لا زال الفلاح المصري إلى اليوم تتنقل حياته بين عديد المشاكل والكروب على تنوعها واختلافها، فمن أسعار المستلزمات الزراعية إلى أسعار الحاصلات الزراعية، مرورا بمآسي الإيجارات المرتفعة. يتحاكى الناس في بر مصر عن أوجاع الفلاح، وما يتكبده يوميا من خطوب، ويقابله من محن، وعن انتظار طويل لرفع تلك المآسي.
في “الحوار الوطني” الذي انتهت جولاته الأول قبل أسابيع قليلة من بدء انتخابات الرئاسة، ناقشت لجنة الزراعة مشكلات الفلاح خاصة، والزراعة في مصر عامة. وخرجت اللجنة بعديد المقترحات التي يبدو من ردود الحكومة عليها، أنها لا تقنع ببعضها، فتماطل وتناور أحيانا، وتدعي الاستجابة وسرعة التنفيذ أحيانا أخرى.
لا شك أن المستلزمات الزراعية، وعلى رأسها توافر بذور الإكثار وبأسعار مقبولة، تعد واحدة من أهم المشكلات التي يعاني منها الفلاح، ليس فقط بسبب شحها في بعض الأحيان، بل وأيضا بسبب شروط الحصول عليها، وارتفاع ثمنها. فبذور القمح والقطن والأرز متعددة الأصناف يتسم ثمنها بالارتفاع الكبير، وأحيانا ما تضع بعض الجمعيات الزراعية شروطا للحصول على بذرة القطن على سبيل الحصر، وذلك بغية حصر المساحات، وذلك عوضا عن مرور الموظفين على الأراضي للحصر الواقعي للمساحات. خذ أيضا تقاوي القمح للإكثار، والقمح كما هو معروف سلعة استراتيجية- تأمل مصر منذ عقود في تجاوز نصف حجم الاستهلاك المحلي دون جدوى- يفترض أن تشرف الحكومة على إيصال بذوره للفلاح عبر الجمعيات الزراعية، هذه البذرة غير متوفرة، وكثيرا ما يضطر الفلاح للاستعانة بحبوب السنة الماضية، وهي عادة بذور غير إكثار، مما يعرضه للخسارة.
السولار من أهم المستلزمات الزراعية، لاستخدامه ليس فقط في نقل المحاصيل، بل والأهم في تشغيل مواتير الري، ودرس المحاصيل، وحرث ورش وتسوية منسوب الأرض. هذه السلعة ارتفع ثمنها بشكل مخيف، ما جعل الفلاح يئن من ذلك الارتفاع، فمن 110 قروش للتر السولار في عام 2014، عندما تولى الرئيس السيسي الحكم إلى 10 جنيهات للتر في مارس 2024، بنسبة تضخم عامة تصل إلى 900%.
الأسمدة هي الأخرى مشكلة كبيرة، أثبتت دوما، أن الحكومة لا تقدر على حلها وسط السوق السوداء التي تنهش الفلاح، حيث يصل سعر شكارة الكيماوي إلى أكثر من ضعف ثمنها خارج الجمعية الزراعية، أي تصل إلى ما فوق الـ 500 جنيه. لا شك أن تلاعب شركات الإنتاج بالحكومة، وتفضيل التصدير على مد الجمعيات بالأسمدة (تنتج مصر نحو 22 مليون طن، وتستهلك 15مليون طن سنويا)، هو من أسباب شح السماد الذي يعتبر الغاز المنتج محليا عماد إنتاجه الرئيس.
المؤكد أن أسعار الحاصلات الزراعية هي الأخرى من أهم ما يعاني منه الفلاح، فمن خلالها يعتبر الفلاح قد حصل على ناتج ما قام به خلال الفاصل الزراعي الشتوي (ثلثي العام) أو الصيفي (ثلث العام). من هنا كان اهتمامه بتسعير المنتج الزراعي، وتسعير المحصول بشكل يحقق له عائدا مقدرا ومجزيا، يستطيع من خلاله تحمل أعباء الحياة وسط التضخم الرهيب الذي تعيشه مصر، فوق ما أنفقه وتحمله من تكاليف مستلزمات، وإيجار أرض خلال الموسم الزراعي. وبطبيعة الحال، فإن أسعار القمح وقصب السكر والقطن هي أهم ما يشغل بال الفلاح، لأن تلك المحاصيل تشغل أكبر المساحات على الإطلاق، فالقمح يزرع منه سنويا نحو 3 ملايين فدان، وكل من القصب والقطن تصل مساحة كل منهما لما فوق الـ 300 ألف فدان. واحد من المشكلات الرئيسة في تحديد أسعار تلك المحاصيل هو تحديد أسعار منخفضة من قبل الحكومة؛ لتوريد طن القصب لمصانع السكر، أيضا تحديد سعر محدود لتوريد أردب القمح، حتى أن السعر ظل لسنوات طويلة أقل من سعر الاستيراد من الخارج، ما جعل الحكومة تتهم دوما، بأنها تدعم مزارع القمح الأجنبي، وتترك الفلاح المصري. نفس الأمر بالنسبة إلى القطن، حيث تترك الحكومة تسعيره لشركات قطاع خاص، ما يجعل الأمر يخص العرض والطلب، ليس فقط كل موسم، بل بوجود أكثر من سعر في الموسم الواحد، وذلك بين أوله وأوسطه وآخره، ما يعرض الفلاح للابتزاز والخسارة الكبيرة.
جراء كافة هذا المشكلات، كانت مقترحات لجنة الزراعة والأمن الغذائي بالحوار الوطني، والتي كان أهمها التوسع في المحاصيل التعاقدية، وإدخال الأرز والعدس والطماطم والبطاطس والفول البلدي والكتان والقطن ضمن تلك المحاصيل، وذلك وفق الأسعار العالمية. وقد ردت الحكومة على تلك التوصية، بأنها قامت بذلك بالفعل منذ 2020، وهي في هذا الصدد تتغافل عن سلطاتها الضعيفة للغاية؛ إزاء انتهاكات المتعاقدين مع الفلاحين، مثال ذلك النكبات المتكررة التي يتعرض لها المتعاقدون على زراعة البنجر مع مصانع التوريد، والتي كان آخرها ما حدث في أسيوط صيف العام الماضي، دون أدنى تدخل من الحكومة. وكذلك ما حدث مع مزارعي القطن من تلاعب شركات القطاع الخاص الموردة في الأسعار من بداية الموسم لأوسطه لآخره، ما عرض الفلاحين لمشكلات كثيرة العام 2022 بالنسبة للقطن وعام 2023 بالنسبة للبنجر.
ضمن مقترحات الحوار الوطني أيضا تطبيق نظام الدورة الزراعية؛ لمنع تفتيت الحيازات، وهنا ترد الحكومة، بأنها بدأت في تجريب تلك السياسة في المحاصيل الشتوية للعام الزراعي 23/ 2024 بالنسبة للقمح كمرحلة أولى، وأنها وفرت بذور قمح الإكثار بنسبة 100%، مع وجود فائض للتصدير. وبطبيعة الحال هذا الأمر لا يتوافق على الإطلاق مع بعض مديري الجمعيات الزراعية، وكذلك شكاوى الفلاحين من عدم توافر تقاوي القمح إلا بقدر، لا يتجاوز ربع المطلوب، وترك الفلاح نهشا لتجار البذور من القطاع الخاص.
خذ أيضا مقترح الحوار الوطني لتيسير حصول الفلاحين على الأسمدة، وضرورة توافر النقص في أعداد المختصين بفحص جودة المبيدات، وإنهاء كافة المعوقات المرتبطة بكارت الفلاح؛ لتوفير المستلزمات وخاصة البذرة. هنا ترد الحكومة على مقترحات الحوار، بأنها وفرت مختصين لمراقبة جودة المبيدات، وأنها ستجري إسناد عملية الفحص والرقابة للمجتمع المدني، وشركات البحوث الزراعية. على أن الواقع العملي يشير بالنسبة لمراقبة الجودة وجود تقدم حقيقي في مسألة تجنب المبيدات الضارة بصحة الإنسان، لكن مسألة توافر الأسمدة لا زالت تحتاج إلى العديد من الخطوات؛ لتوفير الكميات الملائمة للزراعة، والتي تتقرر حاليا بتوافر 3 شكاير كيماوي لكل من فدان القطن، والقمح و5 للذرة وشكارة واحدة للخضروات وغيرها بسعر 250 ج للشكارة زنة 50 كجم.
وفيما يتصل بأسعار المحاصيل، فقد أوصى الحوار الوطني بإنشاء بورصة للسلع الزراعية بالتعاون بين وزارتي التموين والزراعية، بما يحفظ حقوق المزارع والمنتج والمستهلك. وبالفعل وعدت الحكومة في ردها على تلك التوصية بتنفيذها خلال عام، أي أنه يفترض أن تكون تؤسس تلك البورصة، وتعمل في خريف 2024. جدير بالذكر أن البورصة تختلف عن الزراعة التعاقدية، فالأولى تخص الاتفاق المسبق على نوع المنتج وكميته والسعر، بينما البورصة ترتبط بعقود آجلة إلى ما بعد تسليم المنتج.
أخيرا وليس آخرا، أوصى الحوار الوطني بوضع خريطة زراعية استثمارية جغرافية مناخية مرتبطة بشركات الري، وذلك بغية تخطيط مستقبل الأمن الغذائي في البلاد. وقد ردت الحكومة في هذا الصدد، بأنه يجرى وضع تلك الخطة خلال الفترة من 6- 9 أشهر، أي أنها من الناحية العملية ستكون جاهزة قبل نهاية صيف 2024. جدير بالذكر أن وضع تلك الخطة مرتبط بالأساس بتوافر مياه الري، وهو أمر خارج نطاق سيطرة الحكومة، حيث يوكل هذا الملف للقيادة السياسية؛ بسبب مشكلات سد النهضة، وما سببه توقيع مصر على إعلان المبادئ في مارس2015، مع إثيوبيا من نكبات، ناهيك عن الخضوع لابتزاز إثيوبيا وتضييع فرصة الحل العسكري لضرب السد؛ بسبب تركها تبتز مصر، حتى تتمكن من الملء الأول للسد، وهو ما حدث صيف عام 2020.
هكذا تتعدد المشكلات التي يعاني منها الفلاح، وتبدو ردود الحكومة غير متحمسة لمجاراة “الحوار الوطني” في حلها، إلا من قبيل أن هذا الأمر، أو ذاك أمر قائم، أو أنه سوف يتم إنجازه خلال شهور. هنا من الملائم أن يقوم “الحوار الوطني” من خلال لجنة المتابعة التي تشكلت؛ لتنفيذ مخرجاته بالإصرار على تنفيذ تلك المخرجات، عساها تنقل الفلاح لمكانة ووضع أفضل.