من حكومة سعد زغلول في يناير 1924، حتى الحكومة الحالية في 2024 م، مائة عام من الحكم الدستوري الحديث، دساتير مأخوذة- في مجملها- من أرقى دساتير الديمقراطيات الغربية، ورغم هذا فإن الواقع السياسي طوال المائة عام، لم يعرف حكماً دستورياً حقيقياً، أي لم يطبق الفكرة الأساسية للحكم الدستوري، وهي أن الشعب- وليس الحكام- مصدر السلطات، وأن إرادة الشعب تعلو فوق إرادة الحاكم، وليست كلمة الحاكم تعلو فوق كلمة الشعب.

في المائة عام تداول على حكم مصر ملكان من سلالة محمد علي باشا، ثم عدة رؤساء من ضباط جيش الباشا، لا فرق- في الجوهر- بين الملوك والرؤساء من زاوية الحنين العميق؛ لممارسة الطغيان كحق أصيل للحاكم، لا تكتمل ذاتيته السياسية إلا بممارسته، ثم بالإكثار منه.

كفاح المصريين من أجل الحكم الدستوري سابق على دستور 1923م، بقريب من نصف قرن، منذ أعلنت مصر إفلاسها عند مطلع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهذا معناه، أننا بصدد كفاح دائم ومستمر على مدى قرن ونصف قرن من الزمان، كفاح بدأه المصريون بالثورة العرابية، ثم كانت المكافأة عليه احتلالاً عسكرياً بريطانياً، دام ثلاثة أرباع قرن، ثم عادوا، و استأنفوا كفاحهم مع ثورة 1919م، وكانت المكافأة استقلالاً شكلياً اسمياً صورياً على الورق فقط، ثم ديمقراطية مشوهة متعثرة في حكم دستوري مضطرب المسار، ثم جاء ضباط 23 يوليو 1952م، فأسسوا ديكتاتورية فاقت كل ما قبلها، وزادت عليه الكثير، ديكتاتورية أرهقت حتى أنهكت مصر على مدى عشرين عاماً من 1954م، حيث انتصر الضباط على كافة القوى الديمقراطية، حتى عام 1974م، حيث فك الاشتباك الأول بين القوات المصرية والإسرائيلية على جبهات القتال، وحيث بدأت سياسات اقتصادية واجتماعية، نقيض لما كانت عليه البلاد في العقدين السابقين على ذلك التاريخ، في هذين العقدين من الزمن 1954- 1974م، لم يكن التحول الحاد في السياسات هو الإنهاك الأول للبلاد، بل سبقته موجات من التحولات والتقلبات غير المدروسة، كان أخطرها استنزاف اقتصاد البلاد على مدى ست سنواتـ، في مستنقعات الحرب الأهلية اليمنية، والتي كان من حصادها الهزيمة المروعة في 5 يونيو 1967م، ثم كان من حصادها، أن فُرض على البلد أن تحشد، وتوفر كل طاقاتها على مدى سبع سنوات متواصلة؛ استعداداً لحرب أكتوبر المجيدة 1973م، استنزاف شامل وكامل لمقدرات البلد من 1962- 1974م .

وباستثناء السد العالي وحرب أكتوبر المجيدة، فإن العشرين عاماً الأولى من حكم ضباط الجيش قد نزلت بمصر إلى منحنى الانحدار الشامل، الذي لم يتوقف على مدى الخمسين عاماً اللاحقة من 1974، حتى 2024م، انحدار يقود إلى انحدار، ما عليك إلا أن تقارن مستوى التعليم في مصر، بما هو عليه الآن في 2024 م، بمستوى التعليم قبل خمسين عاماً في 1974م، ثم بمستوى التعليم قبل مائة عام 1924م، وقس على ذلك أي مجال آخر، وقارن بين مستواه الحالي، وبين ما كان عليه قبل خمسين عاماً، ثم ما كان عليه قبل مائة عام، جمع حكم الضباط بين آفتين: آفة الديكتاتورية، وآفة عدم الكفاءة، جاءوا للحكم ومصر تقدم المساعدات للأشقاء العرب، ثم- تحت حكمهم- أصبحت مصر تتلقى المساعدات والنجدات والاغاثات من الأشقاء العرب، جاؤوا إلى حكم مصر وهي الأولى- دون منافس- في الشرق الأوسط وإفريقيا، أي كانت دولة نموذجا، ثم أصبحت دولة غير ذات إشعاع حضاري لمن حولها، دولة مسبوقة، ليست دولة سابقة لغيرها في أي مجال جاد.

ثم جاءت ثورة 25 يناير 2011 م على نحو فريد جداً، فهي ذات فرادة تنفرد بها عن كل ما سبقها من ثورات المصريين، وجه هذا التفرد، أنها الثورة الوحيد الموجهة بالكامل ضد حكم مصري بالكامل، ثورة ضد حكام مصريين مولودين من آباء وأمهات مصريين آباء عن أجداد، لم تكن ثورة ضد حكام وافدين من الخارج، ولم تكن ثورة ضد احتلال أجنبي، كانت ثورة المصريين ضد ظلمة مصريين، وهذا ما يعطي لثورة 25 يناير 2011 م قيمة مضاعفة في التاريخ، ثم يعطيها قيمة مضاعفة في المستقبل، ثم يجعلها نقطة البداية لمسار القرن الحادي والعشرين بأكمله، سواء ما انقضى منه، وهو القليل أو ما تبقى منه وهو الأكثر.  ثم كانت مكافأة المصريين على ثورتهم الفريدة ديكتاتورية جديدة، ديكتاتورية ما بعد 30 يونيو، وهي امتداد عضوي طبيعي لديكتاتورية ما قبل 25 يناير، مع فارق أن ديكتاتورية ما قبل 25 يناير، كانت أخف وألطف، بينما جاءت ديكتاتورية ما بعد 30 يونيو أشد وأعنف.

…………………………………………………………

السؤال: لماذا الإخفاق على مدار مائة عام 1924- 2024 م في تأسيس حكم دستوري حقيقي؟ لماذا الدساتير من أوروبا، لكن الممارسة شديدة التخلف؟ لماذا ننتقل من طغيان إلى طغيان أشد؟ لماذا تجري عمليات إجهاض مبكر لثورات المصريين؛ من أجل الحرية؟ لماذا تفقد مصر- بالتدريج- إلهامها لشعبها، ثم للشعوب من حولها؟ لماذا تفقد مصر- باستمرار- عناصر الإنارة والاستنارة التي كانت الأسبق إليها في الإقليم كله؟

الكلام في خطر الديكتاتورية، ليس ترفاً فكرياً، كما أن الحرية- بمعنى أن يكون الشعب مصدر السلطات- ليست من نوافل الحياة يستوي وجودها وعدمها، الديكتاتورية منهج في الحكم، يتمتع فيه الحاكم بصلاحيات مطلقة، يدفع ثمنها المحكومون، ربما لعدة أجيال، فضرر الديكتاتورية لا يتوقف على الجيل الحاضر: أخطر ثلاث قرارات ديكتاتورية هي: المسؤولة عما لحق بمصر من هزائم سياسية وعسكرية في المائة وخمسين عاماً الأخيرة، ديون إسماعيل التي استمرت عمليات سدادها، حتى أربعينيات القرن العشرين، ثم قرار الملك فاروق المنفرد بدخول الجيش في حرب 1948م، دون مشورة ولا استعداد ولا تجهيز، ثم قرار الرئيس جمال عبد الناصر بدخول الجيش حرب 1967م، دون دراسة، ودون استعداد ودون تجهيز، عشرون عاماً- بالتقريب- بين قرار الملك فاروق وقرار الرئيس عبد الناصر ولم نتعلم شيئاً ولم يتغير شيء في كيفية صنع أخطر قرار وهو قرار الحرب، فالملك فاروق تصرف كرئيس مستبد، والرئيس عبد الناصر، تصرف كملك طاغية، كلاهما أخذ القرار، ثم على الشعب، أن يدفع الثمن، وهذان القراران عليهما، مدار ما بدأت تتحرك فيه مصر من طريق الانحدار الذي لم يتوقف حتى هذه اللحظة.

إخفاق المائة عام موزع على عهدين، عهد الملكية، ومدتها ثلاثون عاماً، ثم سقطت، ثم عهد الضباط وقد عمر سبعين عاماً، وما زال يتجدد، ما دام تفتقد البلاد لوجود بنية تحتية لماكينة سياسية مدنية. نحن نُكثر من انتقاد ديكتاتورية الضباط، لأنها حاضرة ونحن شهودها، بينما نغفل عن ديكتاتورية الملك فؤاد، الذي تزامن حكمه- بقرار من الإنجليز الذين عينوه، وكان يمكن أن يعينوا غيره، من يشاؤون من ذرية الباشا- تزامن حكمه بالمصادفة مع ثورة المصريين 1919م، ثم تصريح الاستقلال الصوري 28 فبراير 1922م، ثم الدستور 1923م، ثم الانتخابات النيابية، ثم تشكيل أول حكم دستوري برئاسة سعد زغلول يناير 1924م، كان كل ما يشغل الملك فؤاد- في هذه اللحظة الحاسمة من ميلاد الحكم الدستوري- هو إحياء مجد الاستبداد الأصيل الذي أتقنه والده، الخديوي إسماعيل، وأسس بنيانه جده محمد علي باشا، كان الملك فؤاد يرى رسالته في التاريخ، هي أن يكون حفيظاً أميناً مؤتمنا على استبداد أبيه وطغيان جده، ومثلما الجد الأكبر محمد علي باشا أورث ذريته طغيانه ولم يورثهم عبقريته، فكذلك الملك فؤاد ورث نجله الملك فاروق رغبته في إحياء استبداد الجدود، دون أن يورثه ذكاؤه ومناورته، فحكم فاروق خمسة عشر عاماً، لم يوفر دقيقة منها، دون إعاقة الحكم الدستوري، وتمكين حكمه الفردي المطلق، طغيان فؤاد، ثم فاروق هو الرحم الطبيعي، الذي ولد منه طغيان الرؤساء من ضباط الجيش حتى يومنا هذا، مع عدة فوارق بين طغيان الملوك وطغيان الرؤساء:

1 – كان الملك فؤاد ثم فاروق، بحكم الدستور، وبحكم الواقع، ثلث المعادلة السياسية، وليس المعادلة كلها. كان الإنجليز ضلعاً فاعلاً جداً. كان الشعب من خلال حزب الوفد لاعباً مهماً جداً، كلما جرت انتخابات بغير تزوير.

2 – لكن الرئيس، كل رئيس، هو المثلث كله، هو الأضلاع الثلاثة، هو المعادلة كلها، هو من يشكل البرلمانات على مقاسه، وهو من يشكل الحكومات على هواه، يضع القوانين كيف يشاء، يعدل الدساتير حسب مصلحته.

3 – كان سعد زغلول ومصطفى النحاس يستطيعان- بما لديهما من أغلبية برلمانية- الوقوف في وجه طغيان الملك ، كذلك كان الإنجليز- بحكم القوة- ينالون من هيبة الملك، ويحطون من شأنه، متى تطلبت مصالحهم ذلك.

4 – الرؤساء في إعفاء كامل من أي رئيس وزراء، يفتح فمه في حضرتهم أو في غيابهم، الحكومات والبرلمانات من صنع الرؤساء، ومن ثم لا خطر منها على الرؤساء، ثم لا توجد سلطة أجنبية قادرة على المساس بطغيان الرؤساء، وكل ما تستطيعه- عندما تكون لها مصلحة- هو التهديد اللطيف بتخفيض المعونات بهذا المقدار أو ذاك.

………………………………………………………………..

مثلما ديكتاتورية ما بعد 30 يونيو 2013 م، هي الامتداد العضوي الطبيعي لديكتاتورية ما قبل 25 يناير 2011 م، فكذلك ديكتاتورية الضباط 1952- 2024 م، هي امتداد عضوي طبيعي لديكتاتورية الملكين فؤاد، ثم نجله فاروق 1922- 1952، وهذه هي المائة عام من الحكم الدستوري تحت الاستقلال الصوري، أي تحت الاحتلال الفعلي، حتى جلاء آخر جندي إنجليزي عن مصر في 18 يونيو 1956م . الملك فؤاد كان وراء حل أول برلمان منتخب في 1924م، ثم وراء حل ثاني برلمان منتخب في 1925م، وقد حلهما لسبب بسيط: أغلبية وفدية كاسحة، لا يستريح لها ولا يحب التعامل معها، ومن طغيانه أنه حل برلمان 1925م، في أول يوم تشكيله بمجرد أن تيقن أن أغلبيته وفدية. الملك فاروق عين مستشاراً صحفياً في القصر، دون مشورة الحكومة، كما دعا القادة العرب لاجتماع في مزارعه في أنشاص؛ لمناقشة القضية الفلسطينية، دون علم رئيس الحكومة، وكان إسماعيل صدقي، ودون علم وزير الخارجية أحمد لطفي السيد. هذه أمثلة لطغيان الملكين، وهي ديكتاتورية ساذجة مبتدئة، إذا قورنت بطغيان الرؤساء من ضباط الجيش، فإذا كان الملك لا يستطيع التدخل في الانتخابات، ولا في التأثير على الناخبين، وينتظر حتى يتشكل البرلمان من أغلبية معارضة له، ثم يقرر حله في نهاية المطاف، فإن الرؤساء يبدؤون من أول المطاف، ديكتاتورية من المنبع، هم من يوجهون ويأمرون ويهندسون بدقة، كيف يكون تشكيل البرلمانات والحكومات، دون انتظار أي مفاجأة غير سارة. لكن يظل الاتفاق بين الملوك والرؤساء، هو التلاعب بإرادة الشعب وإعاقة الحكم الدستوري، وترسيخ الطغيان الفردي وازدراء الحقوق والحريات العامة لجموع المواطنين.

هذا الاتفاق بين الملوك والرؤساء- وإن اختلفت مقادير الطغيان-هو ما أدى إلى: تقوية البنية التحتية للديكتاتورية في مائة عام عبر وسيلتين: إجهاض الأحزاب الحقيقية المعبرة عن قطاعات واسعة من الشعب، ثم اصطناع كيانات سياسية ورقية صورية، تخدم رغبات الحكم على حساب مصالح الشعب، تفشيل الأحزاب الفعالة واصطناع الأحزاب التافهة، هو ما أفسد الحكم الدستوري في عهدي الملك فؤاد، ثم فاروق، وهو- كذلك- ما أفسدها في عهود الرؤساء من ضباط الجيش.

وقد ترتب على هذا، أنه رغم مرور مائة عام من الحكم بالدساتير 1924- 2024 م، فإن مصر ليس فيها رائحة الحكم الدستوري الحقيقي، وحصاد المائة عام هو: بنية تحتية قوية للديكتاتورية مع بنية هشة ضحلة ضعيفة للديمقراطية.

…………………………………………………….

السؤال: ما دور الشعب ونخبه في حصاد المائة عام؟

هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.