“قصة حياة البابا الراحل قصة مثيرة وتستحق التسجيل”.. البابا شنودة الثالث لا يُشير إلى فترة ما قبل الرهبنة إلا بمرور عابر.. هكذا سجّل رجب البنا، الكاتب الصحفي الكبير، في مقدمة كتابه :”الأقباط في مصر والمهجر”.
“نحن نعطي الله فضلات القلب والوقت، والله يريد الوقت كله.. والقلب كله”.. هكذا اكتشف في نفسه شعورًا غريبًا.
كثيرون يسألون: من أي أسرة خرج هذا الرجل، شديد الذكاء، صاحب القدرات والمواهب المتعددة، الذي يتمتع بقوة الشخصية، والقدرة على القيادة والتأثير في الناس؟.. وما هي الخبرات والتجارب التي مر بها وكونّت هذه الشخصية؟
نظير جيد.. الإنسان
أول مفاجأة أن نظير جيد، أو البابا شنودة فيما بعد، لم ينشأ في أسرة فقيرة، بل بالعكس كان من أسرة من أثرياء الصعيد.
ورث والده جيد روفائيل 120 فدانًا في قرية سلام مركز أسيوط، وكان جده لأبيه عمدة القرية يملك 500 فدان من أجود أراضي الصعيد.
“قصة حياة البابا الراحل قصة مثيرة وتستحق التسجيل”
وكانت والدته بلسم جاد، من أبنوب الحمام، تملك أرضًا ورثتها عن والديها تزيد على 30 فدانًا.
وبالمقاييس التي كانت سائدة في أوائل القرن الماضي، من كان يملك كل هذه المساحة من أجود الأراضي الزراعية في الصعيد كان يعتبر من الطبقة البرجوازية في ذلك الوقت.
“لم أكن أعاني الفقر في طفولتي.. ولكنيّ ظللت أشعر بشعور الفقراء في كل مراحل حياتي”.. يقول البابا شنودة- في أحاديث صحفية.
موت وحياة
قبل 97 عامًا، وتحديدًتا يوم 2 أغسطس 1923، كانت لحظة ميلاد نظير جيد- البابا شنودة الثالث- صاحب لقب “الأب الراعي”، فلم تكد الفرحة تملأ البيت، حتى أصيبت الأم بحمى النفاس، ورحلت فجأة دون أن ترضع طفلها.
“لحظة وصولي إلى الحياة مقرونة بالحرمان من نهر الحب الذي يرتوي منه الأبناء في طفولتهم”.
“حنان الأم الذي فقدته من اللحظة الأولى وجدته في كثيرات من المسيحيات والمسلمات!”
يحكي البابا شنودة عن ذلك، أن أسرته انشغلت بحادثة موت أمه أكثر من انشغالها بميلاده، حتى أن أحدًا لم يتذكر أن يسجل المولود في سجل المواليد، ولذلك لم تكن له شهادة ميلاد، مما سبب له مشاكل في المدارس إلى أن تم قيده من “سواقط القيد” بعد سنوات طويلة.
أول مرضعة للبابا مُسلمة
وحين استرد أهل البيت أنفاسهم كان شاغلهم هو: من يرضع الطفل الصغير؟.. وبعدها بحثوا له عن اسم فاختاروا أن يكون اسمه “نظير”.. نظير جيد.. وكانت أول سيدة ترضعه إحدى الجارات المسلمات شاركت في العزاء.. وحملت الطفل بينما كان الجميع في دوامة الحزن والمفأجاة.
يقول البابا: كانت في بيتنا مكتبة كبيرة، وكان والدي مدمنًا للقراءة، وتأثرت به
“حنان الأم الذي فقدته من اللحظة الأولى وجدته في كثيرات من المسيحيات والمسلمات!”.. يتذكر البابا شنودة، مضيفًا “بعد ذلك تولت شقيقتي الكبرى المتزوجة إرضاعي، إلى أن استطاع أبي تدبير أمره، واستأجر ليّ المرضعات”.
كانت الأسرة تتكون من 5 شقيقات متزوجات، وشقيقين: الأكبر روفائيل، ويليه شوقي. عين الأكبر موظفًا في وزارة المالية في دمنهور، فانتقل من الصعيد إلى المدينة الجديدة في الوجه البحري، ومعه زوجته وشقيقه شوقي والطفل الصغير “نظير”، لترعاه زوجة الأخ.
دخل “نظير” مدرسة الأقباط الابتدائية بدمنهور، ولفت الأنظار بتفوقه، وقوة ذاكرته، وقدرته على الحفظ والتعبير، وكان ترتيبه الأول دائمًا.
ولع القراءة
يقول البابا: كانت في بيتنا مكتبة كبيرة، وكان والدي مدمنًا للقراءة، وتأثرت به فأصبحت أنا أيضًا مدمنًا للقراءة، وبقيت على ذلك بعد أن تنقلت مع شقيقي عادل.
حفظ 10 آلاف بيت من الشعر، وكان من بينها ديوان قرأه سنة 1939
بعد سنوات انتقل الأخ للعمل في بنها، فالتحق “نظير” بمدرسة الأمريكان ببنها، ثم انتقلت الأسرة مرة ثالثة إلى القاهرة حيث وصل الأخ الأكبر إلى وظيفة مهمة فأصبح رئيس قسم بوزارة المالية، وسكن في شبرا.
ويقول البابا عن هذه الفترة: عاشت في أجواء ثورة 1919، المسيحيون والمسلمون وحدة واحدة.
وفي القاهرة تعرف نظير جيد على حياة العاصمة، عرف السياسة والأحزاب، ويقول عن ذلك: ولدت مع دستور 1923، ثم عرفت الطريق إلى الصحافة، والجمعيات، والتقيت بمدرسين أثروا في تفكيري في فترة التكوين في مدرسة الإيمان الثانوية بشبرا، وفي هذه الفترة ظهرت مواهبي في حفظ الشعر، وبدأت أجرب نظم الشعر أيضًا، وازدادت فيّ القدرة على القراءة لساعات طويلة دون كلل، كما تعمقت فيّ الرغبة في أن أجلس مع من هم أكبر سنًّا مني، وأدخل معهم في حوارات وأتعلم منها، وأهتم بحفظ خطب الزعيم مكرم عبيد، ومرافعاته الشهيرة في المحاكم وكانت مرافعاته أدبًا رفيعًا.
كان يؤجل طعام العشاء الخاص به لكي يتناول السحور مع جنوده
في السنة الرابعة في المدرسة الثانوية حفظ 10 آلاف بيت من الشعر، وكان من بينها ديوان قرأه سنة 1939، بعنوان: دموع الشعراء على سعد زغلول، يضم قصائد رثاء لسعد زغلول.
قالوا: دهت مصر دهياء فقلت
لهم هل غُيض النيل أم زُلزل الهرم؟
قالوا: أشد وأدهى قلت ويحكم
إذن فقد مات سعد وانطوى العلم
دراسة التاريخ
بعد التوجيهية بتفوق اختار نظير جيد أن يدخل كلية الآداب، ولأنه يحب دراسة التاريخ، ويعرف أسماء مشهورة من أساتذة التاريخ في الكلية، فقد اختار قسم التاريخ، ولفت أنظار الأساتذة الكبار بقدرته على إعداد بحوث تاريخية ممتازة، تتضمن تحليلات خاصة به.
يقول البابا: حين جاء وقت الخدمة العسكرية التحقت بكلية ضباط الاحتياط.. قبلها كنت قد التحقت بالقوات المسلحة في التدريب العسكري متطوعًا لمدة 3 سنوات، وكنت أول الخريجين من ضباط مدرسة المشاة 1947.
ويضيف: كان قائد الجيش الاحتياطي القائمقام محمد بك بهجت، وكان رئيس مدرسة المشاة ضابط يُدعى الأرناؤوطي، وفي شهر رمضان كنت أنا الذي أشرف على إعداد الإفطار والسحور للطلبة المسلمين.
وفي حرب فلسطين عام 1948، شارك نظير كضابط مقاتل
ويذكر محمد سعيد زايد، المشرف على البرامج العسكرية في الإذاعة، أيامه مع الضابط نظير جيد، يقول: إنه لا ينسى كيف كان يؤجل طعام العشاء الخاص به لكي يتناول السحور مع جنوده، وكيف كان يهتم بزيادة الوجبات في شهر رمضان ويحتفل له معهم.. وأنا الذي كنت أوقظهم في السحور.
ويذكر “نظير جديد” أن الطلبة احتجوا يومًا على بعض الأمور فجاء محمد بك بهجت، وقال لهم كلامًا قاسيًا، ثم كان لابد أن يتكلم أحد الضباط المحتجين ليعرض مطالبهم فاختاروني للقيام بهذه المهمة، وبدأت كلمتي بأن قلت: إن أعظم ما تعلمناه في العسكرية هو الطاعة وبدونها لا يكون الجيش جيشًا، فانبسطت أسارير محمد بك بهجت، وهز رأسه، وقال: تمام.. تمام.
انتاب زملائي ذهول وحسبوا أني تخليت عنهم.. وقال لي محمد بك بهجت:
-أكمل يا ابني..
وأكملت فقلت:
-يا سعادة القائد، لا جيش دون طاعة، ولذلك من الغريب أن يصدر جلالة الملك أمرًا للجيش فلا تطيعونه ولا تنفذونه.
وظهر الغضب على محمد بك بهجت، وقال:
-ماذا تقول؟
-قلت:
-لقد صدر مرسومًا ملكيًا بحقوقنا ولم ينفذ.
ولم يقل “بهجت” كلمة، وانتهى الموقف، ونفذ مطالبنا لأنها كانت عادلة.
حرب فلسطين
وفي حرب فلسطين عام 1948، شارك نظير كضابط مقاتل.. وعاش في الخنادق مع الضباط والجنود.. وواجه العصابات الإسرائيلية: أراجون والهاجاناه وعرف الكثير عنها، ودرس الأسلوب الإسرائيلي في القتال، وطريقة الإسرائيلين في التفكير.
خرج ولم يعد
بدأ الجميع يلاحظون أن نظير يقضي إجازات الصيف في أحد الأديرة، ويقول لمن يسأله: إنه يجد الراحة في الخلوة الروحية والتأمل واكتشاف الذات.
بعد حصوله على ليسانس الآداب سنة 1947 اشتغل بالتدريس، عمل مدرسًا للغة العربية في مدرسة إنجليزية لطلبة السنة النهائية من المرحلة الثانوية، وفي الوقت نفسه كان يعلم اللغة الإنجليزية لتلاميذ مدرسة ابتدائية، ثم التحق بوظيفة مدرس في وزارة التربية والتعليم في إحدى مدارس بنها.
“نحن نعطي الله فضلات القلب والوقت، والله يريد الوقت كله.. والقلب كله”.. هكذا اكتشف في نفسه شعورًا غريبًا.
تفرغ نظير جيد للخدمة في بيت مدارس الأحد بالجيزة، والإشراف على الملجأ التابع لمدارس الأحد أيضًا، وكان مشهورًا عنه في هذه الفترة أنه عدو لشيطان اسمه “شيطان الرصيد”، كان يقول دائمًا: إن الناس يحرصون على الاكتناز، ويريدون تكوين رصيد، ويفرحون كلما ازداد هذا الرصيد، بينما هذا الرصيد شيطان، لأنه يمنع المال والخير عن مستحقيه.
وبدأ شقيقاه يلاحظان بعد ذلك، أن سلوك شقيقهما يتغير تدريجيًا.. بدأ يقتصد في طعامه، ويتخلى عن الزينة والملابس الأنيقة، ويقرأ كثيرًا في الكتب الدينية.
يقول عن ذه الفترة: “كان يذهب كل واحد إلى خاصته.. أما أنا فأذهب إلى حجرتي التي كانت أشبه بالقلاية (الخلوة التي يعيش فيها الرهبان)”.
وفيما دخل شقيقه “شوقي” في سلك الكنيسة، وأصبح القمص بطرس جيد.
أصبح نظير جيد، ولنشاطه الملحوظ في مجالات عديدة، سكرتيرًا للجنة الدائمة لمدارس الأحد، ورئيس تحرير مجلة مدارس الأحد.
وجاء صباح حمل فيه نظير جيد حقيبته، وكتبه وخرج من البيت إلى الدير.. وكان ذلك يوم 18 يوليو 1945.
وعرف أشقاؤه أنه لن يرجه إلى دنياهم أبدًا..