مشكلات جمة لا أول ولا آخر لها، بخصوص الحبس الاحتياطي، وما يثيره هذا الحبس من وجود أبرياء خلف أسوار السجون.
والحبس الاحتياطي هو واحد من أهم القضايا التي كان سيوليها الحوار الوطني اهتماما، حتى أنه وضع لها نصيبا معتبرا ضمن جلساته، لكن عندما جاءت انتخابات الرئاسة، أرجئ هذا الموضوع، بل أرجئ الحوار برمته، لما بعد الانتخابات. وعقب بدءالحوار بُعيد تلك الانتخابات، أُرجئ الحبس الاحتياطي مرة أخرى لصالح الاهتمام بالشأن الاقتصادي، لكن رغم ذلك استعيض عن غالبية وصايا الحوار المتصلة بالتنمية المستقلة بالركض خلف وصايا صندوق النقد، وإقرار التعويم، واستسهال الحل عبر بيع الأصول.
اليوم “السبت وقت كتابة هذا المقال” تقفز السلطة على الحوار الوطني، كما فعلت عدة مرات، فتستبق جلساته، بمناقشة مجلس النواب للحبس الاحتياطي بتعديل قانون الإجراءات الجنائية. المناقشات داخل مجلس النواب، ودعوة الخبراء والمهتمين بالقضية، هي مناقشات سرية لا يعلم أحد عنها شيئا، ولم تغطيها الصحافة رغم أهميتها، والمضابط الخاصة باللجان، (كما مضابط الجلسات العامة للمجلس)، ما برحت منذ أكثر من عقد ونيف؛ لتصبح مضابط سرية، لا يعلم العامة عنها شيئا، عكس ما كان يحدث إبان حكم الرئيس مبارك، حيث كانت تطبع مضابط الجلسات، ومضابط اللجان وتوزع للجميع بشكل شفاف.
المعلوم حتى الآن، والظاهر من خلف الكواليس، هو أن مجلس النواب خص بالنظر قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950، دون غيره وفقا لما يلي: –
– تنظيم بدائل للحبس الاحتياطي.
– تخفيض الحد الأقصى للحبس الاحتياطي في الجنح؛ ليصبح ٤ أشهر بدلا من ٦ أشهر، وفي الجنايات؛ لتصبح ١٢ شهرا بدلا من ١٨ شهرا، و١٨ شهرا بدلا من سنتين، إذا كانت العقوبة المقررة السجن المؤبد أو الإعدام.
– تنظيم حالات التعويض عن الحبس الاحتياطي.
– إعادة تنظيم المعارضة في الأحكام الغيابية، بما يحقق توازنا بين الحق في التقاضي، وضمانات حق الدفاع، وتحقيق العدالة الناجزة.
– كفالة حق التقاضي على درجتين في الجنح والجنايات.
– تطوير نظم الإعلان، بما يواكب التحول الرقمي، بجانب الإعلان التقليدي.
– تنظيم حالات وإجراءات التحقيق، والمحاكمة عن بُعد وفقا للتقنيات الحديثة.
– تنظيم التعاون القضائي الدولي وفقاً للاتفاقيات الدولية النافذة في مصر، ومبدأ المعاملة بالمثل.
– إضفاء مزيد من الضمانات التي كفلها الدستور لحقوق المتقاضين، والمتهمين والمحكوم عليهم والمحبوسين.
– توفير حماية قانونية فعالة للشهود والمبلغين والخبراء والمجني عليهم.
– إقرار وترسيخ مبدأ، أنه لا محاكمة بدون محام.
– حماية حقوق ذوي الهمم، في مراحل التحقيق والمحاكمة وتنفيذ العقوبة، من خلال توفير المساعدات الفنية، ووسائل الإتاحة اللازمة والمناسبة لهم.
– إلغاء الإكراه البدني واستبداله بالزام المحكوم عليهم بأداء أعمال للمنفعة بالضوابط والإجراءات اللازمة.
هذا وقد تمت مناقشة كل ذلك من خلال لجنة فرعية مشكلة بقرار من لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية، تضم ممثلين عن لجان الشؤون الدستورية والتشريعية والدفاع والأمن القومي وحقوق الإنسان بمجلس النواب، وممثلين عن مجلس الشيوخ، وممثلين عن الوزارات والجهات ذات الصلة مثل، مجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة، ومجلس الدولة وهيئة مستشاري مجلس الوزراء وممثلين عن وزارات العدل والداخلية والمجالس النيابية، وأعضاء من هيئة التدريس بكليات الحقوق، ونقابة المحامين، والمجلس القومي لحقوق الإنسان.
ولعل أكثر المشكلات التي تثير لغطا كبيرا اليوم بشأن الحبس الاحتياطي في مصر أمران: أولهما، أن الدستور عالج تلك المسألة في أسطر قليلة، من خلال، ما سطرته المادة 54 منه، والتي أحالت كل شيء، يخص التفاصيل وتفاصيل التفاصيل للقانون، ما جعل الكثير من النصوص، توصف من قبل عديد من الحقوقيين في الداخل والخارج، بأنها غير دستورية، وتخالف الشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي وقعت مصر عليها (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، و العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية الاقتصادية والاجتماعية). ثانيهما، أن الحبس الاحتياطي قد نظمه القانون ضمن ثلاثة تشريعات على الأقل هي: قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة1950، وقانون العقوبات رقم 58لسنة 1937، وقانون الإرهاب رقم 94 لسنة2015. ما يجعل الشارع المصري في حاجة إلى سن قانون موحد، حتى لا تضيع الحقوق، أو تختبئ وتختفي وتندثر الضمانات، أو تبرز الاستثناءات وتستشري، حتى تصبح هي الأصل.
وعودا لما ناقشته لجان مجلس النواب، يشار إلى أن كل ما سبق داخل مجلس النواب كان مجرد تعديلات غير شاملة لكافة الأمور المتعلقة بتعسف السلطتين التنفيذية، والقضائية في استخدام مسألة الحبس الاحتياطي، باعتبارها عقوبة سالبة للحرية، لأنها لا تصدر فقط من قضاء جالس، بل وأيضا من جهات تحقيق واتهام!!. ناهيك عن أنها بدلا، من أن تكون إجراءا احترازيا، قصد منه عدم تمكين المتهم من الهرب، أو تشويه المتهم للإدلة بعد الإفراج عنه، أو التأثير على الشهود والخصوم، أو حتى تعرضه لمكروه من قبل متهمين آخرين خارج الأسوار، (بدلا من كل ذلك)، تحولت إلى افتراس للناس الذين يفترض البراءة فيهم كأصل، فبدلا من أن يكون الحبس الاحتياطي ترخيصا للقضاء؛ لاستكمال التحقيق الابتدائي مع المتهم، تحول لترخيص لآخرين؛ للنيل من حريات الناس بعد استنفاد هذا التحقيق الابتدائي.
لقد جاء مشروع أو مقترح التعديلات، كما وردت في البنود السابقة؛ لتعالج أمورا مهمة كالوسائل التكنولوجية كبدائل للحبس البدني، فنحن ولكوننا على أعتاب الألفية الثالثة، وعصر العولمة والثورة المعلوماتية الراهنة، كان حتما إلا نتأخر في إدراك، أن هناك بدائل تكنولوجية للحبس الاحتياطي، والتي أخذت بها عديد بلدان العالم المتمدين، لصالح منع التعامل المهين للكرامة الإنسانية والحط من شأن وقدر الإنسان، هنا يشار على سبيل المثال إلى تجربة الأسورة الإلكترونية، والحبس المنزلي، وعدم مقابلة الغير في المنزل، وعدم التنقل إلا في حدود معينة… إلخ.
من الأمور الإيجابية التي نوقشت أيضا، عدم تجاهل تعويض المتهمين التي صدرت أحكام أو قرارات من النيابة بالإفراج عنهم، بعد أن قضوا مددا مختلفة، بعضها تعسفت فيه من أصدر قرار الحبس الاحتياطي، وقد تبين أخيرا براءة ساحة الموقفين احتياطيا. هنا التعويض لا يرتبط فحسب، بما لحق هؤلاء من إيذاء بدني، بل وأيضا الإيذاء النفسي، وتشوية السمعة، والتناول السلبي لشخوص هؤلاء في الإعلام والصحافة، دون أن يكون لهم الحق في رد، ما طالهم من إساءة سمعة. هذا بالإضافة إلى أن الإفراج؛ بسبب براءة ساحة المتهم عقب الحبس، قد يعقبه الفصل من العمل أو على أقل تقدير وقف الترقية أو العلاوات وغيرها.
مقابل ذلك، هناك مشكلات لا حصر لها، لم يتم التطرق إليها في التعديلات المقترحة بمجلس النواب، وفقا لما أُعلن وصدر وذُكر آنفا. هنا نشير إلى أنه واحد من أكثر الأمور التي دائما، ما يتجاهلها الشارع القانوني، هو عدم التطرق إلى قضايا ما وراء الحبس الاحتياطي، إذ يتم تركيز الشارع على مدد الحبس الاحتياطي، وعلى القائم بإصدار قرار الحبس الاحتياطي، مع تجاهل-عن عمد- القضايا الأخرى.
خذ كذلك تجاهل المعاملة المهينة نفسيا للمفرج عنهم من قبل الدولة والمجتمع معا، خاصة في محيط عملهم ومحيط سكنهم ومحيط عائلاتهم، وكلها أمور لا يعتقد، أنها سهل محوها إلا بقرارات، تعلي من شأن هؤلاء، وتوجب الاعتذار والتعويض لهم، كما أسلفنا.
خذ كذلك الإفراج البدني عن الموقوفين، دون الإفراج عن أموالهم في البنوك، وغيرها من مؤسسات الدولة المالية، ما يجعل هؤلاء في حالة عوز لمدد طويلة، قد تتجاوز أيام وسنين الحبس الاحتياطي، ما يفضي لحالة حرمان لهؤلاء من أموالهم، التي قد تكون المصدر الوحيد للقمة عيشهم، هم ومن يعولونهم ناهيك عن حرمانهم من مصروفات علاجهم.
خذ أيضا ضرورة، أن ينص أي تعديل لكافة الأمور المتصلة بالحبس الاحتياطى، على أن قرار الحبس– ومنعا لتضارب المصالح- يتحتم أن يصدر عن قضاة مستقلين عن مسئولي الاتهام أو التحقيق.
خذ كذلك المنع من السفر الذي يحتاج إلى العديد والعديد من الإجراءات للخلاص منه، ما يجعل المفرج عنه، يعيش في حالة سجن كبير. فقرار الإفراج الذي صدر حتما، قد يعقبه قرار المفرج عنه للهروب من أعين الناس بالسفر هنا أو هناك، لكن البعض من هؤلاء يفاجأ، بأنه خرج من سجن صغير إلى سجن كبير، فهو ممنوع من السفر.
وحتى بالنسبة إلى المدد التي تم مناقشتها في مجلس النواب، فقد تم تنزيلها بقدر محدود، وكأن الشارع القانوني- وبعض الخبراء الذين استعان بهم- يقص من لحمه، حتى يمتنع عن إيذاء الناس، والحط من كرامتهم وسلب حرياتهم.
وأخيرا وليس آخرا، من المهم- كما ترى مؤسسة حرية الفكر والتعبير AFTE- أن يتم تعديل قانون الإرهاب رقم 94 لسنة 2015، بحذف النص الخاص بمنح النيابة أو سلطة التحقيق السلطات المقررة لمحكمة الجنح المستأنفة المنعقدة بغرفة المشورة؛ لتكون لهما نفس الاختصاصات والقيود المنصوص عليها بالمادة 143 من قانون الإجراءات الجنائية بعد أي تعديلات-آنفة الذكر- اقترحت بشأنها، والخاصة بتخفيض مدد الحبس.