لم أجد نفسي مُهتمًا بإحصاءات، يُغرم بها الكثيرون، حول عدد الجامعات الأمريكية والأوروبية التي انتفض طلابها لدعم القضية الفلسطينية، ورفض ما يتعرض له الأشقاء بغزة من جرائم الإبادة الجماعية على يدي سفاح تل أبيب وحلفائه المتطرفين، بقَدْرِ ما كان اهتمامي الأكبر مُنصَبًّا على “الكيف” الذي يمثله التغيير الثقافي اللافت في موقف الأجيال الجديدة من الصراع العربي الصهيوني، الذي كانت حرب الإبادة الجماعية في غزة، قد مَثَلت ذروته في إطار تطور مسار تاريخي طويل لا مَهرب منه. من أجل ألا نكون بلا تأثيرٍ في معادلة الصراع الذي يخصنا بالأساس، فلا بد لنا من بذل الجهد؛ لتفسير موقف الأجيال الجديدة بأمريكا وأوروبا، والذي ترجمته الشعارات الهامة التي رفعها الطلاب في الاعتصامات، بغرض فهم كيفية تنامي التناقض بين ما نشأ عليه هؤلاء الطلاب من قِيَّمٍ من ناحية، وبين ردود أفعال حكومات شعوبهم المُعاكِسة لتلك القيم وسط مشاهد الدم، وقصف البيوت والمستشفيات ودور العبادة بلا رحمة من ناحية أخرى.
اقرا أيضا
بين إبريلين.. الاحتجاجات الطلابية الأمريكية والقمع البوليسي.. “المكارثية” تعود من جديد
فكما كان الأمر صعبًا في تسويغ، أن أهدافًا كاتخاذ الإجراءات العاجلة لمكافحة تغير المناخ، وآثاره من خلال تنظيم الانبعاثات وتعزيز التطورات في مجال الطاقة المتجددة، وحفظ المحيطات والبحار والموارد البحرية، واستخدامها على نحو يحقق التنمية المستدامة، وحماية النظم الإيكولوجية البرية وترميمها وتعزيز استخدامها على نحو مستدام، وإدارة الغابات على نحو مستدام، ومكافحة التصحر، ووقف تدهور الأراضي وعكس مساره، ووقف فقدان التنوع البيولوجي. فكما كان الأمر صعبًا في تسويغ مثل هذه الأهداف في ظل ممارسات، تهدرها بمنتهى الصفاقة والوضوح، يكون تسويغ أفكار حقوق الإنسان والمساواة والعدل، ونبذ خطاب الكراهية ومحاربة الإرهاب، أمرًا شديد الصعوبة على الحكومات الأمريكية والأوروبية، بينما هي تدعم جرائم الإبادة الجماعية بغزة. هنا ينشأ التناقض من رحم النفاق، ليؤول دون سيطرة من أي من تلك الحكومات في إطار التطور التاريخي للأشياء، إلى مستوى من مستويات التراكم الكمي الذي يفضي إلى تغيير نوعي، ينتهي بتركيب جديد.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى ملاحظة هامة، فعادة ما يأتي الإصرار على تأكيد وسائل النفاق بنتائج تزكي تنامي التناقض، وتساعد التاريخ اللئيم في دفع عجلة تطوره للأمام، ولعل أكثر الأمثلة دلالة على ذلك هو إصرار نواب لجنة التعليم بالكونجرس الأمريكي في جلسة الاستماع للدكتورة مينوش (نعمات شفيق سابقُا) على التأكيد، على أن شعارات دعم حرية فلسطين التي أطلقها طلاب جامعة كولومبيا، كانت من قبيل معاداة السامية، ما دفع بطلاب الجامعات الأمريكية والأوروبية إلى تجاوز التفكير في ضِيْقِ انطباق الشعار على الهتافات إلى رَحْبِ البحث العلمي في ماهية السامية، ومدى قداستها من الأساس، وهو أمر عظيم الشأن وضروري للغاية في مسار التغيير النوعي؛ تمهيدًا لتركيب جديد. هل يصمد الشعار الصنم في مواجهة فكرٍ ناقد حقيقي لا تمييز فيه؟ يتوقف الرد على هذا السؤال بالأساس على ردود فعلنا كطرف في معادلة الصراع من خلال النأي عن وصفه بكونه صراع ديني، حيث يُشَكِل مثل هذا المفهوم عن الصراع، المنبع الأصيل الذي تستمد الصهيونية جوهر وجودها منه، فتستخدمه في تقديم خطاب المظلومية التاريخي الذي يفتقر إلى أي أصل علمي.
التركيز- إذن- على ما توصل إليه العلم من حقائق في التعاطي مع عناصر الصراع العربي الصهيوني في سياق التطور التاريخي ومحطته الأخيرة، هو سبيل الخروج ولا غير. فالطلاب الذين وصلت بهم وسائل العلم الحديث إلى مستويات غير مسبوقة، وقد تأكد لديهم التناقض الذي لا يجوز لنا التقصير في البناء على عناصره، لم تعد تهويمات الأساطير الصهيونية وخرافاتها التاريخية تعنيهم في شيء، ما يهمهم فقط هو حق إنسان هذا العصر في الحياة الحرة الكريمة، دون تمييز من دينٍ أو عِرقٍ أو لغةٍ أو لون. وبالتالي فإن استمرار بعض فصائل المقاومة الفلسطينية في تديين الصراع من خلال استخدام خطابٍ موغِل في السلفية، يرفع شعارات ماضوية، هو أمر لا يخدم سوى الصهيونية التي تتغذى عليه، فيمنحها مبررات للاستمرار في تطرفها، ويهدر كل المكاسب التي اقتنصتها القضية الفلسطينية من جهة التعاطف الشعبي العالمي معها، والتي تحققت على حساب دماء الأبرياء من أهل غزة. لم تعد الوحدة الوطنية الفلسطينية من قبيل الرفاهية الثقافوية، بل صارت حتمًا واجبًا يقتضيه واقع الحال والأمل بمستقبل أفضل في ظل، ما يطرحه الحراك الطلابي الجاري من تناقضات، ترسخ تراكمًا كميًا، وتبشر بتغير كيفي، يُكَرِس مسار التطور التاريخي، ما يستدعي أهمية التوافق على برنامج وطني علماني لا مجال فيه للتخوين أو للتكفير، يجمع الفصائل كلها دون السماح لأي قوة إقليمية باستلاب القرار الفلسطيني؛ لتحقيق مصالحها الذاتية، وهذا لن يتحقق سوى، بما أنصح به دومًا من أهمية انخراط فصائل المقاومة المسلحة ضمن منظمة التحرير الفلسطينية، كونها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.