على الرغم من الاعتراف القانوني والدستوري من الدولة، بأن مهنة المحاماة مهنة تساعد في تطبيق العدالة، أو على حسب الوصف الدراج، أنها أحد جناحي العدالة، إلا أنه لا يخلو عام من الأعوام، إلا وتكون هناك أزمات ما بين الدولة بأحد سلطاتها، أو إحدى أدواتها وبين المحامين، سواء كان ذلك من خلال أعمال المحاماة ذاتها، أو من خلال أشخاص المحامين، وبعض القائمين على أوجه السلطة.
لم يمض أكثر من اسبوع على انتخاب نقيب المحامين ومجلس النقابة العامة، والذي يعد الممثل الشرعي لنقابة المحامين مع السلطة، ومع الجهات الرسمية ومع الأشخاص، كما أنه هو الوجهة المعبرة عن المحامين، إلا وجرت في أماكن مختلفة حوادث متفرقة جميعها، تصب في خانة الإيذاء أو التعرض للمحامين، وقد بدأت هذه الأحداث، بما تم ما بين رئيس محكمة جنايات المنصورة، وبين أحد المحامين الشباب، والذي يحمل درجة قيد ابتدائي، والذي تعرض بحسب ما ذكره في المذكرة التي تقدم بها إلى النقابة العامة للمحامين؛ للسخرية والتهكم من رئيس المحكمة، ومن بين ما ذكره المحامي في شكواه ” الكارنيه دا، تروح تجيب به فرختين من الجمعية”.
إلى واقعة التعدي من قبل أحد الضباط على محام في البدرشين، وإلقاء القبض على المحامي، وإحالته على النيابة العامة، وبه بعض آثار للتعدي عليه، ثم التعدي من قبل أحد الضباط بالقاهرة الجديدة على محامية، وكسر بطاقة عضوية النقابة، وكان ختامها، بأن قام أحد الضباط بقسم شرطة ملوي– محافظة المنيا بالقبض على محامية، تجاوزت الستين من العمر، وإجبارها على الدخول في مقر الاحتجاز، مما أدى إلى وفاتها عقب ذلك داخل حجرة الحجز، ولكن لم يرد أن أحداً قد قام بالتعدي عليها، ويبدو أن الأمر قد صاحبه ضغط عصبي، وانهيار نفسي على إثر إجبارها على دخول الحجز، برغم كونها قد ذهبت لتحرير محضر.
كل هذه الأحداث خلال أسبوع واحد عقب انتخابات النقابة العامة، وأتذكر أيضا أن حدث مثل ذلك عقب الانتخابات الماضية، وكأن السلطة العامة تريد أن تضع اختباراً لنقابة المحامين في مدى تصديها، أو مدى قبولها للتعدي، أو اختبار قوة المجلس في كيفية إدارته للموقف، أو مجابهته لهذه التعديات، والتي تمثل عدواناً على المحاماة، وتؤثر على قيمتها الاجتماعية.
وإذ أنه يعد الحق في الدفاع من أهم ركائز المحاكمات العادلة، إذ لا تتحقق فاعلية العدالة والغاية من المحاكمات إلا بضمان حماية الحق في الدفاع، وكفالة حرية المدافع في القول والمرافعة، وعدم جواز مؤاخذته، عما يبديه أمام المحكمة أثناء مرافعته، إذ يمثل الحق في الدفاع ضمانة؛ لحسن سير مرفق العدالة، ويدعم الحق في التقاضي بشكل عام، ولكن إذا ما تم تكبيله بالعديد من القيود، أو عدم إتاحة الفرصة للمحامين في الترافع، وحمايتهم من الناحية الواقعية من المؤاخذة، بما يقولونه، أثناء ممارستهم لواجبهم في الدفاع، فإن ذلك يعد إرهاقا لحقوق الأفراد ذاتهم في الحصول على المحاكمات العادلة والمنصفة، وهي غاية المحاكمات ذاتها، إذ أن التقاضي ذاته، دون حماية حقوق المحامين في أداء أعمالهم بحرية، يكون مبتوراً وقاصراً عن تحقيق غايته، وهو الأمر الذي يخل بهيبة القضاء أمام المتقاضين، ولا يحقق الغاية من وجوده. وفي هذا المعنى قالت محكمة النقض المصرية في حكمها رقم 20238 لسنة 84 قضائية، أن حق المتهم في الدفاع عن نفسه أصبح حقاً مقدساً، يعلو على حقوق الهيئة الاجتماعية التي لا يضيرها تبرئة مذنب، بقدر ما يؤذيها ويؤذي العدالة معاً إدانة برئ. كما أقرت المادة 198 من الدستور المصري الأخير، على أن يتمتع المحامون جميعاً أثناء تأديتهم حق الدفاع أمام المحاكم بالضمانات، والحماية التي تقررت لهم في القانون مع سريانها عليهم أمام جهات التحقيق والاستدلال. ويحظر في غير حالات التلبس القبض على المحامي أو احتجازه، أثناء مباشرته حق الدفاع.
ويعد الحق في الدفاع من الحقوق الأساسية للإنسان، التي لا يجوز أن ينتقص منها أو يتم التضييق عليها، ولا يملك المشرع سوى إقرارها بشكل يحقق التوازن بين حقوق الأفراد وحرياتهم وبين مصالح الدولة، وهذه الأسانيد تخول للخصم إثبات ادعاءاته القانونية أمام القضاء، والرد على كل دفاع مضاد في ظل محاكمة عادلة، يكفلها النظام القانوني، وقد تعرضت المحكمة الدستورية العليا في العديد من أحكامها لمضمون الحق في الدفاع، وقد قالت في ذلك المعنى في القضية رقم 6 لسنة 13 دستورية، وذلك في عصر المحكمة الذهبي، إبان تولي رئاستها المرحوم المستشار/ عوض المر بقولها، إن “ضمانة الدفاع هذه هي التي اعتبرها الدستور ركنا جوهريا في المحاكمة المنصفة التي تطلبها في المادة 67، منه كإطار للفصل في كل اتهام جنائي تقديرا، بأن صون النظام الاجتماعي ينافيه أن تكون القواعد التي تقررها الدولة في مجال الفصل في هذا الاتهام مصادمة، للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، وانطلاقا من أن إنكار ضمانة الدفاع، أو فرض قيود تحد منها، إنما يخل بالقواعد المبدئية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة، والتي تعكس نظاما متكامل الملامح، يتوخى صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة، بما يخرجها عن أهدافها. كما ينال الإخلال بضمانة الدفاع من أصل البراءة”.
وإذ أن حق الدفاع يمثل أو يعبر عن الطريقة الاجتماعية لرد العدوان، سواء كان ذلك عن طريق موقف مادي مباشر، كما هو الحال بالنسبة لحق الدفاع الشرعي، أو موقف قولي جدلي، كما هو الحال بالنسبة للدفاع في الخصومات، فحق الدفاع اإذاً مبدأ مقدس، وحق طبيعي للإنسان استمده؛ تلبية لنداء الغريزة البشرية في صراعها؛ من أجل البقاء، ويجد أساسه في حق الدفاع المشروع عن النفس، كما يعد الحق في الدفاع أصلاً ثابتاً من أصول الحق في التقاضي ذاته، وسمة أساسية من سمات وجود القانون، تكون له غاية في تفعيل مبدأ المساواة بين الخصوم في المراكز الإجرائية، ولا يمكن تحقيق العدالة، دون مراعاة الحق في الدفاع وتفعيل كافة أدواته، وهذا ما أكدته كافة المواثيق والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وأفردت له اتفاقيات بذاتها متعلقة بممارسة المحامين لمهام عملهم بشكل مستقل وكامل، كما أولت الاهتمام بدور المحامين وأماكنهم كذلك عناية فائقة.
فهل ما يحدث في الفلك الواقعي، وما يتعرض له المحامون في أماكن جغرافية متفرقة، يمثل حالة وقتية؟ أم أنه يمثل نموذجا لقياس مدى قوة النقابة، أو مدى تحملها لمثل هذه المواقف؟ لكن الأمر اليقيني أنه يصيب سمعة العدالة في مقتل، بحسب كون لا عدالة، دون تحقيق الدفاع، ولا دفاع دون تواجد محامين، فكيف إذن يستطيع المحامون تحقيق أوجه الدفاع لغيرهم من المواطنين حال عدم قدرتهم الدفاع عن أنفسهم أو عن مصالحهم الشخصية.
لكن في نهاية المطاف يجب أن تكون هناك مراجعة من قبل الدولة، لما يحدث من تصرفات، تؤثر بشكل مباشر على سمعة العدالة في مصر وفي العالم، وهذا أمر لا يجب السكوت عليه، خصوصا بعد أن صدر التقرير العلمي لمؤشر سيادة القانون، والتي كان موقع مصر فيه تحت رقم 136 من بين 142 دولة.