لم يمر أكثر من شهرين على آخر تعديل تشريعي، أقره مجلس النواب على قانون الإجراءات الجنائية، والذي صدر بموجب القانون رقم 1 لسنة 2024، والذي أطلق عليه حينها تقنين استئناف الجنايات، وتم تصديره للشعب المصري المخاطب بأحكامه على اختلاف طوائفه، سواء العامة منهم أو أولي الاختصاص أو العمل بالقوانين، وذلك على الرغم مما بهذا التعديل من تجاوزات وسلبيات فاقت، ما جاء به من إيجابيات، لكن العجب العجاب أن تتقدم الحكومة بمشروع جديد؛ لتعديل قانون الإجراءات الجنائية، وهو الآن متداول بين أروقة مجلس النواب، وأعلم أنه لن يمضي الكثير من الوقت، إلا ويتم إصداره، وكيف لا والحكومة صاحبة المشروع، وربنا ما يقطع عادة لمجلس النواب في عدم التقدم بأي قوانين، ويكتفي بموقعه في مسايرة، ما تتقدم به الحكومة، لكن سنترك هذه النقطة من منطق “ما علينا”.
أعلم جيداً، أن القانون السابق إصداره بتعديل قانون الإجراءات الجنائية لم يتضمن، ما سبق وأن روجت له الحكومة منذ سنوات، ولعلها منذ مجلس النواب السابق، وقد تم مناقشته وعرضه في أكثر من موضع ومناسبة، كما أنني أعلم أن القانون الصادر باستئناف الجنايات، قد صدر على عجالة من الأمر، وذلك للحاق بتنفيذ الالتزام الدستوري، بخصوص استئناف الجنايات لقرب نهاية الأجل الدستوري “العشر سنوات”، إلا أن ذلك أعلم أنه ليس بمبرر؛ لأن يصدر القانون منتقصاً، وغير مشتمل على العديد من الأحكام أو التعديلات المطلوبة، وخصوصا فيما متعلق بالتقاضي الإلكتروني، وتنفيذ الإعلانات القضائية عن طريق الوسائط الإلكترونية، وبشكل أخص موضوع أو قضية الحبس الاحتياطي. وكل هذه الأمور قد سبق، وأن تناولتها العديد من الأيادي والأقلام، سواء فيما يتعلق بذات مشروع القانون، وبشكل عام، وأذكر أنني قد شاركت في إحدى الندوات المتخصصة داخل المجلس القومي لحقوق الإنسان رفقة العديد من المتخصصين من حقوقيين، ومحامين ورجال قضاء وأساتذة جامعات، وتداولنا في العديد من النقاط التي يتناولها هذا التعديل التشريعي.
وهو الأمر الذي يعني أن مواد هذا التعديل موجودة منذ سنوات، فلماذا إذن لم يتم إصدارها في وقت إصدار القانون رقم 1 لسنة 2024، حتى يكون كل التعديلات في مسمى قانون واحد وبصورة مخالفة؟ لماذا يتم مناقشة التعديل الجديد بعد أقل من شهرين من إصدار التعديل الذي يسبقه؟ فهل هذا يليق بالصورة البرلمانية؟ وهل ذلك يتسق مع افتراض كيفية التعامل مع القوانين، و كيفية تعديلها؟
إن الاهتمام بمسألة الصناعة القانونية أو التشريعية ليس مجرد اعتناء بالجانب الشكلي والإجرائي، إنما الهدف منه هو الوصول إلى تطبيق دولة القانون، والحكم الراشد من خلال سن تشريع جيد ومتطور، في منتهى الوضوح والدقة في الصياغة، منسجما مع الدستور وغير متعارض مع القوانين الأخرى، مفهوم عند عامة الناس وقابل للتطبيق، كما تعد نوعية الصياغة التشريعية والاعتناء بها، مكونا هاما من مكونات الإدارة الرشيدة لما لها من أثر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد. ذلك بحسب أن النصوص القانونية التي يتم صياغتها، إنما هي التي تخاطب فئات الشعب المختلفة، وبالتالي تصبح لغة الصياغة ذات أهمية قصوى لصناع القانون وللمخاطبين بأحكامه.
وإذ أن القانون يجب حال صياغته وسنه من بعد اقتراحه ومروره بالطرق اللازمة، حتى يخرج إلى الحياة المجتمعية، يجب أن يكون صالحاً للحكم خلال فترة زمنية أقل الاشتراطات اللازمة فيها، ألا تكون هذه المدة قصيرة، بحيث يحتاج المجتمع إلى تغيير النصوص التشريعية كل فترة زمنية قصيرة، وإن كان الأصل أن تكون القاعدة القانونية متماشية مع احتياجات المجتمع وقت صياغتها، إلا أنه لا يجب أن تكون هذه الفترة بالقصيرة بالشكل الذي لا سيتناسب مع دوام القاعدة القانونية وعموميتها، وإلا قد يؤدي ذلك إلى حالة من التخبط التشريعي، والسعي نحو تغيير النصوص القانونية خلال فترات قصيرة، وهو ما لا يتوافق مع خصائص القانون، حيث يجب أن يكون صناع القانون، قد استهدفوا سريانه لفترات لا تتسم بالقصر الزمني، وعلى الرغم من كون هذا البعد الزمني لا يمكن تحديده، ولكن من البديهي أن نقول، إنه كلما كانت الهيئة التشريعية قد استرعت كفة الاشتراطات اللازمة حال صياغة القانون، والتي أهمها التحاور المجتمعي، وأخذ رأي الجماعة المخاطبة بالنص التشريعي، علاوة على الاستعانة بالمتخصصين والخبراء وأولي الرأي في كل شأن، ونجد لذلك مثلاً، وهو قواعد القانون المدني، والتي يستمر العمل بها لسنوات طويلة، وأيضا معظم النصوص الجنائية.
وإذا كانت أهم الموضوعات المرتبطة بتعديل قانون الإجراءات الجنائية هو موضوع الحبس الاحتياطي، والذي يتم حاليا الترويج لذلك التعديل التشريعي من خلاله، وأنه سوف يتم الاعتناء به على نحو يقلل من مدد الحبس الاحتياطي، وذلك بحسب ما نشره موقع صدى البلد بتاريخ 7 مارس، من أن مدد الحبس الاحتياطي، سيتم تعديلها في المشروع القائم؛ لتكون في الجنح 4 أشهر بدلاً من 6 أشهر ، وفي الجنايات 12 شهراً بدلاً من 18 شهراً، و18 شهراً بدلاً من سنتين، إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة السجن المؤبد أو الإعدام، وتحديد حد أقصى للحبس الاحتياطي من محكمة جنايات الدرجة الثانية أو محكمة النقض في الجرائم المعاقب عليها بالإعدام، أو السجن المؤبد ليصبح سنتين بحد أقصى بدلاً من عدم التقيد بمدد.
وإذ أنني أومن تماما، أنه لا يوجد ما يمكن أن يعادل من حرية الفرد، والتي تساوي فقط قيمة حياته، وأنه يجب على صانعي القوانين، أن يكونوا أكثر حرصا على حقوق الأفراد في الحياة والحرية، وذلك لكونهم يمثلونه كنواب عنه في هذا الصدد، ومن ثم وجب عليهم، أن تتجه تشريعاتهم إلى ما يصون حريات الأفراد، ويدعم حياتهم، وعلى السادة النواب أن يعلموا أو يتعلموا من ذوى الخبرات قيمة الحريات، وقدرها حين التشريع، فإنه من المبدأ العام لا يصح التجريم إلا لضرورة مجتمعية، ولا يجب أن تكون العقوبات مبالغا فيها، فلا بد وأن تتناسب مع مقدار الجريمة، وهو الأمر الذى لا بد، وأن ينتج تماشيا مع الشرعية الإجرائية، أن يتم التعامل مع موضوع الحبس الاحتياطي بحذر شديد، ولا يتم فتح بابه على مصراعيه لمصادرة حريات المواطنين قبل المحاكمة. فإنني أؤكد على أن ذلك الطرح المُبدى من الحكومة فيما يتعلق بمدد الحبس، لا تحقق المستوى المطلوب من التقدم التشريعي، ولا تتناسب مع الفلسفات العقابية الحديثة، والتي بدأت منذ فترة ليست بالقصيرة في التخلي عن الحبس الاحتياطي في أغلب الأحوال، والاستيعاض عنه بالبدائل الاجتماعية الأخرى، كالسوار الإلكتروني، أو عدم مغادرة نطاق جغرافي محدد، أو العمل للمصلحة العامة، وغيرها من التدابير، بحيث لا يكون اللجوء للحبس الاحتياطي إلا في أصعب الأحوال، كما يجب أن تكون هناك رقابة عليه.
وفي المجمل أوجه رسالة إلى السادة أعضاء مجلس النواب بتحري الدقة في تناولهم لهذا التعديل التشريعي الخطير، وأن تتم مناقشته بشكل جدي، وإن كان الأجدر الاستعانة بالمتخصصين.