كنت استمع لحوار صديقة وابنتها الشابة التي انفصلت عن زوجها حديثا، كانتا تعبران عن حيرتهما حول أسباب الانفصال الحقيقية، وأين وقعت الأخطاء، وترجحان معا رؤيتهما لنموذج الرجل الأفضل للزواج، قالت الأبنة لوالدتها: اتمنى لو حظيت في تجربة ارتباطي المقبل بزوج كوالدي، له نفس طبيعة علاقته بكِ، يتحمل مسئوليتي، يرعاني ويوفر تكاليف الحياة الكريمة كاملة، البيت الفخم والسيارة، حساب خاص في البنك، وتقديم كل مقومات الحياة دون انتظار أي دعم أو مساعدة من زوجته، أو عملها، أو أهلها.
وأحسب أن نموذج الزوج على هذا النحو قد يبدو مثاليا عند بعض النساء، مريح للمرأة من منظور ورؤية الكثيرات حاليا، لكن ربما ينبغي أن يُطرح السؤال الأهم للنساء أنفسهن: لتتوفر تلك الحياة السهلة للمرأة دون بذل جهد من طرفها، ماذا ستفقد في مقابلها؟ أي في مقابل ما دفع الرجل ووفر ماذا سيأخذ، وكيف ستتحدد رؤيته لها؟ هل لحرياتها وتحديد طبيعة كيانها ونظرته لها علاقة بهذا البذل الذي يقدمه الرجل؟
السؤال الثاني: أعلى هذا النحو فقط، وفي تلك المساحة تعي المرأة ذاتها وأدوارها في المجتمعات الشرقية؟ ولماذا ومتى تم النكوص عن الصحوة التي عاشتها المرأة المصرية منذ ثورة 1919 مع تصاعد وتيرة تحرير المرأة، ثم وصولها لذروتها بدعوة “جمال عبد الناصر” للمرأة بعد ثورة 1952 لمشاركة الرجل في بناء الوطن الحديث؟ ثم هل هناك وعي بمفهوم الشراكة والتوازن في العلاقة بين المرأة والرجل في ذهن المرأة أو الرجل، أو في ثقافة المجتمع بوجه عام؟
الثالث: كيف نجعل المرأة تعاود التعرف على نفسها في مجتمعاتنا العربية، أي ما هي الكيفية التي تمكننا من جعل المرأة تعاود وعيها بكيانها الإنساني مكتملا، وقدراتها كافة، فالمرأة التي لا تعرف نفسها وامكاناتها الإنسانية تُعد مغيبة عن شعورها بذاتها، تتلبسها صورة أخرى تغربها عن حقيقتها، فتصبح تلك الصورة موشومة بروح الآخرين، أولئك الذين يفرضون ويحددون مساحة تواجدها ضمن ثقافة طالما عدتها مجرد كيان يستدعي الشهوة ويحفز الغرائز، جسد للمتعة، والإنجاب، وخدمة الرجل، ثقافة خططت لامتلاكها وتحديد قدراتها بطرق مراوغة، تدعي التكريم لكيانها وهي في الواقع تنتقص من حقوقها وحرياتها.
ولقد تمت تلك المأساة على مراحل ممتدة ومتكاتفة بصور شتى، فأصبحت المرأة تعي نفسها ضمن النسق الثقافي الذكوري المهيمن وليس شخصها وإرادتها المتحررة، فكما يذكر “هيجل” عن وعي الإنسان بذاته بصفة عامة أنه يعي قدراته واحتياجاته وفق مراحل، ويدرك ما يستطيع انجازه تباعا فيحقق ذاته ويسعد بها.
لعلنا نتذكر معا زمن نشأة جماعة الإخوان المسلمين منذ 1928، وما روجت له من أفكار حول مكان المرأة الطبيعي، ومحاربة فكر وتوجهات النهضة الحديثة فيما يخص المرأة، لن ننسى أيضا أثر المد السلفي الوهابي الذي سيطر على أذهان المصريين وخاصة بعد هزيمة 1967، واهتزاز الشعور بخصوصية الهوية المصرية، والشك في مقومات نهضتها، وتبخر نموذجها الثقافي بعد النكسة وضعفه، وأيضا عودة المصريين من تلك البلدان بمظهر وعادات تتسق مع ثقافة قد فرضت عليهم تحت وطأة البترودولار. كما علينا ألا نغفل طبيعة الخطاب الديني الرجعي الذي انطلق وتعددت مصادره منذ أن ترك السادات للجماعات الإسلامية ساحات الجامعات والمنابر لتملأ أذهان وآذان المجتمع بخطابات أصولية متخلفة حول النساء.
ووفق تراكم تلك الخطابات التي تحمل خاتم المقدس، واجتهادات السلف، لكنها في الواقع لا تحمل أي منطق أو استساغة عقلية ظلت المرأة لا تملك الوعي بنفسها، لا تدرك امكاناتها الإنسانية الشاملة، وما تستطيع فعله في مجالات الحياة المختلفة، وقدراتها كافة، ستظل بحسب خطاباتهم منتهكة الحقوق، ومستضعفة، تكرموا عليها وأقنعوها أن تحمد خالقها أنها تحيا تحت حماية وعطاءات الرجل، فهي مصدر الفتنة والشرور، وعليها أن تحتجب ببيتها لحين موتها وخروجها للقبر، فأصبح عيشها فاقد لمقومات الحياة الإنسانية الحقيقية التي تسعى للحرية والمعرفة والتميز. وانحسر تيار تحرر المرأة وشعورها بحقوقها الإنسانية الطبيعية.
يتكون الوعي بالذات بعدة أشكال، وفي مراحل مختلفة من العمر، ويسعى الإنسان من خلاله إلى التحقق، وإثبات الوجود، والمعرفة بكل أنواعها، كما يسعى إلى التحرر.
ويترجم (كارل ماركس) مجردات (هيجل) الفكرية برؤيته التي يرد فيها: إن على الإنسان أن يعبر عن نفسه بأشياء محسوسة في طريقة عملية، فعملك ومنتجك وأفكارك، اعتمادك الاقتصادي على ذاتك يشعرك بالتحقق، بالفخر واللذة، والانتماء إلى طبيعتك وقدرات ذاتك ونفسك.
فالتحقق إذن يتم في ذاتك قبل التحقق من خلال الآخرين، أي قبل الزوج والأولاد، وهو أول الطريق إلى معرفتك بنفسك، وفخرك بها، وهو أيضا أول الطريق لمقاومة الإهانات والحط من الشأن في الخطابات السائدة، ومواجهة الظلم والافتراءات التي وضعوها وصدقوها مع الوقت. فليس من الطبيعي أن يعيش نصف المجتمع وهو تابع فقط، وتتعطل قدراته تحت تلك الدعاوى.
فلو لاحظنا ورصدنا لترسانة من المقولات والأوصاف التي تلصقها الثقافة الأبوية الذكورية بالنساء ومعظمها يضعها في مساحة أدنى إنسانيا وأقل قدرات من الرجل لعرفنا الطقس العام الذي تشبعت النساء به عن ذواتهن التي غيبت عنهن، بل صدقته وهو ما يجب مواجهته وتفنيده علميا.
لو لم تع المرأة قدراتها على الإسهام في الشأن العلمي، والفكري، والإبداع في الفنون كلها، وأن قدراتها ومقومات طبيعتها الإنسانية لا تقتصر على الزواج وتربية الأطفال وأعمال البيت والطهي، ستظل المرأة مشردة بين إرادات الرجال الاستحواذية، وما وضعوه من قوانين وأعراف اجتماعية تحط من شأنها، وتحجبها وتعتم على قدراتها وما تستطيعه، وتقلص ما تمتلكه ماديا لصالح مكاسب يحظون بها في الحياة الدنيا، ومكتسبات في الآخرة أيضا، حيث ظلت فيها النساء من أدوات ووسائل تكريم الرجل، لعلنا نلحظ أن الرجال قد استحوذوا على الدنيا والآخرة في كل النصوص والخطابات التي تشكل الثقافة العربية الإسلامية.
فــ “نحن لا نولد نساءً، لكن نصبح كذلك” كما تصف سيمون دي بوفوار في كتابها “الجنس الآخر” النص التأسيسي للنسوية المعاصرة، والذي يقدم تحليل مفصل حول اضطهاد المرأة، وتحويل المجتمع للنساء من إنسان إلى امرأة فقط، أي إلى آخر.
لا تتفق “دي بوفوار” مع رأي فرويد ولا آخرين يرون أن المعطيات البيولوجية هي السبب الذي جعل من النساء جنسا آخر وتسببت في اضطهاده.
كان المجتمع الإنساني أمومي، ثم تدرجت المراحل الزمنية حتى تحكمت السيطرة الأبوية القائمة على الملكية الفردية، وأصبحت المرأة تابعة للرجل، باعتبارها ملكه الخاص بصور شتى مقنعة.
تُربى الفتاة التابعة لأسرتها لتصبح امرأة، ثم زوجة تابعة لزوجها وخاضعة له، ثم أما تابعة لأبنها أحيانا، بحيث تجد نفسها في محصلة الحياة جنسا آخر وتحت الوصاية، لا وجود له دون الرجل، الكيان المستقل الذي يخضعها لرغباته مهما بدا الأمر أنها من تختار وتملك، فالرجل هو من يمسك بزمام المبادرة والفعل، ليصبح عالم المرأة رعاية شئون المنزل والأولاد وزوجها، حتى في حال النساء العاملات اللواتي يشاركن في دخل الأسر يظل لا قرار لهن، ويتوقف تسيير أمور الأسرة على الرجل العاطل أحيانا، وهو ما يعكس تغلغل ثقافة تبعية المرأة للرجل رغم أنها في حالات كثيرة هي من تعول الأسرة.
ما حدث في الواقع أن المرأة قد رضخت وجعلت من نفسها آخر تابعا، رضيت بمصيرها أو اضطرت له، ثم دجنت وتم تأميمها فأصبحت متاعا للرجل، استسلمت للمجتمع وقيمه، كما لم تحاول التمرد ولا الخروج من عباءة الرجل خوفا من هجره لها إذ أقنعوها أن تركه انهيار للجدران والحوائط من حولها، وكأنها ينبغي أن تسير في ظل جدار دائم، وحفاظا على مؤسسة تنحصر خشيتها فيها على أولادها، وتخوفا من نظرة المجتمع ووصمها بالناشز في الثقافة العربية.
يرصد حديثي بالطبع للقاعدة العريضة من النساء، من يشكلن الظواهر العامة في المجتمع، أما النماذج التي رفضت هذا التقسيم الظالم فعادة ما تنفصل عن النسق العام، وتحارب معاركها لحالها.
لم تعد غالبية النساء يؤمن بتحررهن في المحصلة العامة للطابع الثقافي، فترى المرأة أن حدود الحرية التي وهبها لها الرجل والمجتمع هي حريتها المنشودة والمتاحة، وإن ظلت قابعة في المنزل، ففيه مجال حريتها، ويصورونه لها بأنه مملكتها، لكنها تظل ملكة تملك لكنها لا تحكم، كما لا تعمل بالرغم من تعلّمها، يحدد الرجل بحسب نسقه الثقافي عملها من عدمه، مظهرها: محجبة أو منقبة، أو أن جميع ما فيها عورة كما تعتقد بعض التيارات الدينية، وتظل له المرجعية في كل شيء.
كما ترى المرأة ضمن هذا النسق أن أي مطالبة بحريات أخرى هي مجرد انحلال أخلاقي من الأخريات اللائي يتشبهن بنساء الغرب، كما أنه لا ضير من أن تُحرم من الميراث أو تأخذ النصف فقط، أو أن يقترن زوجها بأربعة، وأن تكون شهادتها منتقصة عن شهادة الرجل، أقنعوها بأن تكون ضد نفسها وطبيعتها الإنسانية، حيث الطبيعي أن تكون إنسانا مساويا للرجل في حقوقه وواجباته: ترغب في ميراث كامل، ترغب في التحقق كإنسان عامل ومنتج قادر على النجاح بنفسه ولنفسه، ثم بجوار وضمن أسرتها، ترغب دون شك في الانفراد بزوجها، لقد وصل الأمر أن مجموعات من النساء تدعو لتعدد الزوجات في بعض منصات التواصل الاجتماعي التابعة للسلفيين، ويبررن هذا بطبيعة الرجل واحتياجه للتعدد، وصونا للمجتمع.
دُجنت المرأة إلى أن صارت بلا إنسانية، مالا يعترف به نسقنا الثقافي أيضا أن المهام التي أسندوها للنساء لم تولد وهي مكتوبة على جبين كل امرأة، بل أن قيام الرجل والمرأة بتربية الأطفال معا، وأعمال البيت والطهي في شراكة الزواج تضفي نوعا من الاتصال في علاقتهما، وتجعل بينهما أوقاتا مشتركة قد توطد علاقتهما، كما أن مشاركة الرجل والمرأة معا في تربية الأطفال تتركهم أكثر سواءً نفسيا، كما أن تحقق المرأة في أحد المجالات العلمية أو الفكرية أو الإبداعية أو المهنية يجعلها أكثر نجاحا، متحققة، لا تشعر بالغبن وهو ما يعكس سعادتها على كل أفراد الأسرة. ونستكمل المقال القادم لنحلل معا دلالات خطاب ألقته “ميجان ماركل” زوجة الأمير هاري حفيد الملكة إليزابيث عن تأثير الميديا في تكوين صورة المرأة عن نفسها.