“حضرة الدنيا، وبستان العالم، ومحشر الأمم، وكرسي الملك، تلوح العصور في جوه، وتزهر المدارس بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه، وقد مثل شاطئ بحر النيل نهر الجنة وموقع مياه السماء، ومررت حتى سكك المدينة تقضي بزحام المارة وأسواقها تزخر بالنعم”، مقولة فند فيها رائد علم الاجتماع ابن خلدون، في مبتدأ وصفه لسيرة مقامه في مصر، وتأثيرها على الجميع، ليتضح منها مدى تأثير “المحروسة” في نفوس ضيوفها.
“وصفه للقاهرة”
تبدو الشخصية المصرية غريبة في قوتها، مهما كان ضعف السيّاق السياسي الذي تعيش من خلاله، إن لها سياقها الخاص الذي تتمدد عبره، ومع نهايات القرن الـ19 كانت الهوية المصرية الوطنية بدأت في التبلور مع انتشار التعليم، وتحولت القاهرة والإسكندرية وبورسعيد إلى عواصم حضرية تستقطب نجوم الفكر والأدب والفن، القاهرة تحديدًا كانت أشبه بباريس في الشرق بصالوناتها الأدبية، والصحف المنتشرة، والأفندية المتعلمين الذين يناقشون أحوال البلاد، على المقاهي وفي مكاتب الدواوين الحكومية.
وفد الشوام بفرقهم المسرحية، التي قدمت نسخًا ممصرة من أشهر الروايات العالمية، ودخل فن السينما الوليد إلى البلاد، ليبزغ نجمه في نفس الوقت الذي انتشر فيه بأمريكا والغرب، صارت مصر التي تنتمي لسانًا للعرب ودينًا للإسلام، ولكن لها روحًا خاصة بها رغم ذلك لا تشبه أية دول عربية ولا إسلامية، بل هي مصر في ذاتها وفي شخصيتها التي فرضتها على كل من قدم إليها.
قوة الشخصية المصرية تبدو حتى عبر آثار تاريخها الغابر، وهو ما يظهر جليًا في التأثير الذي تتركه تماثيل حضارة مصر القديمة الجامدة في نفس من يراها، وكيف تشده إلى عالمها بسحر غريب، هذا السحر الذي جعل كثير من المستشرقين والغربيين يأتون إلى مصر كأنهم في حج مقدس إلى بلاد مغموسة بالشمس والفن والأصالة، وانتشرت مع بدايات القرن الـ20 ظاهرة “Egyptomania” إيجيبتومنيا، وتعني الهوس بالحضارة المصرية القديمة.
ولا يمكن قراءة الشخصية المصرية بعيدًا عما يمكن أن نسميه قوة التمصير، أليس غريبًا ألا يكتسب ابن خلدون مكانته إلا في مصر، التي اتخذها مقرًا ومقامًا، وأليس مثيرًا ألا يبرز جمال الدين الأفغاني إلا بعد هجرته إليها، ويكون منسوبًا إليها ثقافيًا وفكريا أكثر من نسبته لغيرها؟!.. أليست قوة التمصير تلك التي استوعبت كل من فر بهويته الشامية إليها من ظلم الأتراك، مثل: أديب إسحاق، وآل اليازجي، وجورجي زيدان، وشبلي شميل، وفرح أنطون، وأنطون الجميل، وبشارة وسليم تقلا، ممن اتسعت لهم مصر وتشربوا بروحها.
برزت تلك القوة أيضًا، فنًا وغناءً وإبداعًا في أسماء أخرى اتخذت مصر وطنًا ثانيًا، امتزجت بروح مصر وثقافتها ومعانيها، فبرزت في كل اتجاه ومن كل صوب ولون.
بوجوده في مصر استطاع ابن خلدون تأسيس مدرسة تخرج منها مجموعة من كبار المؤرخين الذين أخذوا العلم عنه
“ابن خلدون”
من تونس وجامعة الزيتونة جاء الفيلسوف ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون إلى القاهرة في القرن الـ8 الهجري، أسرته العاصمة المصرية بعلومها وأعلامها من المفكرين والفقهاء، وتلقاه المصريون بالعناية والإحسان والمحبة، وأصبح قاضي القضاة بها، يقول أبو المحاسن بن تغرى بردي: “واستوطن ابن خلدون – القاهرة وتصدر للإقراء بالجامع الأزهر مدة، واشتغل وأفاد”.
قابل ابن خلدون سلطان مصر في ذلك الوقت، الظاهر برقوق وقال عنه: “أبرّ مقامي، وآنس الغربة، ووفّر الجراية (الراتب) من صدقاته”.. وسرعان ما أصبحت له حلقة علمية بالأزهر، ليتلقاه الطلبة بحماسة ينهلون من علمه وحكمته، ثم تولى “مشيخة خانقاه بيبرس، أحد أشهر الخوانق الصوفية، ألف بها درة إنتاجه “مقدمة” ابن خلدون الشهيرة في علم الاجتماع، التي وصفها مؤرخ مصر الأشهر تقي الدين المقريزي بأنها “لم يُعمل عليها مثلها، وإنه لعزيز أن ينال مجتهد منالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم ونتيجة العقول السليمة والفهوم”.
بوجوده في مصر استطاع ابن خلدون تأسيس مدرسة تخرج منها مجموعة من كبار المؤرخين الذين أخذوا العلم عنه، لتتبلور معالم المدرسة التاريخية المصرية بنزعتها التفصيلية والتحليلية، وبدأت بالعالمين الكبيرين، المقريزي وابن حجر العسقلاني وتلامذتهما ابن تَغْرِي بَرْدِي والسخاوي والسيوطي وابن إياس.
ظل الاحتفاء بأعمال ابن خلدون لدى المصريين مستمرًا على السواء رسميًا وشعبيًا، وأرجع إليه طه حسين، الفضل في كون الآداب العربية أول من وضع الفلسفة الاجتماعية في قالب علمي.
ومن وقت لآخر كانت مصر تنظم أسبوعًا فكريًا يحتفي بآثار ابن خلدون الذي عشق مصر، ودفن في ترابها في المقابر الصوفية.
نشأ جمال الدين الأفغاني بكابول في أفغانستان لكن فكره انتشر وذاع صيته بعد قدومه إلى مصر التي لاقى فيها ترحابًا كبيرًا من أهلها
جمال الدين الأفغاني
نشأ جمال الدين الأفغاني بكابول في أفغانستان، لكن فكره انتشر وذاع صيته بعد قدومه إلى مصر التي لاقى فيها ترحابًا كبيرًا من أهلها الذين التفوا حوله، وأصبح فيها منبرًا للفكر، وتتلمذ على يديه كبار علمائها ومفكريها وأبرزهم الإمام محمد عبده، الذي عمل معه بجريدة “العروة الوثقى”.
اتسم بالجرأة والتحرر، وآمن بضرورة تثقيف الشعوب ورفع الوعي لدى الناس، عبر التعليم والصحافة، وكانت فكرته عن “المستبد العادل” جوهر مشروع محمد عبده الإصلاحي، وأراد تهذيب علوم الدين وتنقيح المكتبة الإسلامية وتقديم مصنفات سهلة الفهم لتحرير الأمة من أساليب التعليم الموروثة التي لا طائل من ورائها، وكان هدفه من وراء ذلك هو النهوض بالأمة الإسلامية.
وفي كتابه “الثائر الإسلامي: جمال الدين الأفغاني” تحدث محمد عبده عن أثر كتاباته الجريئة التي أيقظت مشاعر وعقول المصريين لحقوقهم المغتصبة وحرياتهم المسلوبة، واعتبر فكره شرارة للثورة العرابية في مصر، وثورة المهدي في السودان، وغيرهما من الثورات في ليبيا والمغرب وبلاد الشام، بكل ما حملته تلك الثورات من رياح تغيير على تلك الشعوب.
في عام 1890 أسس نجيب متري وجورجي زيدان دار المعارف التي كانت رائدة في نشر الكتب والمطبوعات المصرية
الشوام والصحافة المصرية
في القرن الـ19 ومع الجمود الذي أسبغته الدولة العثمانية على الحواضر العربية التي تألقت في عهد الإسلام، مثل: بغداد، ودمشق، بدت مصر الذي أخرجها عن جمودها تمرد محمد علي ورغبته في إنشاء بلد على النموذج الأوروبي، تحولت معه مصر إلى قبلة للمبدعين العرب، وشهدت هجرة إبداعية ممتدة من منتصف القرن الـ19 وحتى بدايات القرن الـ20، وشملت تلك الهجرة مبدعين في مجالات عدة أهمها الصحافة، والأدب، والتمثيل، والغناء.
كانت أول صحيفة بمصر هي “الوقائع المصرية” التي صدر أول أعدادها عام 1821، كجريدة رسمية للبلاد، إلا أن الشوام الوافدين على مصر نجحوا في تأسيس الصحافة بمصر وأخذها إلى بعد آخر، وكان لويس صابونجي القادم من لبنان أول من يؤسس صحيفة بمصر هي “النحلة الحرة” عام 1871، بعد أن صادرت السلطات العثمانية صحيفته “النحلة” في بيروت.
أما مطبعة ودار الأهرام فتأسست بداية في الإسكندرية على يد الأخوين بشارة وسليم تقلا، وانتقلت إلى القاهرة، ومما يبدو جليًا انبهارهما بالحضارة المصرية القديمة التي اتخذا إحدى أشهر أيقوناتها اسمًا وشعارًا لصحيفتهما، وأصبحت مطبعة الأهرام واحدة من أكبر مطابع الشرق الأوسط، وكان لجريدتها مكاتب كثيرة حول العالم لتغطية الأخبار على غرار الصحف العالمية الكبرى.
وشارك جبرائيل تقلا في تأسيس نقابة الصحفيين عام 1941، حتى تعاقدت الدار مع الصحفي محمد حسنين هيكل عام 1957 لرئاسة تحرير الجريدة ومجلة آخر ساعة، قبل أن يتم تأميمها عام 1960.
في عام 1890 أسس نجيب متري، وجورجي زيدان دار المعارف، التي كانت رائدة في نشر الكتب والمطبوعات المصرية، ثم انفصل زيدان ليؤسس دار الهلال عام 1892، التي أصدرت مجلة المصور أحد أعرق المجلات العربية، ومجلة حواء أول مجلة نسائية عربية، ومجلة سمير، وكتاب الهلال الذي أسرى الثقافة العربية بأعمال لكبار الكتاب والمفكرين المصريين والعرب.
وأسس يعقوب صروف مجلة “المقتطف”، ورزاليوسف التي عانت خلال طفولتها بلبنان، حتى جاءت إلى مصر لتصبح ممثلة مسرحية لقبت بسارة برنار الشرق، وأصدرت مجلة “روزاليوسف” عام 1925، التي أصبحت أكبر مجلة سياسية في مصر والوطن العربية وصارت مدرسة صحفية متفردة تخرج فيها عددًا كبيرًا من رواد الصحافة المصرية.
أدى التأميم الذي قادته ثورة يوليو 1952 إلى إنهاء دور الشوام في الصحافة المصرية وهاجر معظمهم في إثر ذلك إلى الخارج
“هجرة المبدعين”
لكن أدى التأميم الذي قادته ثورة يوليو 1952 إلى إنهاء دور الشوام في الصحافة المصرية، وهاجر معظمهم في إثر ذلك إلى الخارج.
وكان عبد الرحمن الكواكبي المؤلف صاحب كتاب “طبائع الاستبداد”، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، ورغم تنقله بين العديد من البلدان غلا أن المناخ الحر في مصر سمح له بنشر فكره بين العديد من المريدين.
وشكلت الهجرات الإبداعية مجال التمثيل أيضا حيث كانت المنتجة اللبنانية ىسيا داغر من رواد السينما المصرية، بدأت في التمثيل عبر المشاركة في بطولة فيل “ليلى” لعزيزة أمير أول أفلام السينما الصامته في مصر عام 1927، لتؤسس لاحقا، أولى شركات الإنتاج السينمائي في مصر والعالم العربي وهي “شركة لوتس فيلم” لإنتاج وتوزيع الأفلام، ومن أشهر أعمالها “صلاح الدين الأيوبي”، دفعت خلال مسيرتها بمسيرة عدد من المخرجين الموهوبين مثل هنري بركات، وكمال الشيخ وحلمي رفلة وغيرهم.
أما المسرح فبدأت حكاياته في مصر مع فرقة يعقوب صنوع وسليم النقاش، وجورج ابيض، وروزاليوسف، وغيرها، حتى في شارع عماد الدين كانت النجمة أنذاك بديعة مصابني.
وخلال سنوات القرن الـ20 أصبحت مصر هوليود الشرق، التي إذا أراد فنان أن يشتهر ويبرز ينطلق منها فجائها من الدروز فريد الأطرش وشقيقته أسمهان، وصباح، ووردة الجزائرية، وغيرهم، ليقدموا أعمالاً خالدة نسى معها المشاهد الحدود والجنسيات، ليحسبوا دائمًا على الفن المصري.