الأدب عندي، حسبما تعلمنا عن المرحومَين الأستاذ محمود أمين العالم، والدكتور عبد العظيم أنيس، وفقًا لما جاء بكتابهما التاريخي “في الثقافة المصرية”، هو نتاج اجتماعي، حيث يكون الأديب وليد البيئة التي نشأ فيها، خصوصًا وأن صور الأديب وخياله ومشاعره ومزاجه الفكري مستمدة من واقع المجتمع، الذي نشأ فيه. فالأديب هو وليد المجتمع الذي أثر فيه، ثم عاد هو؛ ليؤثر فيه بدوره بالكتابة والنشر. وهو بهذا التصور، فرد له نظرته إلى العالم والعصر الذي يعيش فيه، والمجتمع الخاص الذي نما في أحضانه، بما في ذلك طبقاته المختلفة والصراع الذي يعتمل في أعماقه.
فالأدب يستمد وجوده الواقعي من التطور العام للمجتمع في سياسته، واقتصاده وفِكره وفنه، بالإضافة- بالتأكيد- للتجربة الشخصية للكاتب، وإن كانت تُشِكِل جزءًا صغيرًا من الواقع، وقد تكون نقيضه. وكل كاتب لا يحاول فهم تجربته الشخصية في ضوء الواقع العام، هو بلا شك كاتب فقير*. لتأكيد هذا المفهوم العام، خَلُص الأستاذان العالِم وأنيس في مقال مُشترَكٍ لهما**، إلى أن مادة الأدب في مضمونها، ليست المعاني، وإن كانت أحد أدواته، فالمضمون هو أحداث العمل الأدبي التي تعكس مواقف ووقائع اجتماعية.
كما أوضحا أن الصورة الأدبية أو الصياغة، ليست اللغة، وإنما هي عملية تشكيل المضمون وإبراز عناصره، وتنمية مقوماته تنمية طبيعية داخل العمل الأدبي. إذن، فإبراز الدلالة الاجتماعية للمضمون الأدبي، لا يتعارض مع توكيد قيمة الصورة أو الصياغة، بل قد يساعد على الكشف عن كثير من أسرار هذه الصياغة. فالأدب إذن، لا يمكن أن يكون مقطوع الصلة بالسياقات الزمنية لمجتمعه العام بمفهومه الشامل، حيث لا يمكن أن يكون مُغرِقًا في التوحد مع تجربة الأديب الشخصية، دون التأثر بما يدور حوله من أحداث مرتبطة بتلك السياقات الزمنية، والتي تُلقي بظلالها على موقف الأديب وانحيازاته، باعتباره فردًا من أفراد هذا المجتمع، حتى وإن كان القالب الذي يصوغ فيه أدبه، هو سرد لسيرته الذاتية. ولعلي أتجاسر فأقول، إن أدب السيرة الذاتية هو الأوضح دلالة لواقعية الأدب. من هنا نبدأ، حيث لا أعد القارئ الكريم بمقالٍ تقليدي في النقد الأدبي، فما أنا بمتخصص، لكني قارئ مثله، لا أزيد ولا أنقص، أشاركه مجرد انطباعاتٍ شخصية.
لم أجد نفسي في يوم من الأيام مُرتاحًا- كقارئ- لتعبير “الأدب النسائي”، حيث التمييز الذي لا يجوز والتنميط الذي لا يليق. لم أفهم أبدًا، في سياق مفهوم الأدب الواقعي الذي يرتبط فيه المضمون بالسياقات التاريخية ووقائعها، أن يكون هناك تمييزًا بين أدب يكتبه الرجال وآخر تكتبه النساء، حيث هو أمر يفتقر إلى المبرر الموضوعي. لم أفهم أيضًا في ذات السياق، أن يتم تصنيف كل ما تكتبه النساء- هكذا- ككتلة واحدة صماء، باعتباره أدبًا نسائيًا في تنميط ساذج، لا يقيم وزنًا للفروق الناتجة عن تباين مواقع الكاتبات الطبقية، وانحيازاتهن الاجتماعية، وتفاوت مواهبهن وقدراتهن على بناء العمل الأدبي؛ إبرازًا للمضمون من خلال الصورة.
حديثي للقارئ الكريم بهذا المقال، عن إصدارين للسيرة الذاتية لكاتبتين من طراز خاص جدًا جمعتني بهما مشروعات عمل، أعتز بها. كان الإصداران قد خرجا للنور- لسوء الحظ- مع بدايات جريمة الإبادة الجماعية بغزة على يدي سفاح تل أبيب وحلفائه المتطرفين، فلم ينل كل منهما، ما يستحقه من ترحيب مجتمعي واجب، وإن كانت الأيام كفيلة بتعويض ذلك بكل الجدارة اللائقة. كلاهما مكتوبٌ بمداد القلب، لكن جاءت الصياغة مختلفة في طريقتها. نجحت كل من الكاتبتين في إبراز الدلالة الاجتماعية للعمل بمنتهى الحرفية من خلال صياغة مدهشة، واهتمام مذهل بالتفاصيل الدقيقة، وإن تناولتها واحدة بنعومة شديدة لم تفتقر إلى تدفق الإيقاع، والأخرى بتدفق جارف لم يفتقر إلى نعومة الإبداع. تشعر كما لو كانت إحداهما تصوغ حكايتها، وفي الخلفية يأتيك عزف البيانو لموسيقى أغنية “لابوهيم” العذبة للفرنسي “شارل أزنافور”، والتي تحكي كلماتها قصة رسام، يتذكر بحنين شبابه البوهيمي في حي مونمارتر بباريس، بينما تصوغ الأخرى حكايتها على وقع تداخل اللحن العبقري بين الساكسفون والكلارينيت والترومبيت والطبل العسكري في موسيقى “بوليرو” البديعة للفرنسي- أيضًا- “موريس رافيل”. ما بين “لابوهيم” و”بوليرو”، كانت الأحداث التي لن أتعرض لتفاصيلها بهذا المقال، تتوالى صاخبة.
مُشتركاتٌ كثيرة جمعت بين الكاتبتين، فانعكست بوضوح في العَمَلين. تتمع كل منهما بثقافة فرنسية رفيعة، حيث تقوم أولاهما بتدريس الأدب الفرنسي بالجامعة، وتهيم الأخرى بأشعار شارل بودلير، وبول إيلوار، ولوي أراجون. الترحال والاغتراب خارج وداخل الوطن جمعا بينهما، فألقيا بأثرٍ في تشكيل شخصية كلٍ منهما، ما تبدى بجلاء في السرد البديع. بطلا الروايتين كانا الأبوين، وإن بدا حضور، أو فلنقل غياب، كل منهما مختلف، فكلاهما كان غائبًا لفتراتٍ في لحظات هامة بتاريخ البلاد. كان الرجلان يناضلان كلٌ على طريقته نضالًا، تتشرف به الكاتبتان والمجتمع برمته، واحد بساحات المعارك الحربية مُدافِعًا بالسلاح عن استقلال الوطن، والآخر خلف القضبان مُدافِعًا بالكلمة عن حرية الوطن وحقوق عماله.
هكذا كتبت هالة فودة “في قلبي رضا”، وهكذا كتبت نولة درويش “وأجمل الذكريات ستأتي حتما”، أو هكذا فهمت.
*مقالا “في الأدب الواقعي” و”من أجل أدبٍ واقعي” للمرحوم الدكتور عبد العظيم أنيس من كتاب “في الثقافة المصرية”- الطبعة الثالثة الصادرة عن دار الثقافة الجديدة في 1989.
**مقال “عبقرية العقاد”- المصدر السابق.