في النظم السياسية المتمدينة، تنشأ الأحزاب السياسية كمؤسسات غير رسمية، معترف بها من قبل الدولة، تتولى بالأساس وظيفة الانتقال، والتداول السلمي للسلطة بين القوى السياسية المختلفة. ولقد عرفت تلك الآلية لأول مرة منذ عقود في النظم السياسية أوروبا، وانتقلت منها إلى بلدان العالم المختلفة، كوسيلة رئيسة من وسائل التحديث السياسي. في الولايات المتحدة، وعلى الرغم من وجود تلك الآلية، إلا أن الأحزاب لا تظهر في الصورة إلا كل انتخابات رئاسية أو انتخابات، تخص الكونجرس بمجلسيه على المستويين القومي أو على مستوى الولايات، لأن الفاعل الرئيس في النظام السياسي الأمريكي هو جماعات الضغط التي تقود المشهد في معظم الوقت. ورغم ذلك ظلت الأحزاب السياسية على مستوى العالم بأسره، هي الرقم الصعب والحكم في التنافس في الانتخابات العامة (الرئاسية والبرلمانية)، والجهوية (الأقاليم والبلديات والمحليات)، رغم وجود كيانات شبه موازية، تلعب أدوار سياسية كالاتحاد الاشتراكية والماركسية والنقابات العمالية وتنظيمات الإسلام السياسي وجماعات البيئة وغيرها.

وقد احتلت الأحزاب تلك المكانة المرموقة في النظم السياسية التي تسير في إطار المقرطة، أو الانتقال والتحول الديمقراطي أو ما يسمى أحيانا نظم التعددية المقيدة، وجميعها أوصاف لنظم سياسية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وهي نظم متباينة الدرجة من حيث جدية التحول. بل أنه تم نقل تجربة التعدد الحزبي إلى تلك النظم الحديثة للتعبير عن التحديث السياسي المتعجل، أو المحاكي للنظم السياسية الاستعمارية، وتم النقل أو المحاكاة في معظم الأحيان عبر إسباغ الخصائص المحلية في تلك البلدان المستقلة حديثا على تلك المؤسسات المنقولة، فسيرنا نسمع عن الحزب القائد أو الحزب المهيمن أو كارزما الأحزاب المرتبطة عادة بأشخاص وزعماء.

ضمن تلك التجربة في العالم النامي، كان من السهولة بمكان للباحث، أن يقارن بين بلدان التحول الديمقراطي البطيء ومحدود الأثر، كما في وضع بلدان كمصر وتونس من ناحية ووضع بلدان ككوريا الجنوبية وإندونيسيا والبرازيل، حيث شهدت الأخيرة قفزات واسعة الأثر في مسألة التحول الديمقراطي. واحد من أهم الأمور التي أثرت على الأحزاب السياسية في تلك البلدان، هو طبيعة وشكل النظام الحزبي، من حيث درجة التعدد ووجود حزب قائد أو مهيمن أو عدم وجود هذا الحزب. أيضا، مكانة المؤسسات الرسمية للدولة، ومدى طغيانها على الحياة السياسية، ويقصد هنا تحديدًا مكانة الجيش في العملية السياسية، لكونه مؤسسة مهمة، لعبت دورا– بغض النظر عن حجمه- في عملية نيل الاستقلال عن الاستعمار في تلك البلدان. وكذلك، دور القائد أو الكارزما (الحقيقية وغالبا المصطنعة) في التأثير السلبي عادة على مكانة، ووضع الأحزاب السياسية في النظام السياسي.

في بلدان العالم النامي، لا شك أن التجربة الحزبية بسبب النقل الحرفي في معظم الأحيان في تلك البلدان، وبسبب عدم تعبيرها عن البيئة التي نشأت فيها، كما حدث في أوروبا، قابلتها عديد المصاعب التي أثرت على غالبيتها ولا زالت، حتى في نظم التحول الديمقراطي، ما جعل الأحزاب السياسية في تلك البلدان معبرة عن تجربة لم تكتمل.

مصر لا شك واحدة من تلك البلدان التي انتقلت إليها تلك تجربة الأحزاب، وتم ذلك على ثلاث مراحل، كان أولها عام 1907، وكان ثانيها عام 1923، وكان آخرها التجربة الثالثة (الحالية) التي أتت عند تأسيس الأحزاب في 11نوفمبر 1976.

من أبرز المصاعب التي ألمت بتجربة الأحزاب كوسيلة للتداول السلمي للسلطة في مصر وغيرها من بلدان العالم النامي، هي ضعف وترهل البناء التنظيمي والمؤسسي للأحزاب السياسية، ما جعلها تنظيمات مفتقدة للاستمرار والبقاء، بسبب افتقاد الخصائص الأربع الرئيسة للمؤسسة، وهي التكيف، والتعقيد، والاستقلال، والتماسك، كما حددها عالم السياسية الأبرز في سبعينات القرن العشرين صمويل هنتجتون.

افتقاد تلك الخصائص جعل من الأحزاب السياسية كيانات ورقية ومجرد أشكال، يتمسح بها الحكام في بلدان العالم الثالث لإظهار الحداثة والتطور السياسي والتنمية السياسية، وهي براءة من كل ذلك. من هنا ظهرت الأحزاب الجماهيرية التي تنشأ من القمة إلى القاع، وتبحث عن الجمهور بعد التأسيس، أو أنها تفقد جماهيريتها التي كانت تحاط بها، عندما قادت بعض تلك الأحزاب عجلة الاستقلال عن الاستعمار. المهم أن تلك الأحزاب في أغلب الأحيان سارت اليوم، تبحث عن جماهير، وعن امتدادات مفقودة في الشارع، حيث افتقدت كل ذلك.

واحد من أبرز الأمور التي ساعدت الأحزاب السياسية على سرعة الانهيار، أو التواجد ككيانات ورقية في أغلب الأحوال، كما في الحالة المصرية، هي افتقاد البناء الديمقراطي كآلية عمل وإطار لصنع القرار الحزبي، وكذلك العمل وفق المنطق السلطوي في تولي القيادة لمناصبها داخل الأحزاب. أيضا من الأمور التي شكلت عقبة أمام تطور تلك الأحزاب، هي أنها أصبحت كيانات مفتقدة للوظيفة الرئيسة لها كأدوات للتجنيد السياسي، ما جعل كافة القيادات والمواقع السياسية في الدولة تتشكل من خارجها. إضافة إلى كل ذلك، فإن افتقاد تلك الأحزاب للتمويل؛ بسبب عجز العضوية في غالبيتها، جعلها تفتقد لأي آلية للحركة، ما أدى لوجودها كيانات مفتقدة لأي امتداد جغرافي، بمعنى تمركز عملها في العاصمة دون المحليات أو المحافظات المختلفة.

من الأمور الأخرى المهمة، أن الأحزاب السياسية بقاؤها – كما في معظم الأحزاب المصرية- ككيانات لا علاقة لها بالحكم الرشيد، أو الحوكمة، ما جعل غالبيتها، تفتقد لوجود نظم محاسبة مالية، ما أدى لاستشراء الفساد داخلها، وقد كان هذا الأمر هو العامل الرئيس الذي أسفر عن افتقاد الثقة بينها وبين المواطن، الذي بات يراها كدولة صغيرة داخل الدولة من حيث السلطوية التي تدار بها وتغول نمط القيادة.

على أن أبرز ما تعاني منه الأحزاب فوق ما تكابده من مشاكل من داخلها، هو المشاكل من خارجها. ضمن تلك المشكلات الحرب الضروس التي تقابلها الأحزاب من النظم السياسية الكائنة بها. خذ على سبيل المثال القيود على حرية عمل تلك الأحزاب في الشارع التي عانت ولا زالت تعاني منها الأحزاب المصرية، وذلك بسبب الحكم بالمراسيم والطوارئ لسنوات طويلة خلت، ثم تغلغل الأمن داخلها، ما جعلها مؤسسات تدار بالفتن والدسائس والتقارير، عندما كانت تعمل بجد في السابق. خذ أيضا تعمد افتقاد تلك الأحزاب لجماهيريتها عبر نظم انتخابية أغلبية شائهة، صحيح أن النظم الانتخابية في أوروبا معظمها اليوم نظم أغلبية، لكن تلك النظم أتت، بعد أن مضت تلك البلدان لعقود طويلة، تعمل في ظل نظم انتخابية نسبية ساهمت في تحزب غالبية السكان والخلاص من نمط الاستقلال الذي تعاني منه الشعوب في معظم بلدان العالم الثالث اليوم (يقدر البعض نسبة الاستقلال اليوم في مصر، بأنها تفوق الـ97% من عدد السكان المؤهلين للعمل السياسي الحزبي).

من أهم الأمور التي يمكن للنظام السياسي المصري القيام بها للدخول بالأحزاب المصرية لغرفة الإفاقة من الغفوة الطويلة التي تمر بها اليوم، هو الخلاص من كافة تلك المثالب. لكن السؤال: هل هناك إمكانية لذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال من المهم التأكيد، أن أهم ما يفضي للإجهاز على الأحزاب المصرية تماما، هو خلق كيانات موازية لها، تحل محلها وتعمل عملها. في الأيام القليلة الماضية، شهدنا ما يسمى تأسيس تحالف القبائل العربية، وهذا الكيان رغم أن الدستور في المادتين 75 و76 يبيحه، باعتباره ضمن الكيانات التي يحق للمواطنين تأسيسها، إلا أن السؤال الأكثر وجاهه: ألم يكن للنظام السياسي المصري من باب أولى، أن يدعم الأحزاب السياسية القائمة، ويخرجها من حال الموات التي كانت أحد مؤشرات موت السياسة في مصر اليوم؟ ألم يكن له من الأولى تنفيذ مخرجات الحوار الوطني الخاصة بالأحزاب السياسية بغية إنعاش التجربة الحزبية الراهنة؟

وجود كيانات موازية في ظل وجود أحزاب غائبة عن المشهد السياسي، لا يعتقد أنه المسلك الصحيح، خاصة في حال كون تلك الكيانات لها طابع جغرافي، وينعتها البعض (وهو ما لم يثبت بعد) بأوصاف وأمور سيكون الزمن هو المحك الرئيس لمدى صدقها، وهى أنها ربما تصبح أدوات تمتلك سلاحا، وهو أمر خطير حتى لو كان تحت ذريعة محاربة الإرهاب، لا سيما وأن الجيش في مصر نجح بشكل متميز في عدم إغراق البلاد في مخطط عدم الاستقرار.

أن الولوج لإنقاذ الأحزاب المصرية يعتقد أنه في تلك المرحلة أولى من أي شيء آخر في كافة الأمور المتعلقة بالتحديث السياسي، لا سيما، وإننا في العام 2030 مقبلون على انتخابات رئاسية جديدة، مطلوب فيها – حسبما ينص الدستور- وجود دماء جديدة، لا يعتقد أن أي اتحادات جغرافية وحدها قادرة على توفيرها.