فور الإعلان عن تأسيسه تبدت في البيئة العامة تساؤلات مشروعة عن “اتحاد القبائل العربية”، حقيقته ودواعيه، وما قد يصيب الشرعية الدستورية من شروخ، ويحيق بالمستقبل من مخاطر.
بفوائض القلق الزائد جرى التساؤل، عما إذا كان ممكنا استنساخ تجربة “حميدتي” السودانية المريرة؟
كان ذلك سؤالا في غير موضعه بالنظر إلى مستويات التجانس الاجتماعي العالية في مصر، التي تستعصي على الحروب الأهلية، غير أنه عكس بالوقت نفسه قدر القلق العام، الذي أثاره تصريحا متفلتا وصف ذلك الاتحاد القبائلي، بأنه “فصيل من القوات المسلحة”!
رغم النفي من ذات المصدر، أن يكون ذلك صحيحا، لكن صداه عمق المخاوف المشروعة.
يستحيل تاريخيا ومجتمعيا في دولة مركزية كمصر، أن تنشأ ميليشيات مسلحة، كأنها “دولة موازية”، فما معنى اللعب بالنار؟!
لا بد من إيضاحات من سلطات الدولة نفسها، أن يخضع المشروع كله لتدقيق دستوري وقانوني وسياسي، قبل أن تداهمنا أخطاره.
الفكرة كلها تناقض الالتزام الدستوري بالتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
الدولة المدنية الحديثة لا دولة القبائل والعشائر.
لم يكن “حميدتي” ضابطا في الجيش السوداني، ولا تلقى تعليما، يعتد به، فهو تاجر “إبل” في المنطقة الحدودية مع مصر وليبيا وتشاد، تولى تأمين قوافل وفرض إتاوات.
اكتسب صيته من الدور الذي لعبه لصالح نظام الرئيس “عمر البشير” في حرب دارفور.
منحه “البشير” رتبة الفريق معتبرا قوات الدعم السريع، التي أنشئت بقيادته عام (2013)، جزءا من القوات المسلحة السودانية.
على خلفية حرب دارفور والمجازر، التي تورطت فيها أطراف عديدة بينها قوات “حميدتي”، أخضع “البشير” للملاحقة الجنائية الدولية، غير أنه مضى في رهانه إلى آخر أيامه في السلطة مطلقا على “حميدتي” اسم “حمايتي”.
كان ذلك وهما كبيرا دفع ثمنه بعد ست سنوات، عندما انقلب عليه في أتون الثورة السودانية، قبل أن ينقلب على الثورة نفسها.
وصلت المأساة ذروتها بحرب أهلية مدمرة في السودان، نالت من أمنه واستقراره ومستقبله.
المقاربة السودانية غير ممكنة في مصر، لكن التفكير بالمنهج القبائلي يفضي إلى أوخم العواقب.
بمفارقات المواقيت ظهرت على السطح تجربة عربية ثانية، خطيرة ومنذرة في رسائلها.
في (20) إبريل الماضي، أعلنت مجموعات “أمازيغية” انفصالية من نيويورك “دولة القبائل”، بذريعة الاضطهاد والتهميش في الجزائر واصفة جيش التحرير الوطني بـ “جيش الاحتلال الجزائري”!!
كان ذلك انقلابا على إرث ثورة المليون ونصف المليون شهيد، التي لعب فيها الأمازيغ دورا جوهريا في بطولاتها وتضحياتها.
كان مستلفتا أن أغلب الذين قادوا تجربة التعريب في الجزائر من أصل أمازيغي.
التفكير القبائلي خطر حقيقي على أي مستقبل.
لا دولة ولا ديمقراطية ولا حداثة ممكنة.
كانت تلك تجربة عربية ثانية تستحق التأمل في أسبابها ومواجهتها بلا إنكار؛ لتصحيح أوجه الخلل.
الوضع يختلف في مصر الموحدة تاريخيا والمتجانسة مجتمعيا، فما الحكمة من استدعاء التفكير القبائلي؟!
تحتفظ ذاكرة التاريخ، ما جرى في مؤتمر الحسنة خريف (1968).
في ذلك المؤتمر رفض الشيخ “سالم الهرش” باسم قبائل سيناء بوجود وزير الدفاع الإسرائيلي “موشي ديان”، تحريضه على طلب تدويل سيناء، ونزع مصريتها وإعلانها دولة مستقلة.
“سيناء مصرية وسوف تظل مصرية”، كما قال بشجاعة فائقة.
هناك فارق بين الدور الوطني المشهود لقبائل سيناء في حروب مصر كلها، بما فيها الحرب مع الإرهاب.. وبين إسناد أدوار تنظيمية لشخصيات بعينها، تتجاوز مهام مؤسسات الدولة، وتتغول عليها، كأنها “دولة موازية”.
الأول، لا يمكن تجاوزه في الحرب مع الإرهاب، التي لم يكن ممكنا كسبها دون أدوار لأهلها.
والثاني، أخطاره ماثلة في السياسات والتصرفات.
مصر دولة عريقة لا قبيلة وعشيرة.
من مفارقات التواريخ الدور الذي لعبته مصر في اليمن ستينيات القرن الماضي للانتقال إلى العصر، أو من القبيلة إلى الدولة، فإذا بها الآن تتورط عكسيا.
تجربة الرئيس اليمني الثالث “إبراهيم الحمدي”، تستحق أن نستعيدها حتى نحكم نظرتنا إلى مواطن الانزلاق.
إنها تجربة عربية ثالثة منذرة بدروسها ومآسيها.
عند منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان تحدي الدولة ضاغطا على أعصابه.
بدا أمامه الصدام محتما بين الدولة والقبيلة.. بين أن تلتحق اليمن بعصرها، أو أن تحتفظ ببنيتها التقليدية بعد ثورة، أطاحت حكما ينتسب إلى القرون الوسطى.
شهد من موقعه كقائد لقوات الصاعقة في عهد الرئيس الأول “عبد الله السلال” تراجيديات التاريخ وهى تتحرك، فقائد الثورة اليمنية قُتل قبل إعلان انتصارها، وتجربة الانتقال إلى القرن العشرين عسيرة ومكلفة.
ازعجته أن تضيع التضحيات سدى وأن تعود القوى التقليدية لحكم اليمن من جديد، أو أن تجد في الرئيس الثاني القاضي “عبد الله الإرياني” رجلها.
أطاح “الإرياني” في (١٣) يونيو (١٩٧٤)، وكان قد تجاوز بقليل الثلاثين من عمره.
شاءت مقادير “الحمدي”، أن يتوافق مشروعه في تحديث اليمن ووحدته، والمضي به قدما إلى العصور الحديثة مع أطروحات شاب يمنى آخر درس العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ينتمي إلى المشروع السياسي نفسه اسمه “عيسى سيف”.
كانت العاصمة المصرية ما زالت تحتفظ بذاكرتها الستينية، والطلاب اليمنيون الذين يتوافدون على جامعاتها، تسكنهم فكرة الالتحاق بالعصر ومظاهر الحياة الحديثة، تدعوهم لتغيير بلادهم التي سحقت روحها على مدى قرون، وعاشت في عزلة كاملة عن عالمها. في صدمة التجربة، توافرت لليمن أفضل نخبها السياسية والفكرية، وكان “عيسى” رائدا ملهما لأجيالها الجديدة.
عرفته ردهات جامعة القاهرة خطيبا مفوها وزعيما لطلابها اليمنيين، اعتاد المساجلة السياسية في شؤون العالم العربي وربطته صداقات عميقة داخل الحركة الطلابية من ذات التوجه ومن عمر أصغر، فقد دعته ظروفه للالتحاق بالجامعة في سن متأخرة نسبيا.
لعب أكثر الأدوار جوهرية في تأسيس “رابطة طلاب اليمن شمالا وجنوبا”، وانتخب أمينا عاما لـ “التنظيم الوحدوي” في عام (١٩٧٧)، وضم الرئيس إليه بعد حوارات مطولة بينهما.
تمازجت الأفكار والمصائر، وترسخت الاعتقادات في حتمية الوحدة التي تهددت بنيتها فيما بعد على نحو أهدر تضحيات، وقوض أحلاما.
فيما بعد بأسرع مما تصور أحد أجهض مشروع التحول إلى دولة حديثة.
في أكتوبر من العام نفسه اغتيل “الحمدي” في ظروف غامضة، وأعدم “سيف” بعده في أكتوبر التالي.
في واقعتي الاغتيال والاعدام يتردد اسم “على عبد الله صالح” في الروايات والتسريبات.
في الاغتيال الغامض للرئيس، عندما كان يغادر أحد البيوت حامت الاتهامات حول الرجل الذي خلفه على منصبه الرئاسي “أحمد الغشمي”، كأن لكل مسيح يهوذا يسلمه لمقاديره، فالعلاقات بينهما كانت قوية إلى أن جرى إغواء الأخير من القوى القبلية، والإقليمية التي سعى “الحمدي” إلى تقليص نفوذها.
في روايات متواترة، لكنها غير مؤكدة، فإن الذي أطلق الرصاص على الرئيس هو “على عبد الله صالح” الذى عينه “الغشمي” حاكما عسكريا على تعز ورفعه إلى رتبة رائد.
في التوقيت إشارة أخرى إلى أسرار اغتياله، فقد كان على موعد في اليوم التالي مع رئيس اليمن الجنوبي “سالم ربيع علي”؛ لبحث اتخاذ خطوات جديدة في الوحدة اليمنية، بعد أن شكلا معا مجلسا رئاسيا، ولم يكن ذلك مريحا لكثيرين في المنطقة.
بعد أقل من عام واحد جرى اغتيال آخر للرئيس الرابع “الغشمي” بحقيبة مفخخة دخل بها عليه مبعوث خاص للرئيس اليمني الجنوبي.
كانت واقعة الاغتيال فريدة في نوعها فلم يسبق لرئيس دولة أن اغتال آخر بالوسائل الدبلوماسية المفخخة. أراد “سالم” الانتقام لصديقه “الحمدي” فخسر حياته هو باغتيال آخر، لكن من رفاقه هذه المرة.
في العام التالي، جرت محاولة أطلق عليها “حركة ١٥ أكتوبر” لإطاحة “صالح”، شارك فيها عسكريون من أنصار “الحمدي”، ومدنيون من “التنظيم الوحدوي”.
نجحت الحركة في الساعات الأولى، قبل أن تجهضها تدخلات قبلية وإقليمية، هبت لإنقاذ رجلها الجديد الذي أعدم “سيف”، ورفاقه العسكريين والمدنيين على دفعتين.
في التراجيديا اليمنية ثورة لم تستوف مشروعها في الانتقال من القبيلة إلى الدولة، ومشروع الثورة الجديدة أطاحت واحدا من أكثر النظم السياسية استبدادا، وتغولا على حقوق مواطنيه، لكنها ظلت عالقة بين القبيلة والدولة.