في الجو السياسي الفلسطيني المثخن بالجراح، التي تفوق أية قدرة تحمل، تبدت تساؤلات ملغمة عن الأدوار، التي يمكن أن تضطلع بها السلطة المتمركزة في رام الله باليوم التالي لوقف الحرب.

هناك تأهب للعب، ما يطلب من أدوار في خدمة الاحتلال.

أخطر ما في ذلك التأهب إهدار ثمار التضحيات الهائلة التي بذلت.

لا توجد خلافات حقيقية بين إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، وحكومة “بنيامين نتنياهو” الأكثر يمينية بالتاريخ الإسرائيلي في كيفية إدارة غزة بعد الحرب.

إنها خلافات في التكتيك لا الاستراتيجية.. في درجة الكفاءة لا في ضرورة إخضاع الفلسطينيين لمقتضى الأمن الإسرائيلي.

يميل الأمريكيون إلى إعادة توظيف السلطة الفلسطينية؛ لفرض هيمنة إسرائيلية أمنية على قطاع غزة دون احتلاله، أو اقتطاع أجزاء منه، فيما لا يبين عند “نتنياهو” أي أفق سياسي لليوم التالي.

فيما هو معلن، فإنه يرفض إسناد أية أدوار للسلطة في غزة؛ خشية أن تتحالف بعض عناصرها مع المقاومة الفلسطينية المتبقية.

السلطة بمقوماتها الحالية، لا تصلح لأداء أية أدوار، تخولها الحديث باسم الفلسطينيين، وخدمة الأمن الإسرائيلي بنفس الوقت.

بصورة مواربة، طالب “بايدن” بإزاحة “محمود عباس” عن رأس السلطة، فشرعيته تقوضت، وقدرته على التأثير في المعادلات الداخلية الفلسطينية، تآكلت.

صاغ طلبه في عبارة ملتبسة، حين طالب بـ”سلطة متجددة”.

هناك من تصور داخل السلطة، أن اللحظة حانت لإزاحة “عباس”، فيما بدا هو نفسه منتبها بخبرته في إدارة صراعات سلطة تحت الاحتلال، لما قد يحدث معه.

إنها اللعبة نفسها، التي استقرت بعد اتفاقية “أوسلو”، وأهلته لمنازعة “ياسر عرفات” الزعيم التاريخي لحركة “فتح”، ومنظمة التحرير الفلسطينية، قبل أن يخلفه في ظروف وملابسات، تؤكد أنه قد تم الوصول إليه بالسم.

على مدى خمس سنوات، مال الاعتقاد العام داخل “فتح”، أن رئيس الحكومة “محمد أشتية” هو أقوى المرشحين لخلافة “عباس” في رئاسة السلطة.

كان ذلك من تبعات التفريغ السياسي لقيادات وكوادر “فتح”.

بدا “أشتية” بسمته الهادئ قادرا على ملء فراغ الدور، دون تورط في علاقات حميمة مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

لم تكن إطاحته مفاجأة بذاتها، فقد كان طبيعيا أن يخرج من منصبه بمقتضى تفاهمات فلسطينية باجتماع موسكو، الذي شاركت فيها كافة الفصائل؛ لتشكيل حكومة تكنوقراط، تعمل على تهيئة العمل الداخلي لمرحلة جديدة، لا يستأثر فيها فصيل واحد باتخاذ القرار.

المفاجأة أن تغييرا حدث بالفعل، لكن بالاتجاه العكسي، شكلت حكومة جديدة من طرف واحد، لا كان هناك تفاهم، ولا تبدت وحدة.

إثر إعلان الحكومة، صدرت بيانات من الفصائل تحتج، وتعترض على تلك الخطوة الانفرادية، أعقبه بيان نسب إلى حركة “فتح” تجاوز أية خطوط حمراء تقتضيها حرب الإبادة والتجويع المنهجي، الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة، واصفا عملية “طوفان الأقصى” بـ “الحماقة”، التي أفضت إلى “نكبة جديدة”!

كان ذلك تسميما مقصودا في البيئة السياسية الفلسطينية، حتى لا يكون هناك مستقبل جديد ومختلف، يتأسس على التضحيات الهائلة التي بذلت.

تحركت الدفة الفلسطينية من الحوار إلى التلاسن.

لا يمكن استبعاد أية أدوار أمريكية في تفجير أية فرصة؛ لإعادة بناء البيت الفلسطيني وفق برنامج وطني موحد، تتبناه وتعبر عنه منظمة التحرير الفلسطينية بعد توسيعها؛ لتضم “حماس” و”الجهاد”.

جرت إطاحة الخليفة المرجح لـ “عباس”؛ حفاظا على أية أدوار مستقبلية ممكنة لرئيس السلطة الحالي، وإجهاضا لمحاولات تهميشه وإطاحته.

أرد أن يقول بإسناد الحكومة إلى تكنوقراط وشخصيات غير معروفة، إنه الوحيد الذي يمكنه التغيير.

إذا كان التغيير مطلوبا، فأنا رجله.. وإذا كانت السلطة مرشحة للعب دور في غزة، فلا أحد غيري.

ثم أراد أن يقول بإطاحة “أشتية” أنه لا وريث لسلطته، حتى لو كانت محدودة، ومقيدة وخاضعة للاحتلال، ولا تكرار لسيناريو التخلص من “عرفات”.

هكذا جيء بـ “محمد مصطفى” من الظل إلى مقدمة المشهد رئيسا للحكومة ووزيرا للخارجية، دون أن يكون مؤكدا، أن مقامه سوف يطول في السلطة!

في نفس اللحظة، برز رجلان على صلة قوية بالاحتلال، والتنسيق الأمني معه على جدول أعمال المستقبل المنظور، إذا ما أسند دور للسلطة الفلسطينية في غزة.

أولهما، “ماجد فرج” رئيس الاستخبارات الفلسطينية.. وثانيهما، “حسين الشيخ” أمين سر حركة “فتح”.

كلاهما مقرب من “عباس” وموضع ثقته.

وكلاهما يستند إلى علاقات تعاون وثيق مع الاحتلال في طموحه للعب أدوار أكبر في معادلات السلطة.

نسب للرجلين الإبلاغ عن عمليات مقاومة، قبل أن تحدث.

حسب تقارير إسرائيلية متواترة، فإن “ماجد فرج” هو المرشح الأول، أن يكون حاكما لغزة بعد انتهاء الحرب.

يزكي ترشيحه ما هو منسوب إليه من أدوار نيابة عن السلطة في التنسيق الأمني مع الشاباك والـ “سي. أي. أيه”.

اقترحه “يوآف جالانت” وزير الدفاع الإسرائيلي للعب ذلك الدور، فيما يتحفظ “نتنياهو” من حيث المبدأ العام على إسناد أية أدوار لشخصيات فلسطينية، أيا كانت طبيعتها، أو خدماتها السابقة.

عاد اسم “ماجد فرج”؛ ليطرح من جديد في أجواء مسممة بين “فتح” و”حماس” على خلفية اتهامه، بأنه وراء إرسال ستة من القوة التابعة للسلطة برفقة المساعدات، التي كانت متوجهة إلى شمال غزة بذريعة المساعدة، فيما مهمتها الحقيقية تقصي معلومات، تساعد الاحتلال في حربه على المقاومة.

من وقت لآخر، يتصدر اسم “حسين الشيخ” الأزمات الفلسطينية البينية، وهو من أبرز مرشحي الاحتلال لخلافة “عباس”!

دعا إلى “محاسبة حماس” على عملية “طوفان الأقصى”.. ثم عاد ليقول، إن تصريحاته حرفت و”أوسلو” دفنت، لكنه باسم تلك الاتفاقية يبدي استعدادا كاملا، أن تتولى السلطة الفلسطينية إدارة غزة بعد انتهاء الحرب!

كان ذلك التصريح بوقته ورسالته استباقا لنتائج الحرب، وانتظارا لهزيمة المقاومة، حتى تجني السلطة ثمار التضحيات التي بذلت دون استحقاق.

هذا كله من تبعات اتفاقية “أوسلو” التي صممت على نحو يسمح للاحتلال بالبقاء بأقل التكاليف السياسية.

في الأجواء الأولى لتلك الاتفاقية، اعتقد “عرفات” أن بوسعه أن يحسن شروط اللعبة عند وضع أقدامه على أية بقعة أرض فلسطينية.

سمح بنوع من الزواج السري بين السلطة والمقاومة، غير أن إسرائيل حاصرته، واخترقت صفوف رجاله، واغتالته بسم في النهاية.

في لحظة منحوه جائزة “نوبل للسلام”، وفي لحظة تالية، اعتبروه إرهابيا وعقبة أمام هذا السلام.

حاول أن يؤسس لعمل مسلح سري، وأن يبني علاقات مختلفة مع فصائل المقاومة الأخرى، تحول دون تصفيتها، قبل أن يكتشف في الساعات الأخيرة من حياته، أن اللعبة قد صُممت؛ لتؤول قيادتها إلى نوعية مختلفة من الفلسطينيين على مقاس الاشتراطات الإسرائيلية، وأن قضيته دخلت النفق المظلم على يديه.

الأفدح أن إسرائيل مزقت الاتفاقيات التي وقعتها. توسعت في بناء المستوطنات، وبنت جدارا عنصريا يمزق الأرض، ويحيل ما تبقى من فلسطين التاريخية إلى أشلاء، ومع ذلك أخذ الفرقاء الفلسطينيون يتصارعون على أشلاء وطن، وأطلال سلطة بالقتل خارج القانون، وعلى الهوية السياسية، كما حدث عند الانشطار الفلسطيني عام (2007).

يحسب لعملية “طوفان الأقصى” إعادة إحياء القضية الفلسطينية، بعدما أوشكت أن تطويها دفاتر النسيان.

أعادت تأكيد عدالتها بفيض تضحيات شعبها، التي لا قبل لبشر على تحملها.

هذا ما لا يصح التفريط فيه بأية ذريعة.