم للجميع حكاماً ومحكومين، ويجب كذلك أن تنطوي تحت لوائها كافة التشريعات التي تصدر، فكيف لنا أن نقبل مثل هذا التشريع في ظل كون الدستور، يلزم أجهزة الدولة بالحفاظ على ثروات البلاد، وعدم التفريط فيها أو تبديدها، لكونها تمثل حقاً للأجيال المقبلة بغض النظر عن حاجة الأجيال الحالية إليها، كما وإن التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتوالية، تخلف حتما أعباء ثقيلة على عاتق الدول من جوانب مختلفة، يلزم أن تكون الدولة مواكبة لها، ومتطورة بتطورها، فتلجأ إلى التماس أفضل الحلول نجاحاً؛ لمجابهة تلك التطورات والمستجدات، بما يجلب لها منافعها، ويدفع عنها مضارها، وبما يواكب التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة، وإن عدم مجابهة التشريع وعدم مسايرته للتطورات التي تحدث في الدولة اقتصاديًا واجتماعيًا، إنما يخلق فجوة عميقة بين نصوص التشريع القائم والواقع العملي الذي تعيشه الدولة، الأمر الذي يعد بلا ريب إحدى عيوب التشريع. كما يجدر التنويه إلى أن دور التشريع الهام في تحقيق التنمية، لا يعني أن هناك قالبا ثابتا للتشريع وتحقيقه للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، بل يجب أن تكون التشريعات بحسبها من أهم العلوم الاجتماعية متطورة مع تطور المجتمع، ومع ما يتناسب من احتياجاته.
وإذا ما عاودنا الكَرة لكيفية إصدار التشريعات، فإنني أرى أن غالبية التشريعات التي صدرت خلال السنوات الأخيرة صاحبها عيب الانحراف التشريعي، وهو ما يوصمها في وقت أو في آخر بعدم الدستورية، لعدم توخيها الهدف العام من القانون، إذ أن القانون، ما هو إلا ظاهرة اجتماعية موجود بيننا بشكل دائم، فرضته علينا حاجة تنظيم علاقاتنا الاجتماعية، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إيدجار موران، بقوله إن المجتمع أنتج القانون الذي أنتجه، بمعنى أن هناك نوعا من العلاقة الوجودية بين القانون والمجتمع، فالمجتمع ينتج القانون، وهذا الأخير هو بدوره ينتج المجتمع من خلال تلك القواعد التي يسطرها، وكذا الكوابح التي ينهجها. وهذا المعنى مؤداه، أنه لا حاجة لأي تشريعات لا يكون المجتمع في حاجة إلى مثل هذا التنظيم، حيث لا بد من وجود حالة من التماس بين التنظيم المجتمعي والاحتياج القانوني، ولا بد وأن تعي السلطة التشريعية هذه الأصول، ولا تقبل أن تكون مجرد أداة في يد السلطة التنفيذية؛ لتقر ما تشاء لها من قوانين.
ومن هذا المنطلق وجب على أي سلطة حاكمة، أن تكون على قدر مسئوليتها في المحافظة على ثروات البلاد، وعدم تبديدها أو التصرف فيها تحت أي مسمى، فيما لا يصلح حال الدولة، ويحافظ على حقوق الأجيال المقبلة في هذه الثروات، وأن على الحكومة إدارتها على نحو، يضمن بقاءها ونماءها، وقد ساير ذلك كافة الدساتير على مستوى العالم، وهو ما أكدته المعاني الواردة في الدستور المصري الأخير ، في فصله الثاني من الباب الثاني، والمعنون “المقومات الاقتصادية” وأهم ما جاء بهذا الفصل، هو ما جاء بالمادة 32 منه، بقولها إن ” موارد الدولة الطبيعية ملك للشعب، تلتزم الدولة بالحفاظ عليها، وحُسن استغلالها، وعدم استنزافها، ومراعاة حقوق الأجيال القادمة فيها”.